المحللين المتخصصين في شارع المال والأعمال وول ستريت يستخدمون مصطلح "مخاطرة سياسية" ولكن الوقائع على الأرض تثبت أن ذالك المصطلح ليس إلا إستثناء وليس القاعدة العامة. وحتى نفهم تلك النقطة بتوضيح أكبر علينا دراسة فترتين تاريخيتين هما: الفترة الممتدة بين ١٨٩٠-١٩٠٠ والفترة الممتدة بين ١٩٥٠-١٩٦٠, فترتان تتميزان بالإضطرابات السياسية والنمو الإقتصادي حيث دخلت دول كبيرة المجال الإقتصادي العالمي مع إزدياد في النمو. كانت الفترة الزمنية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فترة إضطرابات سياسية وعسكرية في البلقان وأفريقيا الشمالية ومناطق ساخنة أخرى حول العالم مما هدد بحروب بين الدول الأوروبية الكبرى. ولكن على الرغم من ذالك فقد نما الإقتصاد العالمي على الرغم من النزاعات وسباق التسلح. العشرة سنين الممتدة بين ١٩٥٠ و١٩٦٠ كانت ذروة الحرب الباردة حيث نشبت مخاطر نزاع نووي مع الإتحاد السوفياتي ونزاع مع الصين بخصوص الحرب الكورية. كما أنه تلتها فترة إضطرابات سياسية ونزاعات عسكرية مثل أزمة مضيق تايوان, الكونجو, قناة السويس, خليج الخنازير وفيتنام التي بدأت كأزمة سياسية ونتج عنها حرب ضروس. على الرغم من تلك النزاعات والحروب فإن الإقتصاديات الصناعية قد عبرت تلك المرحلة بقوة وإزدهار. وفي كلتا الفترتين فقد برز مصطلح إقتصادي وهو صدمة العرض الإيجابية(Positive Supply Shock) وهو ناتج عن عن إرتفاع الإنتاج على المدى البعيد مما أدى إلى طفرة إقتصادية قوية ومستدامة ولفترة طويلة. أوروبا أعادة بناء نفسها من الرماد بفضل المساعدات الأمريكية ونما الإقتصاد الياباني ٩% سنويا لمدة ٢٣ سنة. شيئ أخر لافت للنظر ومتعلق ببدايات القرن العشرين وهو إنخفاض أسعار السلع رغم تزايد الطلب عليها. مثال على ذالك هو إنخفاض أسعار القمح في أوروبا ٢٠%-٣٥% وذالك بفضل المطاحن الأمريكية وإنخفاض أسعار السلع الإستهلاكية بسبب إنخفاض كلفة تصنيعها في الدول الأسيوية. في تلك الفترة نمت سوق الصادرات للكثير من الدول ولكن سوق الواردات أيضا نما بشكل كبير. نحن نعيش الأن في الفترة الثالثة من ذالك النمو الإقتصادي حيث دخل إلى أكثر من ملياري شخص إلى عالم التجارة والأسواق الذي كان قبل ذالك عبارة عن نادي صغير محصورة عضويته بمجموعة من الدول الغربية. إن ذالك التوسع قد نتج عن تحفيز رؤوس الأموال الغربية وإنتقالها لأسيا وحول العالم. وإذا تحدثنا عن العشرين سنة الأخيرة بين عامي ١٩٩٠-٢٠٠٠ فإن الإقتصاد العالمي نما حجمه من ٢٢.١ تريليون دولار إلى ٦٢ تريليون دولار, وحجم التجارة العالمية إزداد ٢٦٧%. ما أصبح يعرف لاحقا " الأسواق الصاعدة " قد إستحوذت على نسبة تزيد عن ٥٠% من ذالك النمو و٤٧% من حجم الإقتصاد العالمي(٣٣% بأسعار التبادل وفق مبدأ تعادل القوة الشرائية). الأزمات الإقتصادية, الركود, مشكلة تراكم الديون التي أثرت على إقتصاديات الدول الصناعية لم تنجح في وقف النمو الإقتصادي على مستوى العالم. الكثير من معارضي وجهة النظر تلك يستعينون بمثال اليابان لدعم رأيهم حيث أنه في بداية فترة الثمانينيات كان الغرب متخوفا من تحول اليابان إلى الدولة الصناعية الأولى وأن يصبح الإقتصاد الياباني هو المهيمن على الإقتصاد العالمي, بينما اليابان قد تباطئ نموها الإقتصادي إلى مستويات غير مسبوقة وإستمر إلى يومنا هاذا كأطول فترة ركود على مستوى العالم. هاذا خطأ كبير من قبلهم حيث أنه سنة ١٩٨٥ كانت اليابان من أثرى الدول على مستوى العالم وكانت توقعات المحللين أن الإقتصاد الياباني سوف يتجاوز نظيره في الولايات المتحدة كأكبر إقتصاد على مستوى العالم ولكن ذالك لم يحصل لأن الأسواق