مواضيع اليوم

بين كلب العقاد وحمار الحكيم

nasser damaj

2009-05-11 14:19:53

0

قضاء الكلمة

بقلم: خليل إبراهيم الفزيع..

 

إهداء مع التقدير

للصديق الشاعر المبدع: حسن توفيق..

 

بين كلب العقاد وحمار الحكيم..

في حياة الأدباء جوانب يتيح الاطلاع عليها فسحة من المعرفة لفهم نفسياتهم وإزالة الهالـة من الجدية الصارمة التي يحاول قراؤهم إلصاقها بهم نتيجة استنتاجات في غير محلها. فهم يمارسون حياتهم كغيرهم من البشر بعيدا عن البروج العاجية، والترفع عن مخالطة الناس والتميز بسلوك مثالي جاد، وغير ذلك من الصفات التي يحاول القراء أو النقاد إلصاقها بهم، وكأنهم من عالم غير عالمنا، بينما هم في حقيقة الأمر يمارسون الحياة كما يمارسها غيرهم دون تكلف أو تعقيد، وقد تبلغ بأحدهم البساطة إلى حد التصرف بما يبدو غريبا في نظر بعض الناس بينما يراه آخرون نوعا من (شطحات) العبقرية.

من أدباء العربية الذين أثروا الأدب العربي المعاصر بغزير إنتاجهم وبديع بيانهم ورائـع أدبهـم.. عباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم اللذان لم يجمع بينهما زمن كانوا فيه ملء السمع والبصر فقط.. ولم تجمع بينهما الشهرة فقط، ولم يجمـع بينهما العداء السافر للمرأة فقط، بل جمع بينهما إلى جانب ذلك أمر قد يجد فيه بعض القراء باعثا على التأمل ذلك هو حب العقاد لكلبه والحكيم لحماره.. حب استحوذ لدى كل واحـد منهما على جـل تفكيره، ودفع به إلى الكتابة عن صاحبه بالكثير من الوفاء والتقدير والإعجاب والإخلاص.

والحديث عن كلب العقاد وحمار الحكيم يذكرنا بواحدة من القصص التي وردت في أدب التراث عن أبى العنبس وقد سأله المتوكل يوما عن أخبار حماره فقال:

(كان حماري أعقل من غيره، ولم تكن له جريرة أو زلة، فاعتل على غفلـة، فمات، فرأيته فيما يـرى النائم، وقلت له: يا حمارى، ألم أبرد لك الماء، وانق لك الشعير، وأحسن إليك جهدي، فلم مت في غفلة وما خبرك؟ قال: نعم لما كان اليوم الذي وقفت فيه على فلان الصيدلاني تكلمه في بعض أمورك، مرت بي أتان حسنـاء أخذت بمجامع قلبي، فعشقتها واشتد وجدي بها ، فمت كمدا وشوقـا، فقلت يا حماري، فهل قلت في ذلك شعرا؟  قال نعم، وأنشدني:

هـام قلبي بأتان       عند باب الصيـدلاني

تتمشى يوم رحنا       بثناياهـا الحســـان

وبخـدين أســيلين كلـــون الشنقـراني

فبها مت ولـــو عشت إذن طـال هواني

قلت: ياحماري، فما الشنقراني ، قال هذا من غريب الحمير.

وإذا كان حمار الحكيم قد نال شهرة واسعة نتيجة ما كتب عنه، فإن كلب العقاد ـ واسمه بيجو ـ أقل شهرة من حمار الحكيم، لأن الحكيم بلغ به الإعجاب بحمـاره إلى حد تأليف بعض الكتب عن ذلك الحمار مثل (حمار الحكيم) و(حمـاري ومؤتمـر الصلـح) و(حماري وحزب النساء) بينما اكتفي العقاد بكتابة بعض المقالات التي وصفت علاقته بكلبه وإعجابـه به، والتي ذكـر جانبا منها الأستاذ رجاء النقاش في كتابه (عباقـرة ومجانين)، وفي الحالتين كانت الكتابة نابضة بحرارة الوفاء، متوهجـة بصدق العاطفة، مشحونة بالتحليل، وفلسفة العلاقة بين الإنسان وهذين الحيوانين اللذين يمثل أحدهما منتهي الوفاء والآخر منتهي الصبر.

