سنعرض في هذه الحلقة لنظرية الدولة في التصورالسياسي الإسلامي في تقديرنا، على ان نستتبعها بالنموذج التاريخي التطبيقي لهذه النظرية ، تأكيدا منا على تحقق نموذج هذه النظرية في الواقع التاريخي.
1- عن النموذج والنظرية
ثمة جدلية حاصلة بين النظرية والنموذج فالنظرية بما هي تعبير عن منطلقات وثوابت مصاغة في قوالب نظرية تتفرع عنها تفصيلات ومتغيرات مصاغة في قوالب نظرية كذلك. النظرية بهذا المعنى تتوسل مصداقيتها وشرعيتها وكذا سعتها التجريدية في النموذج التطبيقي الذي ينقلها من تجريديتها الذهنية النظرية إلى حقل التطبيق والمحك والتمثل الواقعيين.
والنموذج بما هو تمثلات واقعية وحقائق ملموسة يتوسل قوة مسنده ودعامته في النظرية التي ينطلق منها. وقوة التمثل في النموذج رهينة بمدى إخلاصه للنظرية في ثوابتها ومنطلقاتها أو لنقل بمدى حرصه على تمثل الثوابت والمنطلقات اللتان جاءت بهما النظرية.
وإذن لاجدوى لمن يريد تمثل نظرية ما أو يبحث لها عن مصداقية وشرعية ما، أن يتوسل ذلك في نماذج قد تكون هي حاصلة تمثل لنظرية ذات ثوابت مختلفة تماما عن التي تحملها النظرية الأم، غير أن هذا لا يلغي إمكانية استيعاب عناصر متغيرة في نظريات أخرى وتغذية النموذج المبتغى تجسيده بها مالم تؤثر في المنطلقات والثوابت الأم.
تلك إذن كانت توطئة نظرية لنلج بها موضوعنا الأساس.ماهي إذن ثوابت نظرية الدولة في الإسلام ؟ وهل حدث تاريخيا أن تم تمثل هذه الثوابت في نموذج تطبيقي تاريخي ؟ ما هو معيار الترجيح لدينا حين استعرا ضنا نماذج الدولة في الإسلام تاريخيا ؟ ما هو النموذج التاريخي البشري الأصلي الذي أخلص لنظرية الدولة في الإسلام بل أخلص لكل قيم الإسلام عموما ؟ وهل نسبية أو تاريخية النموذج تعفينا من اعتباره النموذج المبتغى والأخلص لثوابت النظرية ؟
2- عن ثوابت نظرية الدولة في الإسلام
أ- السيادة للشريعة: بما هي التزام بطاعة الله وطاعة رسوله وتقديمهما عن أي طاعة بشرية والمقصود بهذه السيادة أن ” تكون حاكمة لا محكومة، أن تكون العليا لا شريعة معها ولا شريعة فوقها، أن تقوم بغير تفرقة ولا تجزئة” ([1]) ، .ويخطئ من يقزم مبدأ إقامة شريعة الله في تطبيقها للحدود فقط وإن كان ذلك ركنا أساسيا من أركان الإقامة الشاملة التي تضم إقامة العقيدة والأخلاق والشعائر والحدود، إنها مسؤولية الدولة في الإسلام في إقامة شريعة الإسلام والتي تقتضي منها أن توجه وأن تشجع على الخيرات وأن توفر الفضاء العقدي والأخلاقي الملتزم أيضا.
ب- رضى الناس عن الدولة : بما هو تحصيل حاصل تطبيق مبدأ الشورى على اعتبار أن الدولة الإسلامية هي دولة الأمة، وأن عقدها مع الأمة هو ” عقد مراضاة واختيار لا يدخله إكراه ولا إجبار”على حد تعبير الماوردي، إنما ميز النظام السياسي الإسلامي في عهده النبوي أن الدولة الإسلامية الأولى صنعتها الأمة، فكانت الدولة إجراء لاحق على الأمة.
ج- إقامة العدل : باعتباره قضية مركزية في الإسلام، فالدولة الإسلامية دولة عادلة، ولايمكن أن نتصورها غير ذلك، فهي دولة تحمي الضعفاء والمظلومين، مهما كان لونهم ودينهم، إن العدل أس من أسس شرعية الحكم الإسلامي، ولهذا شرعت الزكاة وكان نصيب الفقراء والمساكين من بين الأنصبة الثمانية الموزعة، ولهذا رعي حق اليتيم، وكرم الضعيف وأخذ بيده، وحرم الله تعالى الظلم على نفسه وجعله بين الناس محرما، كيف لا ورسالة الأنبياء كلهم كانت لهذا الغرض ” ليقوم الناس بالقسط” سورة الحديد.
