الزحف الثوري بات اليوم حقيقة ماثلة للعيان يطال كلّ خريطة الوطن العربي دون استثناء وإن بدا أثره في تحقيق التغيير المنشود متفاوتا من بلد لآخر وفقا لإيقاع تحكمه خصوصية البيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يتحرّك في إطارها...لكنه إيقاع يثأر لـ"محمود درويش":
"- سيدتي هل أنت عربية؟
-هذا سؤال لا يُسأل.ولكنك لم تقل لي:ما هو الوطن؟..
-أعني الأرض والكرامة الإنسانية والحقوق
-لا ليس لي وطن..."
لعله الإيقاع ذاته يثأر لأبي العلاء المعرّي:
"يسوسون الأمور بغير عقل////فينفذ أمرهم ويُقال ساسهْ
فأفّ من الحياة وأفّ منّي ////ومن زمن رئاسته خساسهْ"...
لئن نال الشباب،ولا يزال، قصب السبق وتقدُّمِ الموقع في إشعال شرارة الثورة وتأجيج لهيبها نسفا للفاسد والسائد والبائد،فإنّ اللافت في هذا الحراك الشبابي الثوري إثباته لانسجام خلاق في التوجه والفعل بين مكونات ذات الفتوّة الثائرة بما تعني من تنوع في النوع الاجتماعي(ذكر وأنثى) وفي المستوى التعليمي والوظيفي والفئوي والديني...شباب انصهر في عمق أوجاع وطنه وتوحّد من أجل تطلّعات مشتركة يختزلها تصميم على التغيير الجذري ورفض لقبول وعود الترقيع والترميم والإصلاح التي تروم مغازلته أو خداعه من هنا وهناك...وهو في ذات التوجه شباب الزحف الهادر لا يهتمّ بتحديد النوع الاجتماعي الأوفر حضورا والأشدّ وقعا في صياغة منعرجه التاريخي والدفع به إلى الأفق الحضاري الرحب...إنه شباب،بنصفيه "الناعم" و"الخشن"،غير محكوم بذات هاجس الأفضلية لذات النوع الاجتماعي أو ذاك...الأفضلية للفعل المشترك في حشد من الجنسين "كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا"...إنها لبديعة تلك اللوحة الفنية التي رسمها الواقع الثوري في ساحة النضال من أجل الحرية والكرامة تتشابك فيها يد شاب بفتاة.ا..
ما من شكّ أنّ المشاركة النسوية في إنجاز التغيير الجذري وصنع الربيع العربي تدبيرا واندفاعا وصمودا وتضحية هي مشاركة على درجة متقدمة من الفعل المؤثر بما يستوجب التوقّف عندها استجلاء لخفاياها وأسرارها،إذ قد تبدو من منظور هيمنة "الفحولة العربية" عصية عن التفسير التقليدي أو حتى الأكاديمي المعتمد لأدوات بحث يراوغها،حتما، واقع جديد غير مألوف في سفر التاريخ الغابر...إنها مشاركة تفوق حجما ونتائج افتراضنا لعطاء مؤهلات "الحريم" التي اعتدنا على تشخيصها في المرأة اعتمادا على طمس متعمد لخصوبة الأنثى العربية ،إنها مكانة ندّعي أنها منقوصة تشكو الحيف والهيمنة الذكورية وتحول دون تطوّرها عقبات كأداء موروثة وطارئة...
ذات خصوبةِ أنثى عربية في حداثتها تضرب موعدا مع التاريخ مجدا تحبل به...
إنّ حظوظ المرأة العربية مساواة وتقدّما وحرية متفاوتة من بلد عربي إلى آخر،ولعله من الإنصاف القول أنّ المرأة التونسية تتصدّر مرتبة الريادة العربية من حيث فرص التطوير والتحديث التي أتيحت لها منذ سنة 1957 بفضل "مجلة الأحوال الشخصية" التي أقدم على سنها الزعيم الحبيب بورقيبة،وقد واكبت تلك الجرأة التشريعية المنتصرة للمرأة حركة توعوية استهدفت المجتمع بكلّ مكوناته قبل أن تندرج ضمن حركة نسوية تحافظ على المكاسب الحداثية وتناضل من أجل تطويرها...لعله من ذات النموذج التونسي الذي انتصر للمرأة منذ أكثر من نصف قرن،نجد تفسيرا لاندلاع شرارة ثورة الحداثة والنهضة العربية من ذات البلد العربي الذي بكّر في إدماج النوع الاجتماعي الأنثوي ضمن تركيبة مجتمعه لينصهر انصهارا تاما في نسيج ذات شعب تعاطى مع واقعه بمُرّه وحلوه متكاتفا متضامنا إلى أن بلغ به جحيم الاستبداد والفساد درجة لم يعد قادرا على تحمّلها،وإن لم تكن ذات الحال أكثر إيذاء وإساءة من أوضاع عربية أخرى متردية وبائسة وقاتمة...المفارقة أنّ الشباب،دون فرز نوعي،تحوّل إلى مهيمن على المجتمع ليُطيح بهيمنة الطاغية والطغمة الحاكمة في حركة تضامن رائعة ذابت فيها فوارق المشارب والأهواء والتحم فيها عطاء الفتاة بالشاب دون عقدة أفضلية...المشهد يبدو شبيها في مصر ميدان التحرير والثورة تلبس فستان عرسها،عرس حافل بحشود مليونية من الشباب،حافل بهيمنة الرجال كما الإناث...وهل كان للثورة أن تكون دون لمسة حسان،وهل لثورة تنشد الحرية والكرامة من معنى ومن نكهة إن غيّبت نصف المجتمع في شبابه؟..
المدّ الثوري العربي ينشد نهضة وحداثة،والمرأة العربية تبدو أكثر تصميما على الانخراط في ذات مدّ قدرها الواعد لأنها،ببساطة،الأكثر تضررا من عصور الاستبداد والفساد والجاهلية وتعدّد الزوجات والجواري في قصور رجال قهرهم السلطان...ألسنا اليوم نصغي لصوتها يعلو على غير المعتاد في ليبيا واليمن والمغرب والعراق... وكذا السعودية (حيث ما تزال توأد الأنثى قبل أن تقود يوما سيارة...)
المرأة العربية لا تسمح اليوم لزوجها أن تكون له عشيقة سواها غير تلك التي اسمها الثورة،لا تريد رجلا لا يثأر لعِرْض الوطن قبل أن يثأر لعِرْضها...المرأة العربية تريد لنفسها،مع زوجها الثائر،عشيقا اسمه الوطن الحرّ تصدقه حبا في ربيع حياتها من أجل أن تخلص أكثر لزوجها وأهلها وإبداعها...الرجل والمرأة مساواة في الحقوق والواجبات كما صاغتها ثورة الحداثة العربية...
ليس صحيحا أنّ المرأة مغيَّبة زمن القحط العربي،فقد ثبت أنها تسكن ضلوع الطاغية زين العابدين بن علي،بل كانت ذات "ليلى الطرابلسي" تُبحر بالحاكم بأمره في بحر نزوات فجورها وتُعرّي وضاعته في خدر نهمها بسلطة المجون والفسق والاستهتار بالكرامة الإنسانية...دكتاتورية المرأة العربية في الزمن الرديء ليست أقلّ قبحا من دكتاتورية رجل مخدوع خان الوطن فخانته زوجته...
الثورة،زمن الهزل،دعابة تُشدّد على أنوثتها العبارة بمصطلح جديد يقول:"الثورة أنثى الثور"...وهي ليست مرادفة للبقرة لأنّ البقرة تُحلب والثورة تتغذى من لبن الثائرين والثائرات...
التعليقات (0)