ومما ذكره الأستاذ رجاء النقاش في كتابه عن كلب العقاد:

( على أن أجمل ما وجدته في كتابات العقاد مما يدل على رقة طبعه، وعمق إنسانيته وإحساسـه الكبير بعاطفة الرحمة، هي قصته مع كلبه بيجو، فلقد كان للعقـاد كلب يربيه في بيته ويحبه أشد الحب، وكان يجد في هذا الكلب أنيسا له في وحدته، وكائنا يملأ عليه حياته الفكرية المنعزلة، بالحركة والنشاط والحيوية.

وقد كتب العقاد عن هذا الكلب مقالا طويلا مليئا بالدراسة والتحليل، واستنتج من علاقته بكلبه أفكارا كثيرة، ومن أهم هذه الأفكار ما قاله العقاد في آخر مقاله عن كلبه:

.. والخلاصة أن بيجو مخلوق مفيد، ومخلوق أنيس، وهو أفيد ما يكون في المكتبة التي يبغضها ويستثقل ظلها، لأني استفدت على يديه فوائد جليلة وأنا أقرأ بعض الكتب الحديثة عن علم النفس وعلم الاجتماع.

يقول علم النفس أن التعاطف في التربية والتعليم أنفع وأنجح من تبادل الأفكار، وبيجو يؤكد لي ذلك لأنني أرى منه أن الكلاب أسرع تعلما من القردة، وهي أرفع في مرتبة التكوين والإدراك، وإنما فاقت الكلاب القردة بسرعة التعلم، لأنها عاشرت الإنسان طويلا فاتصلت بينه وبينها العاطفة، وإن لم يتقارب بينه وبينها تركيب الأعصاب والدماغ.

ويقول علماء الاجتماع من أنصار "الفاشية" أن الغرائز لا تتبدل، وأن الحرب والعدوان غريزة في الإنسان، فلا فائدة لوعظ الواعظين بالسلام، ونصح الناصحين بالإخاء والعدل والمساواة، وبيجو بدحض ذلك  لأنه قد تحدر من سلالة الذئاب، فمازالت التربية والمصانعة حتى أصبح حارس الأطفال والحملان، وقد قبل ذلك آفة كل طفل من بني الإنسان ، وكل صغير أو كبير من أبناء الضأن).

وقد سمـى العقاد كلبـه (الأسـتاذ) كمـا سمـى الحكيم حماره (الفيلسوف) وإذا كان كلب العقاد معروفا بذاته.. فإن حمار الحكيم هو تعبير عن سلالته، فقد عرف الحكيم من الحمير أربعة، أولها عندما كان طفلا فاشترى له أهله جحشا جميلا جعلوه لنزهته في الريف، والثاني أوجده كأحد شخصيات واحدة من مسرحياته. أما الثالث فقد اشتراه بعد عودته من السفر عندما شاهده في أحد شوارع القاهرة وصاحبه، وتعلم منه حتى مات تاركا أسفا لم يخفف منه إلا إن حماره مات قبل أن يكبر فيركب، أما الرابع فكان الأخير عندما ذهب إلى الريف في أحد الأعياد للراحة والاستجمام، فكان الحمار رفيق رحلة قصيرة لصيد السمك. وقد أهدى الحكيم أحد كتبه بهذه العبارة (إلى صديقي الذي ولد ومات.. وما كلمني.. لكنه علمني). ويصف الحكيم حماره في لوحة جميلة حية:

