مواضيع اليوم

تأخر الحداثة في المجتع العربي (1)

زين الدين الكعبي

2009-08-02 16:39:00

0

 

 

الأنسان هو الأنسان في كل زمان ومكان , فلقد خلقه الله من اصل واحد (( كلكم لآدم وآدم من تراب )) . ولكن كثير منا نحن البشر (وليس جميعنا ) يعتقد بتفوق جنس معين على باقي الأجناس البشرية  من ناحية القدرات العقلية والجسدية نتيجة لتعصب عنصري ليس له أي دليل علمي يثبته . وحتى من لا يحمل افكارا عنصرية فقد تخدعه ظاهرة ما , في مجتمع ما , في زمان معين تؤدي به الى الخروج بتصورات خاطئة عن هذا المجتمع مفادها ان هناك قصورا في عقلية افراده وضعفا طبيعيا في قدراتهم مما يمنع هذا المجتمع من اللحاق بركب الحضارة  . وهذا الحكم الخاطيء ناتج عن جهل هذا الشخص الواضح بالأسلوب العلمي في تحليل الظواهر الأجتماعية .

فمثلا يعتقد الكثيرون في داخل وخارج امريكا ان المجتمع الأمريكي الأسود واللذي يشترك مع باقي المجتمع في جميع الظروف المادية والثقافية واللغة داخل الوطن الأمريكي . واللذي تنتشر في صفوف ابنائه الجريمة والفقر والجهل بنسب اعلى بكثير من المجتمع الأمريكي الأبيض سببه قصور في القدرات الفسيولوجية عند الجنس الأسود . والسبب في هذا الأعتقاد مرده النظر الى واقع السود الأمريكان اليوم دون النظر الى تأريخهم ضمن تاريخ امريكا بأعتبارهم جزء منه . ويدعمه الواقع المتخلف لشعوب دول افريقيا السوداء . بينما لو جأنا لندرس ظاهرة تخلف السود عن البيض في المجتمع الأمريكي في سياقها التاريخي وبصورة علمية , فسنجد ان انعتاق الأمريكان السود من العبودية لم يمر عليه الا قرن وبضع عقود من الزمان . كما ان تخلصهم من التمييز العنصري وآثاره المدمرة لم يتم الا في ستينيات القرن الماضي فقط . وحالما تخلص السود من العبودية اصبحوا من الناحية الدستورية مواطنين امريكان لهم كافة حقوق المواطنة . ولكنهم في ذات الوقت كانوا فقراء معدمين , لأنهم كانوا يعملون لدى اسيادهم البيض من دون اجر . وبسبب امتناع الأسياد عن تعليم عبيدهم القرآءة والكتابة لمنعهم من الفرار , فأن غالبية السود الساحقة كانوا من الأميين بعد انعتاقهم . وبذلك اجتمع الفقر والجهل على المجتمع الأسود الأمريكي عند خط انطلاقه للحاق بباقي المجتمع بعد التحرر . وبسبب الفقر لم يستطع السود تعليم ابنائهم التعليم اللائق اللذي يمكنهم من الحصول على وظائف عالية الدخل اسوة بالبيض . لذلك حُرِم الأبناء بدورهم من المال اللازم لتعليم ابنائهم تعليما عاليا .وهكذا اخذت دورة الفقر المؤدي الى الجهل والجهل المؤدي الى الفقر مفعولها في مجتمعات السود الأمريكان حتى وصلوا الى واقعهم الحالي اللذي تنتشر فيه الجريمة والبطالة والفقر بنسبة عالية مقارنة بباقي الشرائح من المجتمع الأمريكي .   

 وللأسباب ذاتها يعزي الكثير من الجهلة بعلم الأجتماع تفوق حضارة ما الى تفوق ابنائها طبيعيا على باقي البشر  . وهذا ما يحصل مع الكثير من مثقفينا نحن العرب او مدعي الثقافة منهم عند تفسيرهم لأسباب تخلفنا الحالي عن ركب الحضارة  الغربية . حيث انقسموا ما بين سلفي يختبيء خلف أنكار هذا التخلف , وبين من يعتقد ان السبب لهذا التخلف هو عقلية الفرد العربي اللتي لا تستطيع فهم الحضارة من أي نوع لقصور طبيعي في ذاتها . مرددين كالبباغوات ما يردده بعض اعدائهم من الغربيين  . وأن كنا نلتمس العذر لمن اخطأ من غير المثقفين . فما عذر المثقف للوقوع في هذا الخطأ .  الا ينم هذا عن قصور واضح في الثقافه والعلم عند هذا المثقف .

تقع على المثقف العربي اليوم مسؤولية كبيرة في كشف اسباب تأخرنا عن باقي الحضارات اللتي سبقتنا وخاصة الحضارة الغربية . على ان يكون هذا الكشف كمقدمة لأيجاد الحلول الناجعة للمشاكل المؤدية لهذا التخلف . لا للوقوف دون حراك والبدأ بجلد الذات وتحقير النفس كما يفعل معظم مثقفينا هذه الأيام . فتساوو بذلك مع الجهلة منا واللذين هالتهم الحضارة الغربية فأنكفئوا الى الماضي يختبئون ورائه كخط  دفاع اخير ضد هجمة الحضارة الأقوى اللتي تحاول غزونا , وبذلك تعطلت معظم قوى المجتمع العربي مابين واقف ساكن يسب ويلعن . وبين منكفيء الى التاريخ , بدلا من التحرك الأيجابي الى الأمام للنهوض بالمجتمعات العربية من كبوتها .