د- ضمان الحقوق الشرعية لكل من هو تحت لوائها : سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، وقد ضمن لهم الإسلام حقوقا اجتماعية كحق الكفاية للفقراء والمحرومين أو سياسية كحق المشاروة والمراقبة والمحاسبة والعزل وحق الحرية الاعتقادية تحت ظل الدولة الإسلامية بالنسبة لغير المسلمين وحق نصرتهم إلى جانب المسلمين إن اعتدى عليهم أحد ويمكن اعتبار وثيقة المدينة مرجعا شرعيا أساسيا لاستجلاء هذه الحقوق الشرعية، وعلى العموم يمكن اعتبار كل الحقوق التي تضمن حماية الضرورات الخمس : الدين، النفس، العقل، النسل، المال، حقوقا شرعية وأساسية للناس كافة تحت ظل الدولة الإسلامية، هذه في خلاصة أهم الثوابت الرئيسية التي ترتكز عليها نظرية الدولة في الإسلام وقد تتفرع عنها عناصر أخرى هي تفصيلات لهذه الثوابت بحسب الظروف وبحسب كيفية التنزيل الضامن لسريان واستمرارية هذه الثوابت وهذا ما يحيلنا إلى الحديث عن النموذج التطبيقي لهذه النظرية.
3- عن النموذج التطبيقي
لا أحد يجادل في أن نموذج الخلافة الراشدة يمثل أمثل نموذج تطبيقي سعى إلى تمثل ثوابت نظرية الدولة في الإسلام ففيه تمثل ثابت إقامة شريعة الله كما بيناها سابقا دون تجزئ أو تعديل أو عدول " والله لو منعوني عقال بعير كانوا يعطونه لرسول الله لقاتلتهم عليه بالسيف" (2)وفيه تمثل عقد الالتحام بين الدولة والأمة دون إكراه وبرضى الناس، وفيه تمثل العدل في أبهى صوره حماية للضعفاء والفقراء وفصلا لسلطة القضاء على سلطة التنفيذ.
وفيه تمثلت الحقوق الشرعية لكل من هو تحت لواء الدولة الإسلامية فروعي الذمي وتمثل حق الشورى وحق المراقبة والمحاسبة والمعارضة والعزل وحق الكفاية الاجتماعية وحق حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر المخالفة لشعائر الإسلام تحت ظل الدولة الإسلامية.
لماذا النموذج الراشدي لا النماذج التاريخية الأخرى ؟
أولا : لأنه نموذج بشري لانبوي على اعتبار أن النموذج النبوي رفق بالوحي الذي كان يعصمه من الزلل أما النموذج الراشدي فهو نموذج ما بعد العصمة النبوية وهو انتقال من العصمة المرافقة بالوحي الى عصمة الأمة من الضلالة ما التزمت بطريق الله وهنا دور التقويم والنصيحة والمعارضة فهو الذي يعصم النموذج البشري الراشدي وعصمه من الانحراف كليا عن ثوابت الإسلام.
ثانيا : إن معيار المشروعية والترجيح بين النماذج يتجدد بمعيار إخلاص النموذج التطبيقي لثوابت النظرية . لا ننكر إ شرا قات نموذج عمر ابن عبد العزيز مثلا ولا أهمية الظرفية التاريخية التي برز فيها نموذج عام الجماعة لكن تبقى إشراقات فرعية ذات مدى زمني قصير ومع قصور لتمثلها لكل الثوابت ( ثابت الشورى ورضى الناس …) بل أن نموذج عام الجماعة ونظرا للاختلالات التي وقعت فيه على مستوى كيفية تمثل ثوابت نظرية الدولة في الإسلام وعلى رأسها ثابت الشورى لم يتحسن مع الزمن نحو تمثل كل الثوابت، بل كان إلى نقصان والى المزيد من الإخلال بباقي الثوابت الأخرى ( ثابت العدل مثلا).
يتبع
(1) المشروعية الإسلامية العليا، د. علي جريشة الطبعة الثانية 1986، ص 56 - ص 68.
(2)قولة مشهورة لأبي بكر انظر خلفاء الرسول لخالد محمد خالد.
إلى اللقاء في الحلقة المقبلة بحول الله
التعليقات (0)