ثمة خلط شديد يحصل حينما تتم مقاربة موضوعات الدولة في التصور الإسلامي، وكما ذكرت في حلقة سابقة هذا الخلط ناجم عن التمثلات القياسية الحاصلة لدى البعض من النخبة الفكرية والسياسية، بين التجربة الأوروبية ودولة الإكليروس -أي تسلط الكنيسة-، وبين التجربة الحضارية الإسلامية، فيتم التعسف عن بعض المفاهيم الإسلامية الأصيلة من مثيل مفهوم الحاكمية/السيادة، بحيث يجعلون لها مثيل في دولة الإكليروس التي كانت تتحدث نيابة عن الله كما كانت تدعي، وكانت باسم ذلك تضفي على قراراتها واجتهاداتها صفة القداسة التي لاينبغي لأحد أن ينازعها فيها أو أن يطعن فيها، قيتصورون بذلك أن القول بالحاكمية الإسلامية أو بالدولة الإسلامية، هو مثيل القول بالدولة الدينية التي تضفي على تصرفاتها القداسة المطلقة.
في مفهوم السيادة للشريعة
السيادة في التصور السياسي الإسلامي الشريعة ، ومعاني ذلك في تقديري:
1- أن الإطار التشريعي الأسمى محدد بهذه الشريعة وأن الأغلبية محكومة بهذا الإطار التشريعي الأسمى وأنها لايحق لها أيضا تجاوزحقوق المخالفين أو الأقلية،
2- أن حقوق الأقلية مضمونة بمقتضى تلك السيادة ؛ ذلك أن سيادة الشريعة في إحدى معانيها ضمان العدل ومن مقتضيات العدل ضمان حقوق المخالفين أوالأقلية.
3- لا سلطة بدون مسؤولية ولا مسؤولية بدون محاسبة، باعتبار أن ممارسة تلك السلطة نسبية ومدنية،" فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني" (1) كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبة التنصيب والتولية، وعلى هذا الأساس فالدولة في التصور السياسي الإسلامي دولة مدنية بمعنى أن تصرفاتها اجتهادية قابلة للخطأ والصواب، وما لم تكن هناك تقويم مؤسساتي لها ستصبح حتما دولة شمولية، ولذلك فلا غرابة أن نجد عند الإمام القرافي تمييزا دقيقا، وهو من أعلام الفقه المالكي، بين ثلاث تصرفات للرسول صلى الله عليه وسلم : تصرف بالفتيا والتبليغ وتصرف بالقضاء وتصرف بالإمامة، حيث اعتبر أن التصرف بالإمامة : " وصف زائد على النبوة والرسالة والفتيا والقضاء، لأن الإمام هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق، وضبط معاقد المصالح، ودرء المفاسد ، وتوطين العباد في البلاد إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس "(2) . وعلى هذا الأساس كانت السياسة في التصور الإسلامي من الأمور المخولة للخلق ومن المصالح العامة وليست من الأمور التوقيفية النصية.
في مفهوم السلطة للأمة:
إن السلطة للأمة على اعتبار أن قيادتها هي عقد مراضاة واختيار ، ولعل هذا ما قد نستشفه ، من خلال فهم بعض فقهائنا القدامى، لمعنى البيعة باعتبارها عقد بين الحاكم ( الخليفة أو الإمام) وبين المحكوم (الأمة)، يقول الماوردي في معرض حديثه عن الخلافة" أنها عقد مراضاة واختيار ولا يدخله إكراه ولا إجبار "(3) وعلى اعتبار أن الأصل هو الأمة وأنها مبرر وجود الدولة ،ولذلك اعتبر القرطبي الإمامة وكالة من الأمة حين قال " فإن الإمام هو وكيل الأمة ونائب عنها "(4)، ولهذا الاعتبار كان "الفكر الاختياري" هو الفكر الراجح في المدارس الإسلامية بدل "الفكر السلطاني" الذي يرتكز على أطروحة الغلبة، أو "الفكر النصي" الذي يرتكز على أطروحة التعيين بالنص الإلهي حسب المذهب الشيعي .(5)
تحدث العديد من فقهائنا السلف عن شرعية السلطة (أو الإمامة،أو الخلافة) ،فنجد ابن تيمية يتحدث عن مضمون السياسة الشرعية التي على الإمام أن يلتزم بها من خلال حديثه عن "واجب أداء الأمانات والحكم بالعدل"
وقرن شرعيته بمدى التزامه بهذا المضمون(6)، ونجد ابن خلدون يبرز الشرعية من خلال التعريف الذي أعطاه للخلافة بما هي "خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به"(7)، فهي شرعية مادامت تحرس الدين وتسوس الدنيا به،ونجد أبو حامد الغزالي يؤكد في ضرورة الإمامة التي بها يتم حفظ نظام الدين والدنيا فيقول في معرض استدلاله على وجوب الإمام: "البرهان عليه أن نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا، ونظام الدنيا لا يحصل إلا بإمام مطاع.. إلى أن يقول: فبان أن السلطان ضروري في نظام الدنيا، ونظام الدنيا ضروري في نظام الدين، ونظام الدين ضروري في الفوز بسعادة الآخرة، وهو مقصود الأنبياء قطعا، فكان وجوب نصوب الإمام من ضروريات الشرع الذي لا سبيل إلى تركه فاعلم ذلك "(8).
وبناء على مضمون هذه التولية (تولية الحاكم )، كان الراجح عند فقهاءنا وحتى المتكلمين في تثبيت طريقة التولية، هو الاختيار، مقابل أصحاب مذهب النص، الذي هو مرجوح، وهذا ما تعضده أقوال الفقهاء والمتكلمين .فالماوردي يعرف الإمامة تعريفا جامعا مانعا، بأنها:"عقد مراضاة واختيار لا يدخله إكراه ولا إجبار"(9).
ويقول القرطبي في معرضه دحضه لأطروحة النص :"وإذا بطل ثبوت النص لعدم الطريق الموصل إليه ثبت الاختيار والاجتهاد"(10) يقول البغدادي : " قال الجمهور الأعظم من أصحابنا ومن المعتزلة والخوارج و البخارية : أن طريق ثبوتها أي الإمامة الاختيار من الأمة"(11)
و يقول الجويني : " اتفق المنتمون إلى الإسلام على تفرق المذاهب وتباين المطالب على ثبوت الإمامة، ثم أطبقوا على أن سبيل إثباتها النص والاختيار. ، وقد تحقق بالطرق القاطعة والبراهين اللامعة بطلان مذاهب أهل النصوص ، فلا يبقى بعد هذا التقسيم والاعتبار إلا الحكم بصحة الاختيار."(12)، ومن خلال هذه الجولة السريعة لبعض أقوال فقهائنا السلف في هذا الباب يمكن استشفاف الخلاصات التالية:
1-قي حديثهم عن الشرعية لم يفصل هؤلاء الفقهاء بين شرعية طريقة التولية (من يحكم) وبين شرعية مضمون التولية ( بم يحكم).
2-في حديثهم عن الشرعية كان حضور مبدأ التعاقد والذي مؤداه أن لزوم الذي يحكم في الحكم الذي نصبته الأمة إليه بطريقة شرعية واستمرار هذه الشرعية نافذة رهين كل ذلك بمدى التزامه بمضمون التعاقد، وإذا كان بعض الفقهاء قد "غضوا الطرف"(13)للضرورة في لحظات من التاريخ على لا شرعية من يحكم وركزوا على مضمون حكمه وقرنوا القبول به للضرورة بمدى إنفاذه لشرع الله وحمايته لحوزة الإسلام، فان هذا الاستثناء يقوي ما ذهبنا إليه، فمبدأ التعاقد حاضر حتى في هذه الضرورة على اعتبار اقتران هذه الشرعية الجزئية بدورها بمدى التزامه بمضمون التعاقد الذي يؤكد هذه الشرعية الجزئية أو ينفيها.
يتبع
--------------------------------------------------------------------------------
(1) السيوطي - تاريخ الخلفاء - ص 52 - دار الكتب العلمية - ط 1
(2) القرافي - الإحكام - ص 99 وما بعدها - دار البشائر الإسلامية - ط2 - 1416 هـ/ 1995 م .[1>
(3) الماوردي، الأحكام السلطانية، ص7
(4)انظر الجامع لأحكام القرآن تفسيرالقرطبي في معرض تفسيره للآية:" وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة..."الآية 29 من سورة البقرة
(5) للمزيد من التفصيل في هذا الباب يرجى الرجوع إلى حلقات بعنوان "السلطة في الفكر السياسي الإسلامي " كتبها الأستاذ محمد المرواني بجريدة النبأ المغربية سنة 1998
(6) يرجى الرجوع إلى كتاب "السياسة الشرعية" لابن تيمية الطبعة الثانية 1991.ص 14 ومابعدها
(7) مقدمة ابن خلدون ج-2 ص518
(8) أبو حامد الغزالي كتاب "الاقتصاد في الاعتقاد" 148.
(9)الماوردي، مرجع سابق
(10)انظر الجامع لأحكام القرآن تفسيرالقرطبي في معرض تفسيره للآية:" وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلفي الأرض خليفة..." الآية 29 من سورة البقرة
(11)البغدادي كتاب " أصول الدين " ص 270.
(12)الجويني ، أبو المعالي عبد الملك ، غياث الأمم ، ط1 ، 1400 هـ ، ص 54 .
(13)انظر الماوردي في" الأحكام السلطانية" في حديثه عن إمارة الاستيلاء أو رأي الإمام أحمد بن حنبل في إمامة المتغلب …أو الشافعي في اشتراطه للمتغلب أن يكون قرشيا… "تاريخ المذاهب الإسلامية" دار الفكر العربي للإمام أبو زهرة.
التعليقات (0)