تدلنا تحولات الواقع الراهن على عدة إشارات استقرائية، يحسن التقاطها ونحن نحاول الإجابة عن سؤال التغيير الإصلاحي في الواقع الراهن، وهذه الإشارات الاستقرائية، هي في تقديري ذات أهمية في الإجابة عن سؤال معقد ومركب وشائك من مثيل سؤال التغيير الإصلاحي، وذلك للاعتبارات التالية:
1. هي ذات أهمية لاعتبار أن الواقع جزء أساسي في تنزيل مقتضيات الشرع مراعاة للمقاصد الكلية التي جاء ليحفظها ويحميها، ذلك أن سبر أغواره هو ليس من قبيل ممارسة الرياضة الذهنية، في حفظ أقوال علماء أو في استدعاء آيات كريمة من القرآن الكريم أو أحاديث صحيحة من السنة النبوية، بل في تنزيل محكم وحكيم لمقتضيات واجب الحال مع استحضار المآل،
2. هي ذات أهمية لاعتبار المسؤولية الجسيمة التي ينبغي التسلح بها أولا في مهمة الجواب عن إشكالات التغيير في الواقع الراهن، إذ أن عملية التنزيل عليها أن تتسلح بالإضافة إلى فقه الواقع، أيضا إلى عنصر استحضار المسؤولية التاريخية في عملية التنزيل، بحيث لا تؤدي لا إلى إقرار حتمي بواقع، ولا بإحداث خصومة عدائية مطلقة معه،
3. هي ذات أهمية لأن دون تلك المسؤولية الجسيمة التي تستحضر تعقد الواقع الراهن، والتي تتميز بنظرة ثاقبة وحكيمة ووسطية لمجمل التحولات وتداعياتها، بحيث لا تهون ولا تهول منها، قد تنحرف العملية التغييرية الإصلاحية عن مسارها في اتجاه تنميط هذا الواقع، وتداعيات ذلك على المستوى الاجتماعي والمجتمعي لا تحمد عقباها،
فما هي إذن هذه الإشارات الاستقرائية التي ينبغي التقاطها إذن في تقديري:
ثمة سبع إشارات استقرائية يمكن عرضها على وجه الإجمال لتعطينا صورة ولو موجزة عن الواقع الراهن:
1) الإشارة الأولى: تعقد وتركب مفردات الواقع الراهن
بحيث يصعب تنميطه وفق صورة تاريخية مدونة في فتاوى بعض فقهاء السلف، لم نعد أمام صورة واقع مقسم إلى دار حرب ودار إسلام، ولم نعد أمام خلافة أو حتى إمارة أو حتى إمارة متغلب، كما تحدث عنها فقهاء السلف، نحن في واقع غلبت عليه تجزئة العالم الإسلامي من جهة، بعيدا عن صورة وحدة الأمة وقوتها كما كان في العهد في السابق، كما أنه لا يفوت التذكير هنا بمعطى الجالية الإسلامية التي بدأت تظهر بقوة في بلدان غير العالم الإسلامي ولها حضور ثقافي وحتى سياسي، مما يفند بالأساس فكرة ذلك التقسيم التاريخي النمطي بين دار حرب ودار سلم، حيث دولة الخلافة في مواجهة أمم أخرى غير إسلامية،
2) الإشارة الثانية: في مسألة وحدة المرجعية المعيارية والرمزية والتاريخية المؤطرة للسلوك المجتمعي
والمقصود هنا المرجعية القيمية والثقافية والسلوكية التي تؤطر الاقتصاد والسياسة والاجتماع، فهذه المرجعية لم تعد موحدة على مستوى المجتمع والدولة، والنتيجة اختلالات عميقة في المعايير القيمية، (قبح، جمال، حق، باطل، صواب، خطأ، صحيح)، ثمة شيء من هذه المعايير موحدا لدى المجتمع، لكن لم يعد ذلك الحضور الرمزي والدلالي والمركزي، للمرجعية المعيارية التي كان أساسها المرجعية الإسلامية العليا، ونفس الأمر يقال على المرجعية الرمزية والتاريخية، التي لم تعد موحدة وغير ذات هيبة فيما يخص اتخاذها أسوة مجتمعية بها.
3) الإشارة الثالثة: تحول في مفهوم النخبة المؤطرة
إذ لم تعد تقتصر على علماء الشرع وفقهاؤه، بل امتدت إلى نخب قد لا تتبنى بالمطلق المرجعية الإسلامية في تصوراتها وفي كتاباتها وفي تنظيراتها، وهي نخب ليس كلها تتبنى العداء المطلق لا للدين ولا للأمة، وقد تكون في صفوف الأمة من حيث انخراطها الفعلي لقضاياها المصيرية، التحرير الاستقلال، مناهضة الاحتلال، مساندة قوى الممانعة،...ولو لم تكن متبنية لمرجعيتها العليا في تصوراتها وتنظيراتها.
