مواضيع اليوم

بُترت ساقي

ختام البرقاوي

2010-07-01 10:03:28

0

كان الجو شديد الحرارة ما أجبرني على غلق النوافذ و تشغيل المكيف داخل السيارة على أنني لم أكن من محبيه و ما استعملته يوما طوعا بل على مضض اضطرارا خاصة مذ بدأنا نعيش هذا الارتفاع المقرف في درجات الحرارة. عبر موجات الاثير لاقى البرنامج الحواري هوى في نفسي فقد خصص هذا اللقاء المباشر لموضوع الاحتباس الحراري غير ان نمطيّة المتدخلين و كلامهم المنمق الذي لا يمدّّ للحقيقة بصلة جعلني أغلق المذياع ساخطة على الوضع. تذكرتُ الموعد و للتو غادرت مأرب السيارات المتواجد اسفل البناية التي كنتُ أعمل فيها.
لا بدّ لي أن أكون في الموعد فانا بطبعي امقت عدم احترام المواعيد و لا يكمن أن تُطالب الآخر بان يكون دقيقا في مواعيده ما لم تلتزم أنت بذلك فمن العبث أن تفرض على الآخرين ما تعجز أنت عن تطبيقه.

انطلقت في مهل كعادتي فلم أكن يوما من المتعجلين خاصة و أنا أمام مقود السيارة. كنت دائما شديدة التركيز وقت القيادة لأني أعتبرها مسؤولية على قدر كبير من الأهمية. فالسائق مسؤول عن نفسه أولا
و بالذات و لكنه أيضا مسؤول عن المترجلين و عن مستعملي الطريق. كان إحساسي بالمسؤولية خلال عملية القيادة مُرتفعا و لعلي كنتُ أحاول أن ابعث في نفسي شيئا من الطمأنينة بان أُخيل إلى نفسي أنني مسيطرة على الوضع بتركيزي ذاك.
استحسنت الجو اللطيف الذي صنعه من اجلي المكيف الداخلي للسيارة و استرخت أعصابي قليلا. وقفت عند الإشارة الحمراء انتظر انتقالها الى الخضراء.
ما لبثتُ ان تقدّمت قليلا حتى تطايرتُ و سيارتي في الهواء. كان صوت الحادث مروعا و لم أذكر عن ذلك اليوم أكثر من ذلك الإحساس بالخوف الشديد الذي اقترن لدي بدوي الاصطدام. خوف لأنني وقتها لم استوعب ما حدث و لم يكن الوقت قد أمهلني حتى استكشاف الامر.

داخل سيارتي التي تحوّلت الى كتلة من الصفيح توقّف الزمن او خرجتُ أنا عن الإطار المتعارف عليه للزمن. كنت أسمع بدقة كلّ ما يدور حتى أنني و في وسط الزحام الذي تشكل من حولي ميّزتُ رنّة هاتفي المحمول و أدركتُ أن المتصل أمي ذلك لأنني خصصتُ لها رنة مميزة.
في أعماقي نفسي ابتسمت و تساءلتُ لما عساها تتصل بي الان؟ لا بدّ انها في حاجة الى شيء ما. ستطلب مني حتما ان أحضر الخبز في طريق العودة. ام تراها أحست بالخطر المغدق بي و فَََتن عليّ قلبها ان يا ماما لستُ بخير.انجديني...لا يُمكنني جلب الخبز معي هذا المساء..
قطع ازيز الالة القاطعة حبل افكاري فقد تولى اعوان الحماية المدنية مهمّة قطع كومة الصفيح التي كانت الى زمن غير بعيد تُسمى سيارتي، تولّوا قطعها الى نصفين من اجل اخراجي و اسعافي.
كيف لهم ان يشطروا سيارتي الى نصفين دون موافقتي؟
لم أكن بعد قد أكملت دفع أقساط السيارة و سرى التوتر في روحي لان جسدي وقتها لم يكن قادرا على التفاعل معي و الحركة.
نُقلت على وجه السرعة الى المستشفى و حمدا لله لم أمت. لكن الأطباء اضطروا إلى بتر ساقي لإنقاذ حياتي.

