بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ صدق الله العلي العظيم.. حينما يريد الإنسان أن يبحث ويتأمل في شخصية كعلي يجد نفسه غارقاً في بحر من نور، إذ لا يمكن لنا أن نحيط بتفاصيل هذه الشخصية العظيمة بل أننا نحتار حتى حينما نريد أن نلقي كلمة في رحاب قدسه البهي يقول الرسول الأكرم : «يا علي ما عرفك إلا الله وأنا»، فأمير المؤمنين يحوي أسرار لا تحيطها عقولنا بل أنها لا تدركها، كيف لا وهو نور الله جل جلاله، وقد حباه الله عز وجل من الفضائل ما لا يحصي له الخلائق عددا، واصطفاه لمقام الإمامة كما اصطفى محمداً لمقام النبوة، فجعله الله خليفة ووصي لرسوله وهذا بحد ذاته مقام عظيم.إما أن البعض لا يدرك عظمته وإما تجاهل هذه العظمة فجعل أمرها بيد البشر يعبثون به كيف يشاءون ويمنحوه لمن يرتضون بينما الله عز وجل يخاطب نبيه إبراهيم بقوله: «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً» فكان الجعل والاختيار من قِبل الله عز وجل لا أحداً غيره.. أضف إلى ذلك أن الله أعطى نبيه هذا المقام وهذه المنزلة بعد مقام النبوة لوجود قرينة الذرية ونحن نعلم أن إبراهيم لم يرزق بالذرية إلا في الكبر ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ﴾ بينما كان نبياً منذ شبابه وصباه كما في قوله تعالى: ﴿ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ﴾ فإذا لم تكن الإمامة أعلى مقاماً من النبوة فكيف نفسر جعل الله لنبيه إبراهيم الخليل إماماً مع أنه كان نبي حينها..؟! وهل يمكن أن يهب الله لنبيه منزلة ومقاماً أقل من منزلته ومقامه الذي عنده..؟! بل أن الآية الكريمة تشير إلى أنه نال هذه المرتبة بعد عدة من الامتحانات والابتلاءات التي كانت مقدمة لنيل هذا المقام الرفيع. إذاً الإمامة هي مقام أعلى من مقام النبوة وعلي ممن اصطفاه الله عز وجل لهذه لمنزلة والمكانة، ولو بحث أي شخص في بطون السير وبين الصحابة السابقين واللاحقين عن شخص له السبق على علي في أي فضيلة أو منقبة، لن يجد إلى ذلك من سبيل..؟! يقول الرسول الأكرم : «إن الله جل جلاله جعل لأخي علي بن أبي طالب فضائل لا تحصى كثرة فمن ذكر فضيلة من فضائله مُقراً بها غفر الله له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر ومن كتب فضيلة من فضائله لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم ومن أصغى إلى فضيلة من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالاستماع ومن نظر إلى كتاب في فضائل علي غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالنظر. ثم قال: النظر إلى علي عباده وذكره عبادة ولا يقبل الله إيمان عبد من عباده إلا بولايته والبراءة من أعداءه»فلا بأس علينا أن نعرج منطلقين من خلال حديث رسول الله إلى قطرة من بحر فضائل أمير المؤمنين الذي أينما توجهت وقلبت في صفحات التاريخ لن تجد تضحية كتضحياته ولا شجاعة كشجاعته ولا ظُلامة كظلامته، فقد كان علي أول من آمن بالرسول وصدقه وقولنا هذا لا يعني إطلاقاً عدم إيمان علي بالله عز وجل قبل البعثة، بل أنه كان موحداً لله حتى قبل ولادته يقول رسول الله : «إن الله خلقني وعلياً من نور واحد إنا كنا في صلب آدم نسبح الله عز وجل ثم نقلنا إلى أصلاب الرجال و أرحام النساء يُسمع تسبيحنا في الظهور والبطون»، فعلي لم يكفر بالله طرفة عين وإنما كان أول من أسلم أي أول من صدق رسول الله واتبعه في رسالته ودعوته قبل الناس يقول : «لقد صلّت الملائكة عليّ وعلى عليٍّ سبع سنين لأنا كنا نصلي وليس معنا أحد يصلي غيرنا». أيضاً لقد نشأت مع علي روح التضحية والفداء في سبيل الإسلام منذ صباه حيث أنه بات في فراش رسول الله والقوم شاهرين سيوفهم في خارج الدار استعداداً لقتله، فلم يخاف ويتراجع بل نام قرير العين، شاكراً لله تعالى. ومع الأسف حينما يذكر التاريخ الهجرة النبوية يركز على مرافقة أبي بكر لرسول الله ويتجاهل موقف أمير المؤمنين ..!! انطلق معي إلى معارك المسلمين ضد الكفار والمشركين تجد أن علي جسد أسمى معاني البطولة والشجاعة والتضحية، ففي معركة بدر الكبرى كان عدد قتلى المشركين سبعون قتيلاً ستة وثلاثون منهم قُتلوا بسيف علي . وفي معركة أحد فرّ المسلمون ولم يبقى حول رسول الله إلا علي وقليلون يذودون عن رسول الله وقد نادى رضوان في السماء «لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي». وفي الخندق لم يتجرأ أحد على مبارزة عمرو بن ود سوى علي وكان عمرو بن ود من الأبطال إلى درجة أنهم يعدونه بألف فارس، وكان وقتها يهزأ بالمسلمين ويقول لهم أين جنتكم التي تزعمون أن من قُتل منكم دخلها..؟! فقال رسول الله للقوم، من لعمرو وأنا أضمن له على الله الجنة..؟ فلم يجبه أحد إلا علي وقد كررها ثلاث مرات ولم يكن من مُجيب سوى علي فأخذه رسول الله وألبسه درعه وأعطاه سيفه ودعا له وقال فيه «برز الإيمان كله للشرك كله» وقال أيضاً رسول الله «ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين»، وهنا نقف وقفة سريعة مع من يستكثر أن يكون لضربة علي كل هذا الفضل والثواب الذي يفوق عبادة الثقلين، ونقول لهم حتى تعرفوا هذا المعنى لا بد عليكم أولاً الخروج من نظرتكم المحدودة والانطلاق نحو أفق أوسع. أسألوا أنفسكم عن مدى الانكسار وروح الانهزامية التي دخلت كل بيت من بيوت المشركين، وفي المقابل روح النصر والعزة التي دخلت كل بيوت المسلمين..؟ أبحثوا عن عمق الإخلاص لله تعالى الذي تجسد في هذه الضربة؟ أولم يكف الله المسلمين القتال بعلي ..؟ ثم ألا تُرسخ هذه الضربة دعامة قوية للإسلام في بداية اشتداد عوده..؟! فلو أردنا الخوض في حديث ضربة علي يوم الخندق وأبعادها لاحتجنا مجلساً كاملاً.. ومع الأسف الشديد بدلاً من أن تتخذ الأمة من مواقف علي منهجاً وسُلماً يوصلها إلى مدارج الكمال، نجدها أغفلتها بل وقللت من شأنها فقبل أيام وبينما كنت أتصفح الانترنت وجدت أحد الكتاب وقد نشر موضوع من عدة صفحات يحاول من خلاله إثبات عدم صحة حديث «ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين» بل أكثر من ذلك يقول هذا الشخص أن عمرو بن ود كان مصاباً من معركة بدر وقد أضعفته الإصابة في يوم الخندق كما وأنه رجلاً كبير السن جاوز الثمانينات فلا تستحق هزيمته أن تكون منقبة وفضل يُعتد به..؟! وهنا لا أدري لِم لم يبحث هذا الشخص عن سبب عزوف المسلمين جميعهم عن مبارزته مع أن رسول الله أعطاهم ضمان الجنة..؟! ألهذا الحد يراهم هذا الكاتب الموقر