في عُمر كُلٍّ منّا ذكريات تحكيها له أمّه أو أبوه بأنّهما بعد ولادته بأشهر معينة كانا حريصيْن على أن يخطو خطواته الأولى على مرأى ومتابعةٍ منهما ولا يخلو الأمر من أراجيزَ أو أغنياتٍ كانا يردّدانها منفرديْن أو مجتمعيْن ليُحفّزا هذا الولد أو تلك البنت على السير والمَشي،وأذكرُ بأنّ هذه القضيّة كانت مهمّة جدّاً عندَ الأمهات والآباء خاصة مع المولود الأول الذي كلما تقدّم في سلوكيّات الإنسان الطبيعي زادَت سعادة الوالدين
وكأنهما يُقدّمان للوجود مُنتَجاً جديداً أكثر نضارة وأجود بدَناً وأسرع تعلّماً وأجمل وجهاً ..
عندما تسمعُ الأم تقول لابنها الصغير وهي تُعطيه أصبعاً من أصابع يدها يقبض عليه بكفّه الصغيرة والصغيرة جدّا "تاتا .. تاتا" فاعلم بأنّ هذه بداية الدرس العملي للتدريب على استخدام القدمين الناعمتين في المشي تمهيداً لمشوارٍ طويل سيسير فيه هذا الكائن الحيّ إن كتَبَ الله له الحياة والعمر،ولعلّ هذا الحرف "التّاء" الذي يمتدّ بالحرف الذي يجاوره "الألف" له وقعُ السّحر على كلّ مشاعر الأطفال حديثي العهد بالوقوف والقيام ومحاولة السّير،فابتسامة الطفل المشرقة وضحكاته العفوية عندما يسمع "تاتا .. تاتا" لا تخفى على أحد ولا يمكنُ أن ينفكّ من الإعجاب بها أحد ..
من هذين الحرفين تذكّرتُ كلّ الذي مَرّ على الأطفال من محاولة وتعثّر ووقوفٍ وسقوط وفشلٍ ونجاح وتجارب لا يملّون ولا يكلّون من تكرارها والمغامرة بها مهما حصل ومهما تعدّدت النّكبات،وتذكّرتُ كذلك كيفَ هي الكلماتُ النّاعمة والدّالة على الحالِ موغلةٌ في ثقافة الإنسانيّة وتكوينها واعتقاداتها،ولذلك عندما سمعتُ بخبر سعيدٍ أفصحتْ عنه الشركة الهندية الواعدة "تاتا" بأنها أطلقت مشروعاً جديداً أسمته "البيوت السعيدة" تسعى من خلاله لتوفير قيمة أقل ومنافسة جدّا للفقراء وذوي الدخل المحدود لبناء المساكن يتراوح بين ثمانية آلاف إلى أربعة عشر ألف دولار عادَتْ بيَ الذكرى إلى "تاتا .. تاتا" الأرجوزة ..
وتوقّعتُ كما توقّع غيري بأنّ هذه الشركة في أساس قيامها تهدف لأن يخطو الفقير خطواته الأولى نحوَ الحياة بشيء من الإعانة والأراجيز المُحفّزة والدّاعمة له بأنّ توفّرَ له أرخصَ سيارة في العالم واليوم أرخص منزلٍ في العالم،ولا شكّ بأنّ هذه الثقة في النفس التي أبدتها شركة "تاتا" تجعل من فواتح الخير ونوافذ الفرَج معقولةً وممكنة للفقراء والمعوزين في العالم بأسره وليس الأمر معتمداً على غلاء الموادّ الأولية وارتفاع أسعار الأيدي العاملة كما يصوّر لنا كثيرٌ من الذين لا يعنيهم فقيرٌ يسكنُ أو مسكينٌ يحلم بدرّاجة ..
كيفَ استطاعت "تاتا" أن تنفرد بهذا الجهد في مجال المال والأعمال الذي يعجّ بعبادة الأرباح وحبّ الكسب وشُحّ الإنفاق وقلّة النظر للاجتماعيات والنفسيات وأحوال الشعوب والطبقة الكادحة من الناس؟ وكيف وصلتْ "تاتا" لهذه الإمكانية وسط أنفاق الأزمة المالية الضيقة وتسارع الاستثمارات العملاقة فيما لا يفيد طاعناً في السنّ يفكر في توفير خبز لأبنائه أو أرملة مات عنها عائلها وتحلم بغرفة من خشب أو صفيحٍ تحميها من انهيارات أرضية أو فيضاناتٍ مائيّة؟ وكيفَ سلِمتْ من أعداء الإنسانية والمشاريع الفاعلة؟
وما يجمعُ بين لغات الشعوب وألسنة العالم التي تُعدّ بعشرات آلاف اللهجات هو الشعور ووصول المعنى فلا تعني الحروف شيئاً ما لم تحمل في بطنها مضموناً يشترك فيه الصيني مع البلغاري والهندي مع التنزاني والعربي مع الاسترالي،ويسترك فيه من يملك قصوراً في "نيس" مع من يزرع القطن بصعيد مصر،ويجتمع فيه من يدير شركة عملاقة لصناعة السيارات مثل "جنرال موتورز" مع من يبيعُ أوراق اليانصيب في أزقّة دمشق وشوارع سريلانكا،لذلك فعودتهم لتعلّم الخطوة الأولى نحو حياة أفضل ومعيشة مُثلى بصيحاتٍ تتعالى من الجميع لهم "تاتا .. تاتا" أمرٌ في غاية الأهمية لتستقيم المعادلة ..