4)الإشارة الرابعة: تحول في المستوى الثقافي والتربوي للمجتمع
من حيث مستوى الأمية الأبجدية والجهل الضاربة أطنابهما في المجتمعات العربية والإسلامية، نتيجة الإهمال التاريخي لدور التعليم شكلا (التشجيع على ولوجه و بناء المؤسسات الضرورية لذلك وتوفير الموارد والأطر البشرية له)، ومضمونا(الارتباط الوثيق بالهوية، والحرص على بناء شخصية متوازنة ووسطية وفاعلة ومعتزة بهويتها وتاريخها ورموزها ومنفتحة على محيطها الخارجي متسلحة بهذا الاعتزاز في مجتمعها)، ومن حيث مستوى التأطير التربوي و القيمي والأخلاقي والديني عموما، وهذه مهمة العلماء الربانيين بامتياز، فحضورهم الباهت أو الضعيف أسهم بشكل كبير في بروز تيارات لادينية (تكن عداء للدين) أو دينية تحتاج إلى تأطير(تفتقد إلى فقه حكيم في تنزيل التدين)، او مستلبة (انبهار بكل ما هو أجنبي) أو تيارات غريبة (لا لون لها ولا طعم ولا رائحة ولا حتى فكرة متينة تدافع عنها)،
5) الإشارة الخامسة: في الوضع الاقتصادي العام
والذي تميز بالأساس بتبعيته وإلحاقيته على مستوى الارتباط المصيري والاستراتيجي والعضوي بمؤسسات اقتصادية ومالية عالمية، بحيث أضحى مستوى العيش الفردي عند الدول الملحقة ومنها أغلب بلدان العالم الإسلامي، متأثر بقوة بتداعيات هذا الاقتصاد العالمي، وكذا بتداعيات السياسات المتبعة لدى هذه المؤسسات الاقتصادية والمالية العالمية،
6) الإشارة السادسة في الوضع الاجتماعي العام
وبالإضافة إلى تأثر العيش الفردي بتداعيات هذا الاقتصاد العالمي، وبتداعيات السياسات المتبعة لدى المؤسسات الاقتصادية والمالية العالمية، يتأثر أيضا بالوضع السياسي المحلي على مستوى الاحتكار الذي يعرفه المجال الاقتصادي من لدن ذوي النفوذ السلطوي، هذا الوضع ينبغي التأمل فيه، إذ أنه في الكثير من بلدان الإلحاق الاقتصادي، قلة قليلة من الناس من يتحكم في ينابيع الحياة الاجتماعية لشعوب، وفي مصادر أرزاقهم، وفي قطاعات حيوية وإستراتيجية ضرورية للعيش وللقوت اليوميين، وهذه القلة القليلة "المحظوظة"، قد تكون مصدرا لمعظم الآفات الاجتماعية التي قد تنتج عن تحكمها، وبالتالي نقطة التحول في هذه الإشارة أن الوضع الاجتماعي الفردي والجماعي أصبح يتأثر بشكل عضوي بما يجري، على اعتبار المأسسة الحديدية التي عرفها نظام الحياة الاجتماعية عموما في العصر الراهن،
7) الإشارة السابعة: تأميم ينابيع التعبئة المجتمعية
بدءا ب"مؤسسة" العلماء، بحيث تقلص دور العالم الحر والمستقل على حساب دور العالم الموجه والمرتبط عضويا بخيارات الدولة وليس بخيارات المجتمع، مرورا ب"مؤسسة" المسجد، التي خصصت لها إدارة أو وزارة مركزية تعني بها وتوجهها وفق خيارات الدولة أيضا وليس خيارات المجتمع، ثم مؤسسات المجتمع المدني والأهلي، من جمعيات ونقابات ومراكز دراسات ووداديات وأحزاب، والتي أغلبها تم احتواؤه في إطار صوت وخيارات الدولة، أما ما تبقى من أصوات حرة أو تريد أن تكون حرة فتحاصر أو تمنع أو تحظر أو تهمش، ليصبح الصوت الوحيد الذي ينطق ويعبر هو صوت الدولة، والسلطة الوحيدة التي تتحرك هي سلطة الدولة، أما المجتمع فأصواته خافتة ولا تسمع، لا سلطة قوية له ولا صوتا مؤثرا له، على اعتبار المجال الضيق للتعبير الفردي والمؤسساتي الحر والمستقل،
هذه الإشارات التي سميناها استقرائية، الغرض منها هو استدعاؤها في مجمل الاستنتاجات التي سنخلص إليها، وهي تحتاج إلى تفصيل، لكن آثرنا أن تكون إشارات نفصل في بعضها بقدر الحاجة إليها في تحليلنا وفي استنتاجاتنا وخلاصاتنا التي سنأتي بها بحول الله في الحلقات القادمة.
التعليقات (0)