(أشرت إلى بائع الصحف أن يسرع بالجحش أمامي وأنا أتبعه عن كثب جذبه من رباطه الأحمر.. فمشى المسكين مشيته الرزينة في إطراقه وإذعانه، دون أن يعني بتبدل الصاحب وتغير المصـير، وجعلت أتأمله من بعيد في مشيته.. إنها تشبه مشيتي أحيانا.. إذ يخيل إلي في لحظات كأن رأسي قد ارتفع عن لجة الوجود المنظور إلى فضاء الوجـود غير المنظور. فأمر بالحياة مذعنا.. لا أحفل بمن معي أو بمعرفة وجهتي.. نعم أن مشيتي كمشيته أحيانا.. ونظراتي أحيانا كنظراته الجامدة المشرفة على عالم ساكن صاف مجهول، قد أغلقت دون الآدميين أبوابه السبعة المختومة بسبعة أختام، اللهم أغفر لي هذا الغرور إذ أرفع نفسي إلى مقام التشبه بهذا الكائن العجيب).

ولم تكن علاقة العقاد بكلبه أو الحكيم بحماره علاقة عادية كما هي الحال في تسخير تلك الحيوانات لخدمة الإنسان، كما لم تكن علاقة قائمة علـى العطف والشفقة بين قوي مفكر وضعيف أعجم.. بل كانت علاقة قائمة على الألفة والاحترام والتقدير، مع شيء من التأمل الذي جعلها غاية في المثالية والانسجام، والطرح الجاد لبعض قضايا الفكر والفلسفة مع ما عرف عن الكاتبين من اختلاف كبير في الأسلوب وطريقة المعالجة الفكريـة، فجدية العقاد وصرامته في التعامل مع الكتابة.. تناقض طلاوة أسلوب الحكيم ونزوعه إلى السخرية حتى من نفسه.

دعونا نقـرأ بعض ما كتبه العقاد عن كلبه الأستاذ: ( كنا في الصيف، وكنت أقضي أياما في القاهرة وأياما في الأسكندرية من كل أسبوع، ولم أصحب بيجو في الرحلة الأولى ولا في الرحلة الثانية، ولا عزمت على اصطحابه بقية أشهر الصيف، اكتفاء بأن أراه أيام إقامتي بالقاهرة، وأن أعـود إليه كل أسبوع، ولكن المخلوق الأمين الوفي أرغمني على مصاحبته كلمـا ذهبت إلى الأسكندرية وكلمـا رجعت منها، لأنه صام عن الطعام صومة واحدة في الرحلة الثانية، وزاد إصراره على الصيام، أننا كنا نتركه، في كفالة الشيخ احمد حمزة طاهينا القديم الذي يعرفه قراء كتابي "في عالم السدود والقيود")..

ولنقرأ ما كتبه الحكيم عن حماره الفيلسوف: (وما كدت أخلو إلى نفسي.. حتى أسرعت إلى الحمام بفنجان من اللبن وضعته على سجاد الفلين تحت فم الجحش.. وانتظرت أن يرشف هذا الصديق من اللبن رشفة أو رشفتين، فإذا هو جامد لا يتحرك، وإذا عيناه تنظران إلى الفنجان.. في غير اكتراث كما تنظر عين الزاهد إلى لذات الحياة، وقلت في نفسي:

-  هذا مستحيل.. مهما يبلغ زهد هذا الفيلسوف، فإن فنجانا من اللبن لا يعد من الترف في شيء، ولا أحسب بعد أن هذا المخلوق الصغـير يستطيع أن يتحمـل الصوم وقتا طويلا.. لابد من علة في الأمر.. وأعجزني معرفة السبب، فأنا حديث عهد بمعرفة هذا النوع الطريف من المخلوقـات، فإن جل معارفي منحصرة في ذلك النوع المبتذل الذي يسمونه النوع "الإنساني" وهو على ما رأيت منه لا يأبى مطلقا التهام ما يقدم إليه مما يؤكل، ومما لا يؤكل.. حتى لحم أخيه، وهو دائما جوعان، عطشـان إلى شـيء، وهو لا يصنع شيئا إلا لغاية ومأرب، حتى في صلاته وصيامه ).

وعندما توفي كلب العقاد.. كتب يقول:

(كان ذلك اليوم يوم أحد، ولكنا بحثنا عن الطبيب في كل مظنة لوجوده حتى وجدناه، وشـاءت له مروءته الإنسانية أن يفارق صحبه وآل .. في ساعة الرياضـة ليعمل ما يستطيع من ترفيه وتخفيف عن مريضه الذي تعلق به وعطف عليه، ولكنه وصل إلى المنـزل وبيجو يفارق هذه الدنيا التي لم يصحبها أكثر من سنتين.

سيبقى من صور الأسكندرية ما يبقى، وسيزول منها ما يزول، ولكني لا أحسبني ناسـيا ما حييت نظـرة ذلك المخلوق المتخاذل، يقول بها كل ما تقوله عين خلقها الله، ويودعها كل ما نطق به فم بليغ من استنجاد واستغفار، وكأنه يعلم أنـه أقلقـني ، ولا يحسب ما كان فيه ، عذرا كافيا لإقلاق صديقه).

أما الحكيم فكتب عن وفاة حماره يقول بعد أن وصفه بأنه كان جميلا زاهدا حكيما:

(ثم تخيلته يوم وضع رأسه في كفي.. كأنه يفكر.. لو أنه كان يفكر مثلنا رأسه ذلك الجهاز المحدود التفكير.. آه، لقد استطاع هذا الفيلسوف الصغير أن يبلغ قمة "الصفاء".. تلك القمـة التي طمع جوته أن يبلغها يوما.. لقد استطاع هذا الصديق الراحل أن يرى الحياة والموت من ثقب واحد.. وأن يرى الكائنات المتحركـة والجامدة من عين واحدة، وأن يخترق الكون كله بجسمه الصغير النحيل في يومين.. ويمضي، وأن يتوهم أنه زعيم خطير أو مفكر بصير.. إن هذا الشيء الذي سميناه جحشاً هو في نظر الحقيقة العليا مخلوق يثير الاحترام.. في حين أن كثيرا ممن سميناهم زعماء وعظماء فركبوه هم في نظر الحقيقة العليا مخلوقات تثير السخرية.. نعم كنت أشعر دائما شعورا غامضا أن حبى لهذا الجحش حب مقترن بشيء آخر غير العطف والإشـفاق .. إنه التقدير والتبجيل.. أحمد الله أنه مات قبل أن يكبر فيركب.. إني كنت أخجل من ذلك ولا ريب.. لأني كنت أسمع في كل خطوة من خطواته المتزنة همسات تتصاعد من أعماق نفسه التي في عمـق المحيط: أيها الزمان.. أيها الزمان.. متى تنصف أيها الزمان فأركب.. فأنا جاهل بسيط، أما صاحبي فجاهل مركب!!). وكان الحكيم يشير بذلك إلى تلك الأسطورة القديمة التي صدر بها كتابه (حمار الحكيم) وهي:

قال حمار الحكيم "توما": متى ينصف الزمان فأركب.. فأنا جاهل بسيط، أما صاحبي فجاهل مركب!.

فقيل له: وما الفرق بين الجاهل البسيط والجاهل المركب؟!

فقال: الجاهل البسيط هو من يعلم أنه جاهـل، أما الجاهل المركب فهو من يجهل أنه جاهل!.

وكفانا الله شر الجهل بأننا جهلاء.. لأن هذا مدعاة للغرور المؤدي دائما إلى سوء العاقبة، وكثيرا ما نتج عن مثل هذا الجهل المركب العديد من الكوارث التي حفل بها سجل البشرية علـى مستوى المجتمعات والشعوب والأمم بما فيها الإدارات الصغيرة والإدارات العليا والقيادات التي تقرر مصير العالم وتتحكم في مقدرات الشعوب في حاضرها ومستقبلها.

 


 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات