طه حسين وتوفيق الحكيم وجبران
مقال لطه حسين يجعل من توفيق الحكيم نجما أدبيا بين يوم وليلة
بقلم: رجاء النقاش
عندما مات جبران خليل جبران سنة 1931 عن ثمانية وأربعين عاما، كان توفيق الحكيم لا يزال مجهولا من الحياة الأدبية في مصر والعالم العربي، وكان الحكيم في الثالثة والثلاثين من عمره، ولم يسطع نجم توفيق الحكيم إلا بعد وفاة جبران بعامين، أي سنة 1933، وذلك عندما أصدر الحكيم مسرحيته "أهل الكهف" فتلقفها طه حسين في فرح وسعادة، ورحب بها ترحيبا واسعا، وأشاد بها إشادة كبيرة واعتبرها فتحا جديدا في الأدب العربي، ذلك أن الأدب العربي قبل ظهور "أهل الكهف" لم يكن قد عرف "فن الحوار" أو الفن الذي يمكن أن نسميه بالأدب المسرحي.
كان هناك مسرح عربي ولكنه كان في معظمه قائما على الترجمة والاقتباس. ولم تكن لنصوص المسرح العربي قيمة أدبية خارج التمثيل فوق خشبة المسرح، ولكن توفيق الحكيم بمسرحيته "أهل الكهف" كان يقدم نصا كاملا قائما على حوار أدبي سليم ودقيق، ومقال طه حسين عن "أهل الكهف" لتوفيق الحكيم تعتبر من المقالات النقدية المهمة في الأدب العربي المعاصر، لأن هذا المقال أحدث هزة كبيرة في الأوساط الثقافية في مصر والعالم العربي، وكان هو السبب الأول في شهرة توفيق الحكيم التي بدأت قوية ساطعة منذ اللحظة الأولى، فتوفيق الحكيم لم يكدح طويلا في سبيل النجاح الأدبي كما حدث مع نجيب محفوظ، فقد قضى نجيب محفوظ ما يقرب من عشرين سنة يكتب وينشر رواياته المختلفة، وهو يكاد يكون في الظل طيلة هذه السنوات العشرين، حيث لم يلمع اسمه إلا في أواخر الخمسينيات، وهو يكتب وينشر قصصه ورواياته منذ أواخر الثلاثينيات. أما توفيق الحكيم فقد ظهر منذ اللحظة الأولى نجما ساطعا، وأصبحت له شهرة واسعة بعد أن أصدر مسرحيته الأولى "أهل الكهف" والفضل في ذلك يعود إلى طه حسين وإلى نفوذه الأدبي لدى جماهير المثقفين، فعندما كتب طه حسين عن توفيق الحكيم بحماس شديد، أصبح توفيق الحكيم نجما، وأصبح واحدا من كتاب الصف الأول في الأدب العربي المعاصر منذ بدايته، ومقال طه حسين عن توفيق الحكيم هو نموذج حي على تأثير "الناقد" في الحياة الأدبية وأذواق الناس، فعندما يكون الناقد صاحب كلمة مسموعة وموثوق بها، فإنه يستطيع أن يبني ويهدم، ويستطيع أن أن يخلق نجوما ويطفئ نجوما أخرى.
وقد كان طه حسين عند أول ظهور لتوفيق الحكيم سنة 1933، هو هذا الناقد القوي، صاحب التأثير الواسع على الناس، وصاحب الكلمة المسموعة بينهم، ولعل هذه الحادثو الأدبية التاريخية تلفت النظر إلى أهمية "النقد" القوي المؤثر في حياتنا الأدبية، وفي حياة أي أدب آخر من آداب العالم، وبدون "الناقد" القوي الواعي الشجاع فإن الحياة الأدبية تفقد القيادة السليمة وتضيع منها أية رؤية واضحة.
ومقال طه حسين عن توفيق الحكيم منشور في كتابه "فصول في الأدب والنقد"، وأمامي منه طبعة "دار المعارف"، وليس للطبعة تاريخ مدون عليها، وهذا من أسوأ أخطاء الناشرين العرب، والتي لا يزال البعض يقع فيها حتى الآن، والسبب في ذلك هو سبب تجاري، فقد ييكون توزيع الكتاب بطيئا، وقد يستغرق توزيعه عدة سنوات، والناشر لا يريد أن يشعر القارئ الذي يشتري الكتاب بعد سنوات من صدوره أنه يشتري كتابا قديما، وقد كان الناشرون في الجيل الماضي مثل أصحاب "دار المعارف" معذورين لأن سوق الثقافة كانت محدودة، وتوزيع الكتب كان بطيئا، أما الآن فقد اتسع سوق الثقافة، بالإضافة إلى أن تسجيل تاريخ صدور الكتب هو واجب علمي وأمانة مفروضة على أساليب النشر السليمة، فلا معنى لإصرار بعض الناشرين على تجاهل تاريخ صدور الكتاب والنص عليه في كل طبعة.
ونعود إلى مقال طه حسين الذي كشف الستار عن توفيق الحيكم وجعل منه نجما أدبيا بين يوم وليلة، لنجد طه حسين يتحدث عن مسرحية الحكيم الأولى "أهل الكهف" في فرح وحماس وتبشير بميلاد موهبة جديدة فيقول في أول مقاله "... أما قصة "أهل الكهف" فحادث ذو خطر. لا أقول في الأدب المصري وحده، بل في الأدب العربي كله، وأقول هذا في غير تحفظ ولا احتياط، وأقول هذا مغتبطا به، مبتهجا له، وأي محب للأدب العربي لا يغتبط ولا يبتهج حين يستطيع أن يقول وهو واثق بما يقول، إن فنا جديدا قد نشأ فيه وأضيف إليه، وإن بابا جديدا قد فتح للكتاب وأصبحوا قادرين على أن يلجوه وينتهوا منه إلى آماد بعيدة رفيعة، ما كنا نقدر أنهم يستطيعون أن يفكروا فيها الآن؟. نعم. هذه القصة حادث ذو خطر يؤرخ في الأدب العربي عصرا جديدا.
ولست أزعم أنها قد برئت من كل عيب، بل سيكون لي مع الأستاذ توفيق الحكيم حساب لعله لا يخلو من بعض العسر، ولكنني على ذلك لا أتردد في أن أقول إنها أول قصة وضعت في الأدب العربي، ويمكن أن تسمى قصة تمثيلية، ويمكن ان يقال إنها أغنت الأدب العربي وأضافت إليه ثروة لم تكن له، ويمكن أن يقال إنها رفعت من شأن الأدب العربي وأتاحت له أن يثبت للآداب الأجنبية الحديثة والقديمة، ويمكن أن يقال إن الذين يعنون بالأدب العربي من الأجانب سيقرأونها في إعجاب خالص لا عطف فيه ولا إشفاق ولا رحمة لطفولتنا الناشئة.
بل يمكن أن يقال إن الذين يحبون الأدب الخالص من نقاد الأدب الأجانب يستطيعون أن يقرأوها إن ترجمت لهم، فسيحدون فيها لذة قوية، وسيجدون فيها متاعا خصبا، وسيثنون عليها ثناء عذبا كهذا الذي يخصون به القصص التمثيلية البارعة التي ينشئها كبار الكتاب والأوروبيين".
هذا هو ما كتبه طه حسين في مقدمة مقاله عن توفيق الحكيم ومسرحيته الأولى "أهل الكهف"، وقد ظهر هذا المقال بعد نشر الطبعة الأولى من المسرحية سنة 1933، ونشره طه حسين في مجلة "الرسالة" في عددها التاسع الصادر بتاريخ 15 مايو سنة 1933، أي بعد أسابيع قليلة من صدور مسرحية "أهل الكهف"، ثم أعاد طه حسن نشره في كتابه "فصول في الأدب والنقد".
هذا المقال النقدي الذي كتبه طه حسين هو الذي جعل توفيق الحكيم نجما أدبيا من أول خطوة له، وليس من المبالغة في شيء أن نقول إن طه حسين قد وفر على توفيق الحكيم ما لايقل عن عشر سنوات من الجهد المتواصل لكي يصل إلى ما وصل إليه منذ بداية حياته الأدبية.
ولا شك أن توفيق الحكيم كان شديد الذكاء والمهارة والدهاء، وذلك إلى جانب موهبته التي لا شك فيها. فتوفيق الحكيم لم يطبع مسرحته "أهل الكهف" طبعة شعبية عند صدورها لأول مرة، بل طبع منها ـ على نفقته ـ طبعة محدودة من ثلاثمائة نسخة فقط، وقام بإهدائها إلى طه حسين وغيره من كبار الأدباء والنقاد المعروفين في ذلك الوقت، أي أنه اتجه منذ البداية إلى أن يحصل على اعتراف النقاد به قبل أن يتوجه للجمهور العام، والطبعة الأولى من "أهل الكهف" مفقودة ولا يمكن العثور عليها حتى في "دار الكتب المصرية"، وكان من حسن الحظ أن وقعت في يدي نسخة من هذه الطبعة الأولى لـ"أهل الكهف"، أحتفظ بها وأعتبرها من الأشياء الثمينة التي أعتز بها. وبعد هذه الطبعة الأولى المحدودة، أصدر توفيق الحكيم طبعة شعبية لقيت نجاحا واسعا بعد أن أشاد بها طه حسين ولفت الأنظار إليها، وإلى كاتبها الجديد.
من ناحية أخرى فإن توفيق الحكيم كان من عادته التي ملازمة له حتى وفاته سنة 1987 أن يكتب مؤلفاته ويحتفظ بها لنفسه، ثم ينشرها عندما يرى الأجواء مناسبة لنشرها. ولذلك فعندما أصدر "أهل الكهف" ولقيت النجاح الذي كان يرجوه، سارع بإصدار روايته الجميلة المعروفة "عودة الروح" في نفس العام، أي سنة 1933، ثم أصدر مسرحيته النثانية "شهر زاد" سنة 1934، وتوالت أعماله الأدبية بعد ذلك دون توقف.
وقد ساعد هذا كله على تدعيم نجاحه، وتوسيع قاعدة شهرته والاهتمام به من جانب القراء والنقاد. وقد بقي توفيق الحكيم على عادته هذه حتى البنهاية، فكان يكتب أولا ويحتفظ بكتاباته ولا ينشرها بعد الانتهاء منها مباشرة، بل يختار التوقيت المناسب لنشرها وتقديمها إلى الناس، فقد كان يحرص دائما على أن تكون له "مدخرات أدبية" كثيرة ويحرص أن ينفق هذه المدخرات، أي ينشرها بحساب شديد للذوق السائد واللحظة المناسبة والفرصة الصحيحة لخلق التأثير الذي يريده لأعماله. ولم يكن توفيق الحكيم مثل غيره من الأدباء والكتاب الذين يعتبرون تعود معظمهم على نشر ما يكتبونه فور الانتهاء منه.
ولا أريد أن أترك الحديث عن مقال طه حسين الذي كان السبب الأول في شهرة توفيق الحكيم السريعة، دون أن أتوقف أمام ملاحظتين هامتين أثارهما طه حسين في مقاله عن توفيق الحكيم حيث قال:
"... ولكن! وما أكثر أسفي للكن هذه! وما أشد ما أحببت ألا أحتاج إلى إملائها. ولكن في القصة، أي "أهل الكهف"، عيبان: أحدهما سوءني حقا، ومهما ألوم فيه الكاتب فلن أؤدي إليه حقه من اللوم، وهو هذا الخطأ المنكر في اللغة، هذا الخطأ الذي لا ينبغي أن يتورط فيه كاتب ما، فضلا عن كاتب كالأستاذ توفيق الحكيم قد فتح في الأدب العربي فتحا جديدا لا سبيل إلى الشك فيه، وأنا أكبر الأستاذ، وأكبر قصته عن أن أقف عند هذه الأغلاط القبيحة التي يمس بعضها جوهر اللغة، ويمس بعضها النحو والصرف، ويمس بعضها الأسلوب وتركيب الجمل.
ولا أتردد في أن أكون قاسيا عنيفا، وفي أن أطلب إلى الأستاذ في شدة أن يلغي طبعته هذه الجميلة، وأن يعيد طبع القصة مرة أخرى بعد أن يصلح ما فيها من أغلاط. وأنا سعيد أن اتولى عنه هذا الإصلاح إن أراد، ولعل ما سيتكلفه من الطبعة الثانية خليق أن يعظه وأن يضطره إلى أن يستوثق من صوابه اللغوي فيما يكتب قبل أن يذيعه على الناس.
أما العيب الثاني فله خطره ولكنه على ذلك يسير، لأن القصة هي الأولى من نوعها، كما يقولون. هذا العيب يتصل بالتمثيل نفسه، فقد غلبت الفلسفة وغلب الشعر على الكاتب حتى نسي أن للنظارة "أي المشاهدين" حقوقا يجب أن تراعى، فأطال في بعض المواضع، وكان يجب أن يوجز، وفصل في بعض المواضع وكان يجب أن يجمل، وتعمق في بعض المواضع وكان ينبغي أن أن يكتفي بالإشارة ولعله يوافقني على أن من الكثير على النظارة "المشاهدين" أن يستمعوا في الملعب "أي المسرح" لهذه الاقصة الجميلة جدا، الطويلة جدا، التي تقصها "بريسكا" على "غالياس" وهي تودعه وقد اعتزمت أن تموت في الكهف مع عشيقها القديس.
هذا العيب خطير لأنه يجعل القصة خليقة أن قرأ لا أن تمثل، وأنا حريص أشد الحرص على أن تمثل هذه القصة، وأثق أشد الثقة بأن تمثيلها سيضع الأستاذ على ما فيها من عيب فني، وسيمكنه من اتقاء هذا العيب في قصصه الأخرى، ومن إصلاحه في هذه القصة".
هذان العيبان اللذان أشار إليهما طه حسين في مقاله الهام عن توفيق الحكيم، أما العيب الأول، وهو الأخطاء اللغوية، فقد تخلص منه توفيق الحكيم في الطبعة الثانية الشعبية لمسرحية "أهل الكهف"، وتخلص منه نهائيا بعد ذلك في أعماله التالية، فقد أصبح توفيق الحكيم من كبار العارفين بأصول اللغة العربية، ومن الذين يحرصون على الصواب والدقة فيها، وقد ساعد ذلك على أن يحتل توفيق الحكيم مكانته الأدبية العالية، فهو صاحب أسلوب سهل ناعم ولعله عند دراسة أساليب أدباء الجيل الماضي يكون صاحب أجمل وأبسط الأساليب بين هؤلاء الأدباء جميعا بمن فيهم طه حسين، وعندما أضاف توفيق الحكيم إلى موهبته الرفيعة في الأسلوب البسيط الجميل الذي يتميز بالإيقاع السريع والذي لا يفرض على القارئ لحظة ملل واحدة.
التعليقات (0)