لا أريد في هذه العجالة أن أستعرض تاريخ العلاقات التركية العربية بعامة، والتركية السورية بخاصة خلال قرون أربعة عاشتها هذه الديار الشامية، وكثير غيرها من ديار العروبة والإسلام تحت الحكم العثماني، ولا أريد في هذه العجالة أن أتوقف عند كل سلبيات سلاطين بني عثمان، وعند كل إيجابياتهم، فهذا ليس مما تضطلع به مقالة كهذه، بل إنه مما قد يتطلب سلسلة من المقالات ، ومما قد يتطلب كتابًا موسوعيًّا، أو سلسلة من الكتب التي تبحث في طبيعة هذه العلاقات، وفي سلبيات أولئك السلاطين وإيجابياتهم، وفي سلبيات شعوب أمة العروبة والإسلام، وفي إيجابياتها أيضًا ، وفي خصائص قادة هذه الشعوب ووجهائها وحكامها المحليين، وتبحث بالتالي في ما يجب أن تكون عليه هذه العلاقات التركية العربية بعد نحو تسعين عامًا من انهيار دولة بني عثمان، وإلغاء الخلافة، وإعلان الدولة العلمانية في تركيا الحديثة على يد مصطفى كمال، ثم ما كان بعد ذلك من ظهور نجم الدين أربكان، ثم وصول رجب طيب أردوغان ، وأحمد داوود أوغلو، وعبدالله الغول إلى سدة الحكم قبل بضع سنوات.
ما أريد قوله هنا هو أن رئيس الوزراء التركي قد حاول جاهدًا أن يتشبه بأولئك الأقوياء من سلاطين بني عثمان، وبأصحاب المواقف المعروفة من القدس وفلسطين والقضية الفلسطينية منهم ، وأنه قد عمل جاهدًا من أجل نصرة هذه القضية الفلسطينية، والوقوف إلى جانب غزة، ومن أجل رفع الحصار عنها.. ومما لا شك فيه أن كل ذلك، وكثيرًا غيره قد رفع من أسهم الرجل في هذه الديار، وفي كثير من ديار العروبة والإسلام .. ومما لا شك فيه أيضًا أن زيارته لسورية قبيل اشتعال لهيب الفتنة فيها، وعقده سلسلة من الاتفاقات معها، وتأكيده على متانة العلاقات التركية السورية وقوتها، ووصفه هذه العلاقات بأنها أضحت علاقات استراتيجية لا يمكن أن تنفصم عراها بين البلدين الجارين.. أقول إن زيارته تلك قد رفعت كثيرًا من أسهمه لدى كثير من الناس في كل ديار العروبة والإسلام، إلى الحد الذي ذهب معه كثير من المحللين السياسيين، وكثير من المحللين العسكريين أيضًا إلى أن تركيا قد أصبحت واحدة من دول المقاومة والممانعة، أو أنها في الطريق إلى ذلك، ولكن كل تلك الأسهم، ومعها كل تلك الشحنات من التفاؤل والأمل والتقييمات قد انهارت عندما قلب أردوغان ظهر المجن لكل مواقفه واتفاقاته وتصريحاته، وأعلن أنه على رأس هذه الحرب الكونية التي تستهدف سوريا أرضًا وشعبًا ووجودًا، وتستهدف بذلك كل وجود عربي حر فاعل مقاوم ممانع على كل أرض العرب.
لقد استهدفت الحرب الكونية الأولى (التي انطلقت شرارتها قبل نحو مئة عام (1914-1918) واستغرقت نحو خمس سنوات) دولة بني عثمان ، التي وقف كثير من العرب إلى جانبها، ولقد كان من الطبيعي أن تنجح تلك الحرب في تحقيق أهدافها لأسباب منها، وعلى رأسها تخلف هذه الدولة علميًّا وسياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، ورغبة كافة شعوب هذه الدولة في الاستقلال... أما هذه الحرب الكونية التي انطلقت شرارتها قبل سبعة عشر شهرًا مستهدفة الدولة السورية، فقد وقفت تركيا على رأس الدول المشاركة فيها، بل إن الدور التركي يكاد يكون أخطر هذه الأدوار، للحدود المشتركة الطويلة بين البلدين، وللقواعد العسكرية، والمخيمات، ومعسكرات التدريب، ومطالب أحمد داوود أوغلو المستمرة بضرورة إيجاد مناطق عازلة داخل سوريا.. لقد كان حريًّا بتركيا أن تقف إلى جانب سوريا في هذه الحرب الكونية الشرسة التي تستهدفها، ولقد كان حريًّا بتركيا أن لا تسمح بتدفق العناصر المسلحة إلى سوريا عبر الحدود المشتركة بين البلدين، ولقد كان حريًّا بتركيا أن تبذل كل جهودها من أجل إصلاح ذات البين، ومن أجل التقريب بين وجهات النظر المتفاوتة بين الأشقاء السوريين، ولقد كان حريًّا بتركيا أن تعمل جاهدة من أجل إطفاء الحرائق في سوريا، لا أن تعمل على إشعال هذه الحرائق، وعلى صب مزيد من الزيت عليها.. كان على رجب طيب أردوغان أن يحترم علاقات حسن الجوار، وأن يحترم توقيعه على عشرات الاتفاقات، وأن يحترم العيش والملح، وأن يحترم مشاعر كثير من العرب السوريين في لواء الإسكندرون ، وفي ديار بكر، وفي كل مناطق الجنوب التركي الذي هو في الأصل شمال سوريا في زمن دولة بني عثمان، ورجب طيب أردوغان يعرف هذا تمام المعرفة.. وكان على الرجل أن يحترم مشاعر كثير من الأحزاب والقوى والمنظمات الأهلية والشعبية ووسائل الإعلام التركية المطالبة بالكف عن التدخل في الشأن السوري .. كان على رجب طيب أردوغان، وهو يحاول التشبه بسليمان وبايزيد الصاعقة والفاتح وعبد الحميد ، وبأصحاب المواقف المبدئية الثابتة من فلسطين والقدس والقضية الفلسطينية من سلاطين بني عثمان وقادتهم ومفكريهم أن يستمع لنبض الشارع التركي، ولنبض الشارع السوري، واللبناني، والفلسطيني، والأردني، والعربي العروبي الإسلامي الممانع المقاوم الذي يريد لكل شعوب هذه المنطقة أن تعيش حياتها بأمن وأمان ومحبة وتعاون وتسامح واحترام، لا ظالم فيها ولا مظلوم، لا غالب فيها ولا مغلوب، لا تابع فيها لأحد، ولا خاضع فيها لأحد، ولا معتد فيها على أحد... كان بإمكان رجب طيب أردوغان أن يكون سلطانًا عثمانيًّا جديدًا يحسن اختيار الحلفاء والأصدقاء والإخوان ، ويحسن معاملة الجيران، ويلتزم بكلمة التقوى، ويحافظ على دماء الناس وأعراضهم وأمنهم وأمانهم واستقرارهم وكافة حقوقهم في العيش والحياة الحرة الكريمة في ظل نظام سياسي اقتصادي اجتماعي تقدمي عادل يحافظ على حقوق العمال والفلاحين والطلبة وكافة فئات الشعب العامل الشريف.
بين سلاطين بني عثمان، ورجب طيب أردوغان مسافة يستطيع اختصارها إذا هو أدرك أن العثماني والعربي، وأن الناس جميعًا في كل ديار العروبة والإسلام هم أمة واحدة ينبغي أن تتخلص من كل قيود التبعية وأصفاد الاستعمار والاستعباد والاستبداد، وإذا هو وقف على مسافة واحدة من الناس جميعًا في الشمال التركي والجنوب السوري، حتى لا يبقى في كل هذه الديار التركية الشامية من ينتقد سياسة أردوغان، أو يسيء إليه، أو يعتب عليه.. واللهَ تعالى نسألُ أن يتوجَ عملَنا بالقَبول، إنه أكرم مسئول.. وإنه نعم المولى ونعم النصير. ولا حول ولا قوة الا بالله.
التعليقات (0)