حين فتحتُ عيني لم اكن بعد قد أدركتُ انني لم اعد انتمي تماما الى جنس البشر المترجلين و لا انتمي تماما الى جنس البشر المقعدين. أصبحت بين بين. بين الماشين على اقدامهم و بين العاجزين عن الحركة و لازلت اجهل ان كان علي ان افرح ام ان احزن. فكوني فقدت ساقا واحدة يمكن اعتباره في الوقت الواحد نعمة كما يمكن اعتباره نقمة. ذلك وقف على مزاجية المتأمل في الأمر ان كان ممن يميلون الى رؤية النصف الممتلئ من الكأس ام النصف الفارغ منها.
يوم بُترت ساقي تغيّرت كلّ حياتي. كنت سابقا حين اودّ ان أنتقل من مكان الى اخر أنطلق حالما المس في نفسي الرغبة في ذلك.اليوم اصبح امر الانتقال من مكان الى مكان وقفا على مدى استعداد شخص اخر لمساعدتي على هذه العملية.
كنت و انا أمشي على قدميّ مزهوّة بنفسي لم تُراودني يوما فكرة ان امتلاك قدمين نعمة لست انا من من يتحكم في ديمومتها او زوالها.
أصبحت اليوم اعترف ان امتلاك قدم واحدة و يدين و عينين نعمة يمكنني التصرّف فيها الى اجل غير مسمى.

أعترف اليوم بعد ان بُترت ساقي و بعد فوات الاوان انني لم أستغلّ قدمي على الوجه الاكمل لانني حين كنت قادرة على المشي غالبا ما استعضت عن تلك الملكة بركوب سيارتي و ان ترجّلتُ يوما فعلى مضض و بعجلة مفرطة كأن المشي كان يحُطّ من قيمتي أو كأنه كان مضيعة للوقت.
بعد ان بُترت ساقي أصبحت أقصى أمنياتي ان أترجّل يوما على ضفاف بحيرة أو أركض يوما للحاق بالحافلة.
انني لا أنكر ان إحساسي بالعجز هذا قد حرّك فيّ ملكات أخرى كنت أهملها في الماضي. فمتعة النظر مثلا حكر على القاعدين أمثالي. فأن تضطر للجلوس على كرسي متحرك أمر يشلّ الحركة صحيح لكنّه ينمي حاسة النظر و يجعلك قادرا على عكس المترجلين قادرا على التأمل في كل الأشياء حتى ابسطها. كما ان متعة الجلوس المطوّل تنمي الحس الفكري و ذلك لارتباط التفكير بالتّأمل و لعلي أدركت مذ بُترت ساقي أن الفيلسوف إنسان عاجز عن الحركة وسط الغوغاء ما يُرغمهُ على الانسحاب بعيدا عنهم ليتأمّل شأنهم و يُحدّثهم في أمرهم.

على كل ان تلزم كرسيا متحركا ليس بالأمر الهين فالحالة تقتضي تنمية مخصوصة لبعض العضلات التي تعوّدت الارتخاء مثل اليدين التي أحرّك بها هذه الآلة العجيبة التي أصبحت تحملني مثل سيارتي سابقا غير ان سيارتي كان يتحكم في سيرها محرك في حين تتحكم عضلات يدي في تحريك العجلتين الملتصقتين بكرسيي المتحرّك.
عجيب هذا الإنسان ما انفكّ يبتدع لنفسه الآلة تلو الأخرى حتى تنقله من مكان ما إلى آخر.
حاولتُ اقناع نفسي ان من ابتدع السيارة هو عاشق ولهان انتقلت حبيبته الى مكان اخر و تعذّر عليه رأيتها فابتدع لنفسه سيارة يركبها كلما هزّه الشوق اليها و تسليت بالفكرة ربما رغبة مني في نسيان حبيبي الذي هجرني بعد أن بُترت ساقي.
لست ألومه على ذلك و لكن كلما خطر على بالي أمره تساءلت ماذا لو كنتُ مكانه و كان هوَ من فقد ساقا او يدا او عينا أو...أو... هل كنتُ لأهجره كما فعل؟ بل كنت لألازمه و أحاول التخفيف عنه على الأقل بان اقضي عنه كل تلك الأمور التي تستوجب الحركة. تأمّلت الأمر أكثر و وجدتُ أن التضحية اقترنت في ذهني بالنساء. التضحية حكر على المرأة هذا ما رسخ في بالي. رُبّما لانها صبورة أكثر من الرجل او ربما لأن المرأة بطبعها كائن انفعالي.

لم أكن قبل أن تُبتر ساقي أخصص كل هذا الوقت للتفكير و الكتابة فان تصبح عاجزا عن الحركة يمكّنك من التصرّف في حيّز أوسع من الزمن. هذا الأمر عجيب فعجزي عن التحكم في عامل المكان الراجع إلى عجزي عن الحركة جعلني أسيطر أكثر على عامل الزمن بأن مكنني من بلوغ رغبة كانت تخفى عني. حيث تفرّغت للكتابة بعد أن أجبرتُ على ترك وظيفتي بما ان مكتبي كان متواجدا بالطابق الثالث و لم يكن في الإدارة مصعد...




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !