لم يشتد الجدل منذ أن بدأ في دولنا المسلمة عامة والعربية خاصة حول اوجه التطابق والأختلاف بين مفاهيم العلمانية والليبرالية والديموقراطية مع المفاهيم الأسلامية , مثل اشتداده بعد 11 سبتمبر وما تبعها من احداث الى يومنا هذا , ولا اعتقد ان يفتر هذا الجدل الا بعد ان تجد امتنا حلا لهذه المعضلة اللتي ادى تأخر حلها الى تأخر الحداثة والتحديث في مجتمعاتنا .
قلنا في الجزء الأول من هذا المقال أن اسلوب الوقوف في حالة السكون اللذي يتبعه معظم المثقفون العرب أما اختباء خلف التاريخ وعظمته . وأما لجلد الذات وتأنيبها على عدم التخلي عن كل ما عندها من مقومات فكرية وتأريخية ودينية , وأبدالها بالحلة الغربية الجديدة اللتي يلبسها أكثر الناس (من غير المسلمين) هذه الأيام . هو ما يؤخر المصالحة الوطنية العربية , اللتي هي السبيل الوحيد للخروج من مأزق تأخر الحداثة في دولنا المسلمة والعربية . ولقد تعمدت أستخدام تعبير الحلة الغربية لأن هناك بالفعل بعضا ممن يسمون انفسهم بالمثقفين يعتقدون ان تحديث المجتمعات في دولنا لايتم الا بخلع اللباس القديم كاملا ولبس لباس جديد بدلا عنه . أو أبداله بلباس من ألبسة اجدادنا الأقدمين .
قد لا يعلم البعض من الأخوة المدونين في أيلاف أو الأخوة القراء أن على صفحات مدونتهم يشتعل نقاش جدي وحوار فكري راقي حول اسلوب التحديث الأمثل لمجتمعاتنا العربية , بعيدا عن المراهقة الفكرية والسباب المتبادل والجدل العبثي أللامنتنهي حول النظرييتين الأسلامية والعلمانية في مثال صارخ على ما نعنيعه في هذه السلسلة . وأحد أكثر الناشطين في هذا الحوار من مدوني أيلاف هو السيد أبراهيم علاء الدين , حيث كتب موضوعين في غاية الأهمية لمن يريد أن يضع يده على أس المشكلة اللتي يعاني منها الخطاب العلماني العربي . وهذان الموضوعان هما (الأستاذة رشى ممتاز ممثلة العلمانية) والثاني (كيف يحقق الليبراليون الأنتصار ) .
وأن كنت والسيد علاء على خلاف فكري وعقائدي كبير بأعتباره علمانيا ماركسيا ( كما فهمت من كتاباته ) . ألا أني أود أن أنطلق هنا من بعض ما كتبه في هذين الموضوعين لأتكلم الى الأسلاميين بكل أنواعهم بعد ذلك , وخاصة غير الليبراللين منهم بأعتبار أن الأسلام الليبرالي مستوعب لأسباب تأخر الحداثة عندنا وكيفية العلاج , ألا ان المشكلة تكمن بباقي الأسلاميين اللذين يشبه خطابهم خطاب العلمانيين اللذين أشار اليهم السيد أبراهيم في مقاليه السابقين , ولكن بالأتجاه المعاكس .
اعجبتني جملة كتبها السيد علاء ابراهيم تقول . ((وباعتقادي انه يستحيل تعميم ونشر الفكر اليبرالي وخلق قاعدة جماهيرية له قابلة للتوسع والنمو باستمرار في ظل كتابات حدية .. ذات طابع مختزل قائمة على سجالات في الغالب مليئة بتسفيه الاخر على اساس ثنائيات صلبة حادة (مثل الحتميات التاريخية) والشعارات السياسية التي لا تقبل التغيير وفق وجهة نظر مطلقيها او الاطروحات المتقابلة ذات المضمون الفلسفي كالخيارات الايديولوجية ( العقلانية – الايمان) او (العلم – الدين) طبعا الى جانب التصنيفات المعهودة مثل (السيء – الحسن ) (الجميل – البشع) الصادق – الكاذب) وفي كل الامثلة السابقة وغيرهاالكثير فان جوهر الخطاب الدارج عموما في الساحة العربية .. وما يهمنا في هذه اللحظة الخطاب المتعلق بالليبرالية فان جوهرها قائم على اساس ان احدا يمتلك الحقيقة المطلقة والاخر سقط في الخطيئة المطلقة) وهذا الفكر ينطلق للاسف من نفس المنبع الذي ينطلق منه الفكر المتطرف الذي يدعي الليبراليون انه يحاربونه وقوامه (الجنة – النار) (الله بما يعنيه المعرفة – الجهل بما يعنيه الانسان) . وبمعنى اخر (الله بما يعني السلطة – الانسان بما يعني العبد) .
ان هذا الخطاب الثنائي الحاد والذي لا ياخذ باعتباره عشرات القضايا ذات الصلة هو خطاب ضعيف ركيك لا يمكن ان يؤدي الغرض اذا لم يكن يؤدي الى عكسه. قد يطالبني البعض بتقديم امثله ونماذج على ما ادعي حتى لا يكون هناك تعميم .. وربما عدم تقديم نماذج مقصود حتى يهتم بعض الاخوة باجراء بحث لاكتشاف حجم المقالات ذات طابع الثنائيات الحادة (لاخيار ثالث اما في الجنة او في النار )) .
ما يقوله السيد علاء في هذا المقطع من مقاله هو بالظبط ما عنيته في الجزء الأول من مقالي هذا . وأعني وجود مشكلة مستفحلة في خطاب الكثير من أخوانه العلمانيين اللذين يدعون الى التطرف في الأفكار وتسفيه الآخر . وهو يحض العلمانيين على ترك هذا السلوب لأنه أسلوب منفر . يبعد الناس عن الفكر العلماني (وأن أسماه هو الليبرالي وأنا أتحفظ هنا ) , ويجعل العلمانيين يخسرون أرضا أكبر بكثير مما يربحون . وهو ما عبر عنه السيد أبراهيم في نهاية مقاليه اللذين أشرت أليهما (واللذين أرجوا أن تطلعوا عليهما) .
ألأ أن أحدا لا يستطيع أن ينكر خطابا حديا مماثلا يملأ أدبيات الأحزاب الدينية والتيارات الأسلامية . والساحة السياسية تعج بالأسلاميين الحديين أصحاب الأقوال الفصل كما أسماهم الأستاذ ابراهيم . وهو أيضا خطاب منفر للجماهير هنا كما هو منفر لها هناك . فخطاب معظم الأسلاميين مثله مثل خطاب معظم العلمانيين , ينزع الى الحدية وتسفيه الآخر وأختزال الحلول اللتي يطرحونها في حواراتهم بأبيض وأسود , والجنة والنار . ولا اقصد هنا الأحزاب والتيارات التكفيرية (القاعدوية) أن صح التعبير فهذه الأحزاب هي خارج نقاشنا هذا لأسباب معروفة . بل أقصد الأحزاب والتيارات الأسلامية الفاعلة سياسيا وأجتماعيا على الساحة الأسلامية والعربية . كالأحزاب اللتي تتبنى نظرية ولاية الفقيه مثل المجلس الأعلى وحزب الله , ولأخوان المسلمين وتفرعاتهم مثل الحزب الأسلامي العراقي وحماس والجهاد وجبهة الأنقاذ الجزائرية وباقي التنظيمات الكثيرة المشابهة واللتي تتبنى الخطاب الأخواني والمنتشرة في كل مكان من أرض الأسلام . وكما قلنا فأن هذا الخطاب منفر للجماهير وخاصة الطبقة الوسطى منها . وهي الهدف الأهم لكل حزب او تيار سياسي يريد أن ينجح في تجربته العملية , لأنها الأقدر على الفهم والبناء والقيادة وبالتالي هي الأقدر على ترجمة النظريات والأفكار الى واقع ملموس . ينعكس في النهاية الى تأييد واسع للحزب لدى الجماهير ككل مهما كانت توجهاته .
من المعروف ان الصراع أي كان نوعه وما يرافقه من شد وجذب هو من اهم اسباب تمزق المجتمع اللذي يؤدي الى تعطيل تقدمه وتطوره في كافة مجالات الحياة . وهذه ليست فقط حقيقة علمية مثبتة في علم الأجتماع بل انها بديهة لا يختلف عليها عاقلان . وبما أن المقصود من كلامي هنا المؤمنين بمقولة( الأسلام هو الحل) أكثر من غيرهم وأقصد بهؤلاء الفاعلين منهم ( أي أعضاء الأحزاب والتيارات الدينية ) . وكذلك من يمكن أن نطلق عليهم صفة الأسلاميين السلبيين ( وأعني بهم ممن يعتقدون أن الأسلام هو الحل دون ان يكونوا منتمين لأي حزب أسلامي . وقد لا توجد لديهم فكرة عن ماهية هذا الحل أو حتى ملامحه العامة أي ((أسلاميون بالولادة)) . وهؤلاء بأعتقادي الكثرة من أفراد مجتمعاتنا . لذلك سأبدأ بأعطاء أمثلة من القرآن والسنة هنا لكي يكون الكلام أكثر وضوحا .
يقول الله سبحانه وتعالى ( وهو خالق الخلق والأعلم بهم من غيره ) ان اجتماع أي أمة حتى لو كان على فكرة باطلة وفاسدة سيؤدي بالضرورة الى تحقيق هذه الأمة لأهدافها . وذلك لأن الأجماع سيؤدي بالضرورة لأنتفاء اسباب الفشل المتمثلة بالصراع المجتمعي حين قال في الآيات 33 , 34 , 35 من سورة الزخرف (وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) . رابط1
ولقد اجمعت التفاسير بكافة اتجاهاتها ومذاهبها على ان المقصود بأمة واحدة في هذه الاية هو اجتماع الامة على الكفر . ولعل أكبر مثال عملي على هذه الآية هي التجارب العلمانية الغربية والشيوعية الصينية والهندية والتركية وغيرها من التجارب اللتي أستطاعت أن تجد صيغ أتفاق مختلفة بين جميع أفراد هذه المجتمعات أدت في النهاية الى أستقرار نابع عن رضى جميع الأفراد في هذه المجتمعات عن هذه الصيغ , فما بالك ونحن في معظمنا من الموحدين سواء مسلمين او من اهل الكتاب .
طبعا نحن لا نروج هنا الى القبول بالعلمانية اللتي تشترط تعطيل الشريعة الغير مقبول ليس فقط بنصوص قرآنية واضحة بل وحتى من الشارع المسلم , ناهيك عن النخبة والعلماء . والله حين رضي لنا الأسلام دينا ومنهاجا فقد أختار الأفضل والأسمى والأعدل من بين المناهج السماوية ومن أي منهج يمكن أن يخترعه عبد من عبيده . ولا مجال للمقارنة هنا من الأصل . ألا أن تجاهل الرافضين للشريعة لأي سبب كان , أو أصدار أحكام مسبقة عليهم وأنتظار الفرصة المناسبة لتطبيقها , هو جزء مهم من أسباب تأخير المصالحة الأجتماعية , المدخل الرئيس لدخول دولنا مضمار السباق الحضاري . وهذا خطأ كبير يقع فيه الأسلاميون بشقيهم الأيجابي والسلبي , ويجعلهم يخسرون مواقع عديدة للتيارات الأخرى المنافسة .
يعرف الدكتور المسيري في كتابه القيم " العلمانية الشاملة والجزئية" ما أسماها بالنماذج الطبيعية بأنها (( الأغراء المادي والنزوع الجنيني اللذي يعبر عن نفسه في الرغبة بالأندماج بالخالق , وفي الغاء كل الحدود , والتحكم الكامل بكل شيء , والتخلي عن الحدود والمسؤولية الخلقية . وهذا يعني ان الأتجاه الى العلمنة والواحدية المادية هي نزعة موجودة عند كل البشر )) ص22 . وهذه النماذج الطبيعية موجودة بالتأكيد عند المسلمين شأنهم كشأن باقي البشر كما يقول الدكتور المسيري . وهذه النزعة لم يؤكدها الدكتور المسيري وحده , بل أكد وجودها القرآن من قبل . ((زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)) . ولذلك فأن ترك الأشتغال بحلول مشاكل الدنيا ومحاولة أقناع الناس بالصبر على ما أبتليوا به من فقر وجهل وأنعدام للخدمات وفرص التعليم والعمل سوف يؤدي ليس فقط الى نفور الناس من ألأسلام السياسي , بل وترك الأسلام نفسه وكما حدث ويحدث كل يوم .