يعزي "توينبي" احد اشهر علماء التاريخ والأجتماع في القرن العشرين نشوء الحضارات وتقدمها الى  الدافع الحيوي   Elan Vital وهي الطاقة الكامنة لدى الفرد والمجتمع اللتي تنطلق بغرض التحقيق الذاتي حيث يقول (( ان الشخصية النامية او الحضارة تسعى الى ان تصير هي نفسها بيئة نفسها . وتحديا لنفسها , ومجال عمل لنفسها . وبعبارة اخرى ان مقياس النمو هو التقدم في سبيل التحقيق الذاتي . ويكون ذلك من خلال المبدعين من الأفراد , او عن طريق الفئة القليلة من هؤلاء القادة الملهمين . حيث تستجيب لهم الأكثرية عن طريق المحاكاة الآلية اللتي تمثل الطريقة الغالبة في عملية الأنقياد الأجتماعي . وتقود هذه المحاكاة في الجماعة البدائية الى حركة سلفية تترعرع الى محاكاة القدماء . بينما هي في المجتمعات الحضارية النامية حركة تقدمية تؤدي الى محاكاة الطليعة الخلاقة )) .

وكما اسلفت فمن الممكن ان نعذر الجاهل على انكفائه وتقهقره . ولكن ما عذر المثقف اللذي يقف مكانه ليسب المجتمع وليتهمه بالتخلف الفطري والطبيعي . ويدعوه الى رمي الماضي كله بتجاربه ودروسه في سلة القمامة . بل انه وضد كل العلمية اللتي يتشدق بها مدعي الثقافة هذا  يدعوا الى رمي تاريخ الأمة وافكار وتراث جميع القادة المبدعين اللذين الهموها ونهضوا بها في الماضي كما يصفهم توينبي وراء ظهورنا . حتى بات عند هؤلاء التاريخ عارا والدين تخلفا . وبذلك اصبحت المجتمعات العربية ما بين مطرقة المحب المغالي . وسندان المبغض القالي . وبدلا من البدأ بأعادة بناء حضارتنا الخاصة بنا على اسس صحيحة , اصبحنا اما ان ندعوا الى التخلف , واما ان نهرب الى الأمام بمحاولة اسقاط تجارب مقولبة وجاهزة نجحت في اسعاد مجتمعات اخرى على مجتمعاتنا . ليسقط  مدعي الثقافة هؤلاء في هذا الخطأ القاتل اللذي تشخصه مئات النظريات العلمية في علوم التاريخ والأجتماع .

يقول " مالك بن نبي " احد ابرز علماء الأجتماع العرب في كتابه وجهة العالم الأسلامي (( اننا امام جوهرين للحضارة . الجانب الميتافيزيقي او الكوني وهو جانب ذو هدف وغاية . والجانب التاريخي الأجتماعي وهو جانب مرتبط بسلسلة من الأسباب . فالمجموعات العددية المتتابعة من الحضارات المتعاقبة كلها تمثل حلقات في الملحمة الأنسانية الخالدة . وهذا هو وجه الشبه بينها . اما وجه الأختلاف هو من حيث ان كل دورة " محددة بشروط نفسية زمنية خاصة بمجتمع معين " . فأذا توفرت هذه الشروط  توفرت الحضارة . ثم انها تهاجر الى موطن آخر لتتحول الى حضارة اخرى , وفق تركيب جديد للأنسان والوقت والتراب ( أي الفرد والثقافة والتاريخ ووسائل الأنتاج كما يعرفها مالك ) . وفي البقعة المهجورة يفقد العلم معناه كله بسبب توقف اشعاع الروح . فيفقد الأنسان تعطشه الى الفهم وأدارته للعمل . فالظاهرة الدورية (دورة الحضارة) تحتم علينا حل مشكلاتنا وتحديد مكاننا من دورة التاريخ حتى يسهل علينا معرفة عوامل النهضة والسقوط في حياتنا )) .

كما يقول مالك في كتابه " شروط النهضة " . (( للتاريخ دورة وتسلسلا . فهو يسجل للأمة مآثر عظيمة ومفاخر كريمة . وهو تارة اخرى يلقي عليها دثارها ليسلمها الى نوم عميق . فأذا ما أخذنا هذه الملاحظة بعين الأعتبار , تحتم علينا في حل مشكلاتنا الأجتماعية ان ننظر الى مكاننا من دورة التاريخ . فأذا ما أستطعنا ذلك سهل علينا معرفة عوامل النهضة او السقوط  في حياتنا  . وهناك فرق شاسع بين المشاكل في الدورة الزمنية الغربية وتلك اللتي في نطاق الدورة الأسلامية )) .

ما انفك معظم المثقفين العرب المتأثرين بالغرب ومدعي الثقافة منهم يحاولون منذ عقود افهام المجتمعات العربية ان سبب تخلفهم هو عدم اتباع ما توصل اليه الغرب بحذافيره . متناسين اما عمدا اوجهلا بأن ماينفع لغيرنا ليس بالضرورة ان يكون نافعا لنا . فأذا ما فشلوا في اقناع باقي المجتمع العربي من المثقفين والعامة بأفكارهم كما هو واضح اليوم للأسباب اعلاه , وقفوا ونفضوا ايديهم من هذا المجتمع وطفقوا يسبونه ويلعنونه في كتبهم ومنتدياتهم بحاضره وتاريخه ودينه ورموزه دون تفريق . ملقين اللوم على غيرهم من افراده . تاركين متابعة البحث والتقصي لأكتشاف اسباب اخفاقهم هذا  . فأصبحوا علة مهمة من علل تخلف مجتمعاتهم بدلا من ان يكونوا افرادا مبدعين وسببا من اسباب(( الدافع الحيوي )) اللذي وصفه توينبي كشرط من شروط بناء الحضارة . الا بعضهم ممن رحم ربي .

 

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات