تأثير ســد النهضة على النيل الأبيض
مصعب المشرّف
12 مايو 2020م
في حدود عام 1525 قبل الميلاد . رأى الملك "أبابي" في المنام سبع بقرات سِمان يأكلهن سبع بقرات عِجاف ..... ويبدو أننا في عشرينيات هذه الألفية الثانية بعد الميلاد ، موعودون بسبع بقراتٍ عِجاف قد لا يأكلهن قطيع كامل من بقرات سمان.
على ضوء إعلان أثيوبيا مباشرتها تنفيذ خطتها بملء بحيرة سد النهضة العملاق في مدة لا تتجاوز ست سنوات ... ومن خلال متابعتي لندوات وتصريحات وزير الري حول تأثير ملء خزان سد النهضة على تدفق مياه نهر النيل الأزرق خلال السنوات القادمة . وكذلك تحذيرات وتوقعات كل من وزارتي الري والخارجية ثم المخابرات المصرية . فقد لاحظت أنهم جميعا يركزون على جزئية إنحفاض معدلات التدفقات المائية في مجرى النيل الأزرق بوصفه المورد الأهم لمياه نهر النيل. ولم يلتفتوا إلى حتمية تأثير سد النهضة على النيل الأبيض.
وإذا كان المصري معذور لأنه لاينتمي إلى أرض النيلين والمقرن ؛ ولا يعايش "أرواح وأنفاس" وطبائع هذه الأنهار التي تجري من تحتنا في السودان . فما بال وزير الري السوداني يغفل عن إستنتاج ذلك؟
وعن التأثيرات "السلبية" الذي أحاط بها وزير الري مراسلين صحفيين . ققد إنحصر سقف هذه الإحاطة عند تأثيرها السلبية على زراعة الجروف الموسمية لا غير .. ولكنه لم يتطرق إلى إحتمالات زيادة كلفة الري بالطلمبات (البوابير) على ضفاف الأزرق . وأثر ذلك على زراعة الخضروات وحياة أشجار فاكهة البساتين. وأسعار بيع هذه المنتوجات في الأسواق بالمقابلة مع كلفة الري الباهظة.
والمدهش أن التخوفات سواء لدى الجانب السوداني أو الجار المصري ؛ لم تتطرق إلى مدى تأثير تدَنِّي تدفقات النيل الأزرق "الشاب" في قدرتها على سحب مياه النيل الأبيض "العجوز" الكسلان ؛ عند مقرن النيلين ومواصلة المسير حثيثاً نحو الشمال وأقصى الشمال.
هناك إذن ترديات لم يتم الإنتباه إليها فيما يتعلق يتغيرات لابد أنها ستطرأ على ضفتي النيل الأبيض . وقد تؤدي إلى غرق وفيضانات ليست في الحسبان. وعليه فإنه يجب الإحتياط منذ الآن على ضفافه. وعلى نحو خاص شمال خزان جبل الاولياء.
وتأتي هذه الإستنتاجات على واقع أن النيل الأبيض قليل الإنحدار . وبما بجعله بطيء الجريان داخل السودان بعد أن يكون قد قطع مسافات طويلة من بحيرة فكتوريا. وأنه حين يصل منهكاً يتوكأ على ضفتيه حتى المقرن . فإن النيل الأزرق بعنفوانه المعروف سرعان ما بعانقه ويمتزج بمياهه وينفخ فيها الروح والعافية . ويجري بها نحو الشمال من مقرن النيلين بمسمى "نهر النيل".
الذي يجب إستنتاجه بعد تدني معدلات تدفقات النيل الأزرق ؛ أن معدل سرعة وعنفوان جريان هذا النهر ستنخفض كثيراً. وتأثيره على سحب وتنشيط وإصطحاب مياه النيل الأبيض زمن الخريف بعد المقرن نحو الشمال سيصبح أقل ، وربما في بقية مواسم العام الأخرى مستحيل.
تغيرات وتأثيرات كثيرة بعضها جوهرية لم يتم بوضعها في الإعتبار عبر دراسات متخصصة . وتظل بالتالي غير محسوبة سيحدثها سد النهضة الأثيوبي خلال السنوات السبع القادمة على طول مجرى النيل الأزرق ثم نهر النيل ...
وبالنظر إلى سيرة السودان ومصر أحدهما أو كلاهما حيث تنعدم لديهما اسس الإستقراء والإستنتاج العلمي غير الإنشائي . ويغلب على مراكز إتخاذ القرار والإدارات الحكومية وما يطلق عليه جزافاً مراكز البحث العلمي .. يغلب عليها ترك الحبل على الغارب وعدم التعامل مع الكوارث إلا بردود الأفعال والتفسير والتبرير التاريخي . فمن غير المتوقع أن تكون هذه التغيرات التي سيحدثها سد النهضة في بحر السنوات السبع القادمة واضحة لدى الجميع اللهم إلاّ من واقع الحدث... أو ربما إستجابة لدعوة موسى عليه السلام "ربنا أطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم(88)" سورة يونس.
على أية حال ؛ عندما لا يجد النيل الأبيض من يستقبله بحفاوة الماضي من مياه النيل الأزرق . فإنه لن يكون بمقدور هذا الأبيض من خيار إمتصاص الصدمة سوى محاولة الإرتداد على آثاره قصَصَا.
عند إرتداد النيل الأبيض على آثاره بحثاً عن ثغرات لتصريف مياهه . فإنه لن يجد من يمتص الفائض منها سوى ذات اليمين وذات الشمال من ضفافه.
علينا أن نستحضر في هذا السيناريو واقع أن خزان جبل الأولياء الذي يبعد عن مقرن النيلين مسافة 60 كيلومتر تقريبا ... هذا الخزان الحجري المنشأ عام 1937م بإرتفاع حاجزه البالغ 22 متر وبطول 5 كيلومتر .... هذا الخزان سيحول حتما دون قدرة النيل الأبيض على الارتداد المريح إلى الوراء. فالمسافة بين جسم الخزان والمقرن قريبة.
وهكذا يقع النيل الأبيض في هذه المنطقة تحت طائلة المزيد من إبطاء التصريف شمالاً ؛ وما بين مطرقة خزان جبل الأولياء وسندان مقرن النيلين. ستغرق جراء ذلك معظم المساحات المزروعة على هذه الضفاف شمال خزان جبل الأولياء .. وربما يصل به الحال إلى درجة إغراق بعض القرى وعديد من الأراضي الزراعية والأحياء والتجمعات السكنية.
ويبدو والحال كذلك . فإن الأموال التي أفلح الرئيس حمدوك في جمعها من تبرعات قومة السودان . قد يضطر إبتداء من هذا الخريف إلى توجيهها نحو إنقاذ ما يمكن إنقاذه في مناطق النيل الأبيض وعلى رأسها الخرطوم نفسها.
وأما عن حال النيل الأبيض جنوب سد جبل الأولياء فحدث ولا حرج. وحتما سيزداد منسوب المياه في بحيرة هذا السد مما قد يشكل خطورة عليه إن لم تجد المياه تصريف مواتي لها شمالاً ختى لو فتح الخزان أبوابه على مصراعيها.
المشكلة أن منسوب المياه شمال خزان جبل أولياء قد ترتفع هي الأخرى جراء عدم قدرة النيل الأبيض تصريف مياهه شمال مقرن النيلين ... وهو ما سيؤدي إلى إرتفاع منسوب مياه بحيرة خزان جبل الأولياء إلى أعلى مما يحتمل أو مصمم له.
بني خزان جبل الأولياء بتصميم مصري ؛ حرص على توجيه مياه هذا النهر جميعها نحو الشمال . فلم يحتاط له بتصريف ملائم (مفيض) overflow. وإنما بوابات إحتياطية تعمل على تصريف مخزوناته الإضافية الطارئة شمالاً أيضاً.
الطاقة الإستيعابية لخزان جبل الأولياء 3500 مليار متر مكعب. وطول بحيرته إلى الجنوب منه 635 كيلومتر ... ولا يوجد به مفيض للتصريف وإنما 10 بوابات إحتياطية . وهو إذا كان يتكيء على جبل الأولياء من الناحية لشرقية فإنه لا تواجهه من الناحية الغربية سوى ردميات ترابية وأحجار.
أي تراكمات في بحيرة خزان جبل الأولياء سيعني بالضرورة زيادة منسوبها عن معدلاتها الطبيعية . ويشكل ذلك تأثيراً سلبيا غير مرغوب فيه على طلمبات الري في مشاريع زراعية عديدة ترتوي من النيل الأبيض. ومن ثم فإن على حكومة حمدوط الإنتقالية التي جمعت بعض التبرعات لدرء آثار الفياضات والسيول في الخريف القادم ... على هذه الحكومة مراجعة كاة الإحتمالات المفتوحة على الأسوأ منذ الآن وليس مجرد السيء مقارنة بالماضي.
من جميع ما تقدم يتضح لنا أن المصري ليس وحده الذي سيعاني .... ولكن المعاناة ستحيط بنا في السودان على هيئة فيضانات وتدمير لمشاريع زراعية وأنظمة ري وممتلكات فردية وعامة على ضفاف النيل الأبيض ... وأن منظومة الري بالطلمبات سواء على ضفاف النيل الأزرق أو ضفاف نهر النيل شمال الخرطوم ستعاني هي الأخرى ، وتؤدي على نحو مباشر بزيادة كلفة الري ربما بنحو 300% عن ذي قبل . وذلك عند الأخذ في الإعتبار نشأة الحاجة إلى حفر قنوات موسمية داخل المجرى وتركيب المزيد من طلمبات الشفط والضخ (الرمّايات) لتوصبل الماء الكافي أسفل طلمبات الرفع والضخ الأساسية.
التعليقات (0)