سنعرض في هذه الحلقة لمفهوم المعارضة في التصور السياسي الإسلامي.
بلغت درجة المعارضة في النظام السياسي الإسلامي إلى مستوى التعنيف في القول ما اعوج الحكم عن شرع الله ، “والله يابن الخطاب لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناك بحد سيوفنا” ([1]).
بل إن المعارضة في النظام الإسلامي ارتقت:
من مستوى الحق إلى مستوى الواجب من جهة الأمة
بل إلى مستوى الدعوة إليها من جهة الحكم، “إن أسأت فقوموني” وهذه خاصية فريدة في النظام السياسي الإسلامي: استدعاء المعارضة وليس فقط إعطائها الحق في التعبير والتنظيم. ([2]) .
وإذن واجب المعارضة و واجب الدعوة إليها من طرف الحكم، يحسبان لصالح النظام الإسلامي شريطة:
أن لا يكون مطلبها إلغائيا لأمر من أمور الدين ( حروب الردة)
وأن تكون معارضة لمنكر ظاهر لا يحتمل تأويلا أو اختلافا بين جمهور المسلمين
وأن لا يؤدي معارضتها لهذا المنكر الظاهر إلى منكر أكبر منه (وهنا تبرز أهمية منطق الموازنة وترجيح مصلحة الدين والنفس والأمة)،
وهنا يلزم في تقديري بعض التوضيحات حتى لا تختلط لنا المفاهيم:
1- ليست المعارضة بالمعنى الذي ذكرناه هي الشوكة والغلبة
2-لم يحدث قط أن تحول منطق الشوكة والغلبة إلى ثقافة اجتماعية ، ولكن الذي تعمم اجتماعيا من منطلق الواجب العيني الذي على كل مسلم هو واجب النصح وواجب قولة الحق وواجب المعارضة.
3-ما ظهر من فتن وابتلاءات في تاريخ الأمة، إنما كان محركه فئة قليلة من المسلمين أولت فهمها للمنكر كالخوارج مع قولتهم المشهورة إن الحكم إلا لله، أو غالت في معارضتها دون أن ترجح مصلحة الأمة والدين، فكانت الجريمتين البشعتين اللذان ذهبا على إثرهما خليفتين عظيمتين عثمان وعلي رضي الله عنهما.
لقد كان عثمان رضي الله عنه واعيا بمطالب الثوار ولكن نظرا لأنهم لا يمثلوا جمهور المسلمين ( وهذا دليل على مساندة القاعدة العريضة له وليس العكس) فإنه تمسك بعقد البيعة التي تربطه بالمسلمين . “كان يعلم أن الذين بايعوه لم ينقضوا بيعته وأن الذين خرجوا عليه وطالبوا بخلعه كانوا قلة من الغاصبين أو الطائشين … وكان بوسعه أن يستنفر مؤيدين ليصدوا الخارجين. إذ تجمع ببابه كثير من أبطال الصحابة وأبنائهم من المهاجرين والأنصار…” ([3]).
وعلي رضي الله عنه باعترافه بالخوارج لم يكن بعط بذلك نوعا من الشرعية لمنطق الشوكة والغلبة ، إنه كان يجسد روح الإسلام السمحة التي لا تكتفي فقط بإعطاء حقوق التعبير والمعارضة ولكن تستدعيها وتحرص على أن تستمع لها بل ليس من الإسلام في شئ أن نتوجه بالصرامة اتجاه أي صوت معارض مالم يكن مطلبه إلغائيا لأمر من أمور الدين. وهذا ما تجسد في قولة علي رادا على الخوارج قائلا: “لكم علينا ثلاث : ألا نمنعكم مساجد الله ولا نحرمكم من الفيء مادامت أيديكم في أيدينا، ولا نبدأكم بقتال” ([4])
إن في هذه القولة في تقديري دلالات :
أولها : اعتراف علي بالمعارضة وإن كانت مسلحة شريطة أن لا يكون مطلبها إلغائيا للدين .
ثانيها : عدم تجريدهم من حقوقهم كمسلمين ماداموا يناصرون الإسلام ولا يقفون ضده.
ثالثها : التزام علي بعدم اضطهادهم وقتا لهم بدءا.
فهل هذه الدلالات تحسب لصالح النظام السياسي الإسلامي في سعة تقبله للرأي الإسلامي المعارض واستيعابه له وعدم اضطهاده أو إلغائه أم أنها تحسب على النظام السياسي الإسلامي في إعطاءه نوع من الشرعية لمنطق الشوكة والغلبة ؟ إن الأمر ليس بهذه السهولة حتى نحسب كل معارض في الإسلام فاتنا أو غلب منطق الشوكة والغلبة في معارضته.
صحيح أن الخوارج غالوا في معارضتهم وأنهم ارتكبوا أفظع جريمة في تاريخ المسلمين، ولكن لا يكون هذا مبررا نظريا لإلغاء المعارضة الواجبة بدعوى التشطيب على منطق الشوكة والغلبة. وليست تكمن مهمة الفقه السياسي الإسلامي في هذا الإلغاء بدعوى نزع الشرعية عن هذا المنطق، إنما مهمته تكمن في كيفية وضعه لحدود هذه المعارضة المستدعاة وشروطها بل وضع ترجيحات وموازنات تهتدي بها حتى لا تزيغ عن هدفها الرئيسي الذي هو التقويم.
وإلى اللقاء في الحلقة المقبلة بحول الله.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]-من فقه الدولة في الإسلام ص 137.
[2]- من الخطبة المشهور لأبي بكر الصديق ، انظر خلفاء الرسول لخالد محمد خالد.
[3]- من فقه الدولة في الإسلام ص 66
[4]- من فقه الدولة في الإسلام ص 157
التعليقات (0)