وقد يقول بعض الأسلاميين بأن العلمانيين العرب غير جديرن بالثقة , فلقد ثبت تحريضهم للأنظمة القمعية (اللتي يسبونها ويتبرؤون منها ليل نهار) على التيارات الأسلامية ويتحالفون مع هذه الأنظمة ضدها . وأنهم وفي كثير من المناسبات وضعوا أيديهم بيد أعداء الأمة في سبيل وقف المد الأسلامي . وهذه حقائق لا يستطيع أن ينكرها أحد ( أنظر الى مقالة السيد أبراهيم علاء الدين " الحكومات العربية وشعوبها من منها أكثر تخلفا " رابط 2 ) وفي تجربتي الأنتخابات الفلسطينية والجزائرية أمثلة على ذلك .
ألا أنه من الخطأ الفادح الوقوف عند هذه النقطة وأعلان الحرب الشاملة على هذه التيارات فهذا اولا وأخيرا في مصلحة الأنظمة القمعية اللتي تحكم كل بلاد الأسلام الآن , بل وأنها أداة مهمة لأعداء الأمة تمنحهم قبولا وشرعية جزئية للتدخل عسكريا وسياسيا وأقتصاديا في شؤون بلداننا وتهدر من أموالنا وثرواتنا ما لا نستطيع تعويضه في قادم الأيام . لذا فأن المصلحة العامة وهي الأهم تقتضي الوصول مع هذه القوى الى أرضية مشتركة تكون مثابة قوية لتحقيق المصالحة الأجتماعية والوطنية والسياسية اللتي هي السبيل الأوحد والوحيد لخروجنا من هذا البطأ القاتل في تحديث دولنا ومجتمعاتنا .
كما لايستطيع احدا أن ينكر أيضا أن بعض الأطروحات السلفية اللتي تحاول جر الأمة الى الماضي السحيق دون أي أعتبار لعوامل المكان والزمان , قد يعطي الحق لهذ التصرفات الخاطئة . فالخوف الشديد والدفاع الفطري عن النفس ترغم الأنسان في معظم الأحيان لأن يحتمي بالشيطان نفسه أذا ما أعتقد بأنه السبيل الوحيد للخلاص . لذا فأن ضمانات كثيرة يجب أن تقدم من جانب الأسلاميين لتحقيق المصالحة الأجتماعية .
أثار الزميلين المدونين في أيلاف "عيسى عبدالقيوم" و"حامد أبوثابت" موضوع هذه الضمانات بمقالين ممتازين أحدهما بعنوان ( مراعاة الفكر الأسلامي بين المدرستين . رابط 3 ) . والآخر (الأسلام والعلمانية للشيخ الغنوشي رابط 4) . لمن أراد الأطلاع عليهما . كما أن كتبا قيمة كثيرة قد كتبت عن هذا الموضوع , كلها لخصت هذه الضمانات .
علينا كأسلامين ان نقدم رؤيا متكاملة لمضمون الدولة ومؤسساتها والمجتمع المدني ومؤسساته وعلاقة كل من هذه المؤسسات بالأخرى . ومفهوم المواطنة وتعريف المواطن وعلاقته بالدولة وبباقي المجتمع مؤسسات وأفراد . ورأيها بالدستور وعلاقته بالشريعة , وما هي الحدود بينهما . ووو…
أي أن عملا طويلا ينتظرنا والتيارات الأسلامية لتطمين المواطن المسلم وغير المسلم العادي قبل تطمين أعضاء التيارات العلمانية وغير العلمانية . وكله في مصلحتنا ومصلحة شعوبنا . وألا فأننا سنظل نجتر الجدل العقيم حول العلمانية واللليبرالية والأسلام , بينما الدكتاتوريات وحلفائها من أعداء الأمة تصفق لنا وتحرضنا للبقاء على مكانتنا .
رابط 1 http://www.islamweb.net/newlibrary/display_book.php?flag=1&bk_no=48&ID=3096
رابط 2
http://erada.elaphblog.com/posts.aspx?U=468&A=21541
رابط 3
http://libyanjournal.elaphblog.com/posts.aspx?U=1478&A=24605
رابط 4
http://abuthabet.elaphblog.com/posts.aspx?U=2188&A=24600
التعليقات (0)