ضعفاء وجبناء يخشون مبارزة شيخ كبير..؟!! ليت هذا الشخص يقدم أطروحة وبحث متكامل حول «إرضاع الكبير» المثبت فيما يعتبرونه أصح الكتب بعد كتاب الله بدلاً من أن يبدل قصارى جهده في نفي أحاديث وردت في كتب كِلا الفريقين تشمل على فضائل علي .. واجمع المسلمون على صحتها... فلا أحد ينكر أن حصون اليهود لم تُفتح إلا على يدي علي وأن المحاولات التي سبقته باءت بالفشل. لقد كانت ضربات علي في المعارك وتر أي ضربة واحدة لأنه لا يحتاج لغيرها للقضاء على عدوه، ومع كل ذلك فالتاريخ لم ينصف علياً فقد انصبت ظلامته على شخصية الإمام إلا أنه ظل متربعاً فوق عرش التاريخ ويختصر علينا الحديث هنا ما قاله الخليل بن أحمد الفراهيدي وهو اللغوي والنحوي الشهير حينما سُئل: ماتقول في علي فقال: ماذا أقول في رجل أخفى أعداءه فضائله حسداً وأخفاها محبوه خوفاً وظهر ما بين ذين وذين ما ملأ الخافقين. فعلي أعظم من أن تستطيع الألسن إخفاءه أو إظهاره، وكثيرة هي شواهد التاريخ في هذا الجانب، وهل يخفى على أحد ما قام به الأمويون من شتم للإمام على منابرهم وفي خطبهم لصلاة يوم الجمعة قرابة ثمانون عاماً...؟! والمصيبة أن من يقومون بهذا العمل يعدونهم من كبار المشايخ بل ورواة حديث أيضاً ومنهم حريز بن عثمان الذي كان لا يخرج من المسجد بعد صلاة الفجر حتى يلعن علياً سبعين مرة..!! ألم يكتب معاوية لعماله «لا تتركوا خبراً يرويه أحداً منا لمسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة..» وهذا ما حدث فلو سألت المسلمين اليوم من الصديق لقالوا أبي بكر ومن الفارق لأجابوا عمر بينما رسول الله يقول في علي «هذا الصديق الأكبر وهذا فاروق الأمة يفرق بين الحق والباطل».تصوروا أن هناك من لا يعترف بخلافة أمير المؤمنين حتى أيام الدولة العباسية. لقد كان الإعلام في تلك الفترات وحتى هذه الأيام مضلل لدرجة أنه حينما وصل إلى الشام خبر أن علي ضُرب على رأسه وهو يصلي في محرابه، تساءل أهل الشام: أوكان علي بن أبي طالب يصلي..؟!! حقيقة تدمي القلوب قبل العيون..أن يكون من هو الإيمان كله بشهادة رسول الله كافراً في نظر البعض، يقول فيه أحد الخوارج «كافر ما أفقهه» ، بل أن أحد المؤرخين اعتبر ابن ملجم مجتهد في قتله الإمام علي وحيث أن اجتهاده أخطأ فله أجر واحد..!! ولكن مع كل هذه الظلامة إلا أن علي يزاداد علو ورفعة وارتقاء.وختاماً حتى نحن مقصرون تجاه الإمام وذلك حينما يكتب المسيحي جورج جرداق عدة مجلدات «علي صوت العدالة الإنسانية» وحينما ينظم المسيحي بولس سلامة قصيدته في مدح علي .. «لا تقل شيعة هواة علي..» وعندما يتطرق الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان الغير مسلم لكتاب علي لمالك الأشتر ويأمر بدراسته واعتماده كأحد مصادر التشريع الدولي... بينما نحن لا يعرف أطفالنا وشبابنا الكثير عن شخصية علي وبطولاته وأخلاقه وعلمه وما قدمه للعالم وللإنسانية.. وفي الحقيقة مهما قلنا ومهما حاولنا سنبقى مقصرون جداً أمام هذه العظمة التي ليس لها منتهى.. أسأل لله القبول والتوفيق لي ولكم جميعاً وأسألكم الدعاء..
أُلقيت هذه الكلمة في حسينية أبي الفضل العباس (ع) في ذكرى أستشهاد الإمام علي (ع) 1431هـ
التعليقات (0)