في اليابان, الصناعة, التجارة والسياسة مازالت تعمل وفق الطرق التقليدية والقديمة فإن اليابان سوف تبقى عاجزة عن إتخاذ تلك الخطوة الأخيرة. الصين على النقيض من ذالك بلد فقيرة حصة الفرد فيها من الناتج المحلي الإجمالي ٤٣٠٠ دولار سنويا وسوف تواجه الكثير من المشاكل في حال أصبحت الدولة العظمى رقم واحد على مستوى العالم. وعلى الرغم من ذالك فإن الصين في المستقبل القريب سوف تنج في زيادة حجم إقتصادها بمقدار الضعف إذا إستمرت فقط في تصنيع الملابس واللعب وأجهزة التلفونات الخليوية. حالة أخرى مما يطلق عليهم الدول الصاعدة وهي الهند حيث بدأت بقاعدة توزيع الدخل للفرد أقل من الصين وسوف تحتاج لعدة عقود قبل أن تصطدم بعقبات كتلك التي تواجهها اليابان. تاريخيا كانت السيطرة الإقتصادية والهيمنة التجارية للدول ذات التعداد الأقل للسكان, البرتغال, هولندا, إسبانيا وبريطانيا أمثلة واضحة على ذالك. كان ذالك صحيحا تاريخيا حتى بروز الولايات المتحدة وهيمنتها على المشهد وتعزز دورها خصوصا في الحرب العالمية الأولى والثانية. الولايات المتحدة كانت الدولة الأكبر في عدد السكان ولكن سيطرتها وهيمنتها مشروطة ببقاء الدول الأخرى ذات الكثافة السكانية غارقة في الجهل والفقر والتخلف. الحاصل الأن هو أن دولا مثل الصين والهند آخذة بالبروز تجاريا وإقتصاديا وتصبح منافسة لأمريكا حيث تحوزان كتلة سكانية ٢.٥ مليار شخص ويحسبة رياضية بسيطة فإن أي رقم مضروب برقم ٢.٥ مليار سوف يتحول لعدد لا يستهان به. قبل إنهيار الإتحاد السوفياتي كان هناك نظامان إقتصاديان هما الرأسمالية وتمثلها الولايات المتحدة والشيوعية التي كان يمثلها الإتحاد السوفياتي, حلف الناتو وحلف وارسو. شكل إنهيار الإتحاد السوفياتي نقطة تحول للكثير من البلدان التي كانت تتبنى النهج الإقتصادي الإشتراكي الذي كان يهمش دور القطاع الخاص ويتبنى التخطيط المركزي كما كان هناك بلدان أخرى تحاول أن تتبى نهجا وسطا وجدت نفسها فجأة بدون خيارات أخرى. هي كما ذكرت رئيسة وزراء بريطانيا الاسبقة مارجرت تاتشر " لايوجد خيار أخر ". كانت هناك نقاشات وحوارات حتى قبل إنهيار الإتحاد السوفياتي عن النهج الإقتصادي الأصح الذي يجب إتباعه حيث أن صندوق النقد الدولي كان يزداد إنتقادا للبلدان ذات النهج شبه الإشتراكي أو شبه الرأسمالي. هل يجب إتباع النهج الإقتصادي للسويد؟ أم فرنسا؟ أم الولايات المتحدة؟ أغلب تلك البلدان لم يحتار في إتخاذ قراره حيث أنهم كانوا بالفعل أقرب للنهج الإشتراكي ولكنهم وجدوا أنفسهم وحيدين بدون موجه بعد سقوط الإتحاد السوفياتي وإنهيار معسكر حلف وارسو. القوة الإقتصادية التي كان محركا للنمو في الحقبة الجديدة كانت حرية حركة رأس المال, تلك الظاهرة كانت ظاهرة معاصرة. الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية تميزت بأسعار صرف ثابتة وتقييد حركة رأس المال سواء بالدخول أو بالخروج لبلدان غربية مثل فرنسا وإيطاليا كما تميزت بربط الدولار الأمريكي بالذهب على سعر صرف ٣٥ دولار أمريكي للأونصة. الكثير من الدول الأوروبية ألغت كل تلك القيود خصوصا بعد أن فك الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون الإرتباط بين الذهب والدولار الأمريكي سنة ١٩٧١, والنتيجة كانت نمو إقتصادي وحركة إنسيابية واسعة لرأس المال من بلد لأخرى. الحركة الواسعة لرأس المال وإنسيابية التجارة بين البلدان المختلفة رافقها إنشاء البنوك المركزية المستقلة ومحارية التضخم. التضخم المفرط هو العدو الذي تسعى كل الدول لمحاربته حيث قد يؤدي إلى الثورات وجعل قيمة النقود ومدخرات التقاعد لا قيمة لها. الكساد الإقتصادي قد يسلب الشخص ماهو ليس في حوزتك ولكن التضخم المفرط قد يؤدي إلى أن يسلب الشخص ماهو في حوزته الفعلية. إن التضخم المفرط هو الذي أدى إلى تصعيد الحزب النازي برئاسة هتلر للحكم في ألمانيا وليس الكساد الإقتصادي. الولايات المتحدة بدأت محاربة التضخم في سنة ١٩٨٠ بعد أن إستفحل وذالك عبر مجموعة إجرائات تهدف إلى السيطرة على أسعار السلع والخدمات وإبقائها مستقرة. ومن المعروف في نطاق رجال المال والأعمال أن الكساد الإقتصادي يضرب مرة كل أربعة سنين ويدوم لسنتين كاملتين. في الولايات المتحدة, نتيجة الجهود المبذولة لمحاربة التضخم وخلال العقدين السابقين للأزمة الإقتصادية ٢٠٠٧-٢٠٠٨ فإن الولايات المتحدة تمتعت بفترة نمو إقتصادي متواصل بلغت عشرة سنين وعندما حل عليها الكساد فإنه دام ثمانية أشهر فقط. الحلول الإقتصادية التي إعتمدت الولايات المتحدة عليها لخفض مستوى التضخم والخروج من أزمات الكساد أصبح من أهم صادرات أمريكا في أواخر الثمانينيات(معنى مجازي) حيث كان هناك عدد من البلدان المهمة مصابة بالتضخم المفرط والذي بلغ مستويات غير مسبوقة. في الأرجنتين بلغ ٣٥٠٠%, في البرازيل ١٢٠٠% وفي البيرو ٢٥٠٠%. ومع بداية سنة ١٩٩٠ وتوجه لتلك البلدان نحو سياسات مالية ونقدية صارمة وترشيد النفقات حيث قبلت بعض البلدان بتعويم عملتها أو ربط قيمة صرفها بالدولار أو باليورو. ومنذ سنة ٢٠٠٧ لم يوجد بلد يعاني من مستوى تضخم أكثر من ١٠% من عدا زيمبابوي التي تخلصت من التضخم المفرط بالتخلي عن عملتها والإعتماد على عملة جنوب أفريقيا والدولار الأمريكي في التعاملات التجارية. ثورة التكنولوجيا والمعلومات ساهمت لحد كبير في الطفرة الإقتصادية والإنتعاش الإقتصادي حيث يمكن إرسال إيميل في ثواني معدودة وإجراء صفقة عبر الهاتف. كما يمكن نقل الحدث الحاصل في تايوان على شاشات بث مباشر في ماديسون سكوير في نيويورك. ويمكن تلخيص الرأسمالية وكيف إنتشرت كالتالي: - دخول سفن الشحن الكبيرة الخدمة في القرن الخامس عشر مما أدى إلى إزدياد حركة وإنسيابية البضائع. - تطور التعاملات المالية والمصرفية مما أدى إلى زيادة حركة المال وهاذا كان في القرن السابع عشر. - سنة ١٩٩٠ إنتقال العمالة من بلد لبلد أصبح أكثر سهولة وإنسيابية. ليس بالضرورة أن يذهب الباحث عن عمل إلى حيث توجد فرص العمل, بل فرص العمل تأتي إليه. العوامل الثلاثة: السياسة, الإقتصاد والتكنولوجيا تكاملت معا لتدفع بنفس الإتجاه نحو إقتصاد تكاملي ومترابط مع بعضه البعض مما يؤدي إلى تشكيل بيئة دولية مناسبة للمال والأعمال وعقد الصفقات. سوف نأخذ مثالين سريعين لدولتين إستفادتا من العوامل الثلاثة السابقة, تركيا والبرازيل. كلا البلدين كان يعاني من تباطئ النمو الإقتصادي, التضخم المستشري, تصاعد مستوى الدين, قطاع إقتصادي معتل ونظام سياسي هش. في يومنا هاذا فإن البلدين يتمتعان بمستوى تضخم منخفض, نمو إقتصادي تصاعدي, إنخفاض مستوى الدين, إنتعاش القطاع الخاص ونظام سياسي مستقر يتمتع بمؤسسات ديمقراطية. تركيا مؤخرا قامت بتسديد أخر دفعة عليها من ديون صندوق النقد الدولي ومعدل التضخم في البرازيل يساوي مثيله في الولايات المتحدة. تركيا والبرازيل سوف تعانيان من المشاكل والتحديات ولكن هل يوجد أي بلد في العالم بدون مشاكل؟ أو لا يواجه التحديات؟ رابط الموضوع على مدونة علوم وثقافة ومعرفة http://science-culture-knowledge.blogspot.ca/2014/11/blog-post_2.html الرجاء التكرم لو سمحتم بالضغط على رابط الموضوع بعد الإنتهاء من قرائته لتسجيل زيارة للمدونة تحياتي وتمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية النهاية
التعليقات (0)