فينا شيءٌ من استعجالٍ دوماً أكثر من المعدّل الطبيعي لدى أصحاب الخطط والتسيير في العالم،ونحنُ دوماً نقفزُ دونَ لياقة بدنية عالية ونثِبُ دونَ زانةٍ ولا ميزان ونشطحُ عالياً بغير ترتيب ولا تنسيق ولا تدرّج عادي في مراحل النمّو والتطوّر،فلا هي كلمة "تاتا .. تاتا" راقَتْ لنا وأغرتنا بأن ننتظر حتى تثبتَ الأقدام على سطح معيشة اقتصاديّة بسيطة ثمّ عاديّة ثمّ متحسّنة ثمّ مرضية ثمّ مرفّهة،وإنما أعجبتنا كلمة بعض الآباء والأمهات المتعجّلين لجريِ أبنائهم الصغار قبل أن يمشوا ويقولون لهم "هُبّا .. هُبّا" مباشرة دونَ أن يمرّوا ولو مرور الكرام على "تاتا .. تاتا" النّمطُ السائد في مراحل النّمو البشري ..
والقواعد والنظريات المسلّمُ بها في كلّ الأيدلوجيّات والثقافات والعقول تقول بأنّ من لم يبدأ من نقطةٍ معيّنة لا يصلُ إلى نقطةٍ معيّنة أخرى،وتقول أيضاً بأنّ مراعاة الأحوال والأوضاع والقدرات الماليّة والجسمانيّة والمقدّرات الطبيعيّة والثروات المتاحة والممكنة وعدد السكان وديانتهم ومهاراتهم وخرائط تكوينهم البيولوجيّة والفيسيولوجيّة هي أولى الأرضيات الصّلبة التي منها ينطلقُ أطفالُ الشركات وصغار المشروعات وفسائل البنوك الداعمة للفقراء والمحتاجين في العالم،ومن الممكن للجميع أن يَحْيَى حياة كريمة على هذه الكوكب المليء بالعجائب ولكن بنفس الطريقة التي يتعلّمُ بها أطفالنا المَشي "تاتا .. تاتا" ..
للهنود الأعزاء نظرةٌ ثاقبةٌ في سلوكيّات أطفالهم فهم يتميزون بطبيعة عاطفية حنونة رغم كثرة عددهم وتزايد الشريحة الفقيرة والمقهورة في وطنهم وبذلك استطاع روادٌ منهم أن يُنشِئوا للفقراء مَصْرفاً يُقرِضهم ويرعى أحلامهم الصغيرة ويُقيموا شركاتٍ على غرار "تاتا" تُعنى باحتياجاتهم التي تُشعرهم بأنهم مثلَ الأغنياء يحقّ لهم أن يحظوا بمأوى ومركب وملبس،والأمرُ بالنسبة لهؤلاء السائرون في دربٍ بطيء وعبقري في نفس الوقت قائمٌ على أن طريقَ الألف الميل يبدأ بخطوة واحدةٍ لا أكثر هي "تاتا .. تاتا" بدون مَلَل أو تذمّر ..
وكما أنّ أكلَ التّمر "حبّة .. حبّة" فإنّ الانطلاق نحوَ إغناء المُتعفّفين عن السؤال يجبُ أن يكونَ "تاتا .. تاتا" ومرحلةً مرحلة وشيئاً فما لا يُدرَكُ جُلّه لا يُترَكُ كُلّه،ولو اقتنع أهلُ المال والأعمال في منطقتنا الإسلامية والعربية بمثل هذه النظريات التي لا تعرفُ مستحيلاً لأحلام الضعفاء لوجدنا ألف شركة تبني لمن راتبه لا يتجاوز الخمسمائة دولار في الشهر بيتاً يكفيه وألف شركة أخرى تضخّ في الأسواق سياراتٍ لا يتعدّى ثمنُها خمسة آلاف دولار يستطيع نفس الشخص براتبه الضعيف هذا أن يدّخرها لمدة عامين على الأقل ..
ليست مثاليّة ولا من قبيل التنظير أن يوجد في العالم من يستطيعُ ابتكار ما يناسب كلّ الرواتب وكلّ الطبقات وكلّ الشرائح وإلا فمن أينَ تسنّى لبلاد الهند أن يكونَ فيها من يفكّر في الفقراء ويجدُ في تحقيق أحلامهم تحقيقاً لحلمٍ مزدوج بالنسبة له يشملُ قضاء حوائجهم وأرباحاً ماليّة قد تتخطّى أرباح "تويوتا" اليابانية ..
التعليقات (0)