مواضيع اليوم

بين العولمة والأصولية ـ 5 ـ

فارس ماجدي

2010-05-01 11:00:17

0

في الواقع إنني لا أملك إلا أن أطرح هذه الإشكالات . وهي تستعيد بطريقة نقدية وجذرية وشمولية ما كنت قد قلته عن الوضع الجديد للإسلام المعاصر . فهذا الإسلام منخرط في " مناطحة " تاريخية كبرى مع الغرب منذ عام 1970 عمليا ( أي بعد موت عبد الناصر ) . وهذه المناطحة الكبرى لن يستطيع أن يخرج منها " سالما " كما حصل له بعد حروب التحرير الوطنية . وإنما سوف تنعكس عليه وعلى تراثه . أقصد بذلك ما يلي : لقد استخدم الإسلام كقوة لتعبئة الجماهير من أجل التحرير الوطني في الأربعينات والخمسينات . وبالتالي فلم يتعرض تراثه لأي نقد ابستمولوجي جذري من أجل النضال وخوض الصراع ضد الاستعمار . وأما الآن فإن الوضع مختلف . بعد كل ما حصل – ويحصل- من أعمال عنف هائلة ترتكب باسمه فإنه لن يستطيع بعد اليوم أن يمنع الآخرين من دراسته دراسة نقدية تاريخية كما حصل للمسيحية الأوروبية في الماضي . لن يستطيع التراث الإسلامي بعد اليوم أن يتحاشى تلك الثورة العقلية الكبرى التي ولدت الحداثة وحررت الشرط البشري من العراقيل والقيود . وهذه الثورة الابستمولوجية الكبرى تخص المسألة التالية : كيف ينتج المعنى في المجتمعات البشرية ، وكيف ينقل ، وكيف يستهلك ؟ هذا يعني أن التراث ذاته ليس إلا معنى واحدا من جملة معان أخرى ، وأنه ليس أزليا ولا أبديا على عكس ما يتوهم المؤمنون التقليديون . وإنما هو قد يتعرض للتحول ، والتجدد ، والتغير بفعل العوامل التاريخية . وبالتالي فإن تطبيق منهجية النقد التاريخي على التراث العربي – الإسلامي سوف يثير هزة كبيرة لا تقل أهمية عن تلك الهزة التي أثارها تطبيقها على التراث المسيحي بعد دفع هذا الثمن .
بعد أن وصلت في الحديث إلى هذه النقطة ينبغي أن أتوقف عند المحطة الثالثة من الدراسة : موقف الإسلام المعاصر من تراثه والمشاكل التي يطرحها مثل هذا الموقف .
سوف أستعيد هنا بعض المحاور الأساسية . ولكن سأضيف إليها المعطيات الجديدة التي استجدت بعد شيوع ظاهرة العولمة والانتشار الواسع للظاهرة الأصولية القائمة على فكرة الجهاد في مختلف أنحاء العالم الإسلامي . هل سيكون له دور وكيف ؟
لقد فرضت الثورة الإسلامية نفسها على اهتمام العالم منذ أن اندلعت قبل عشرين عاماً (1978) . فرضت نفسها عن طريق جرأتها السياسية وتضحياتها ومطالبها الجهادية المضادة للعولمة أو للهيمنة الغربية (الأمريكية خصوصاً) . فهل أدخلت بذلك عناصر جديدة وخصوصية تجبرنا على توليد نموذج ثالث غير النموذجين اللذين ذكرناهما سابقاً ؟ وإذا كان الفكر الإسلامي الحالي عاجزاً عن أن يتحدى الحداثة الغربية على المستوى الفكري ، فهل هذه الثورة الإسلامية قادرة على أن تتحداه على المستوى التاريخي ؟ هل تُشكّل تحدّياً غير مباشر يُجبر ليس فقط عقل التنوير على مراجعة نفسه ، وإنما أيضاً عقل ما بعد الحداثة (أو العقل الذي هو في طور التشكّل والانبثاق كما افضل أن أقول ) ؟ هل الوجود السياسي والتعبوي الهائل لظاهرة الأصولية الإسلامية أجبرنا على إعادة النظر في مقولاتنا وتحديداتنا السابقة التي كنا اعتقدنا أنها نهائية ؟

بالطبع إن هذه المواجهة بين أمة الجهاد / وعولمة الغرب ليست متكافئة على الإطلاق ، فالغرب أقوى بكثير ، ولذا فإن الأصولية تقدّم نفسها اليوم كضحية بريئة كما فعل خطاب التحرّر الوطني بالأمس . إنها تقدّم نفسها كمنقذ أعلى يمتلك الوديعة المقدسة (أي الشريعة) . ويمتلك الوعد الإلهي وهو يواجه الغرب الملحد ، المادي ، المهيمن ، اللا أخلاقي بشكل جذري . في الماضي كانوا يعِدون الشعوب المستعمَرة بمستقبل مشرق طافح بالحريات المدنية والعدالة الاجتماعية داخل إطار الاشتراكية العلمية كما تجلّت في الديمقراطيات الشعبية وريثة ثورة الأنوار . أما الآن فقد اختلف الوضع . فالصدام الحاصل حالياً بين أصولية الجهاد / وعولمة الحداثة أصبحوا يُعبّرون عنه بالصراع بين التنوير / والظلمات . وهكذا وقعنا في الثنائية المانوية من جديد بعد الهزيمة الواضحة للأنظمة اللاهوتية التقليدية والأنظمة الثيوقراطية والملكية المطلقة والإمبراطوريات المتعاقبة . وكذلك نشهد فشل الثورات الحديثة المتركزة على العبادة العلمانية للعقل المستقل السيد (أنظر أزمة الأنظمة الحديثة في الغرب ذاته) .

فمن الذي سينقذ وضع العالم الذي تحوّل إلى أنقاض من الفشل والفوضى ؟ من الذي سيدشّن التاريخ الجديد بعد الإعلان عن " نهاية التاريخ " ؟ هل هو العقل الديني المطهّر من انحرافاته وشوائبه والعنف القمعي للعقل العلمي الملحد ؟ هل هو العقل الديني المنصّب في إيران إيران وأفغانستان والسودان في وظيفته العالية : خليفة الله في الأرض ؟ هذا هو طموح حركات الجهاد الأصولي .. أم أنه عقل التنوير بعد أن يشذّب نفسه ويصحح تطرفاته وتناقضاته . هل هو عقل التنوير بعد أن يصحح معارفه الخاطئة ودوغمائية النظرية ورغبته في التوسع والهيمنة لكي يعيد انطلاقته من جديد على أٍس أكثر صلابة ومبادئ مُسيطر عليها بشكل أفضل ؟ هذه هي أطروحة المدافعين عن عقل ما بعد الحداثة . وهم أكفياء قليلاً أو كثيراً ومقتنعون قليلاً أو كثيراً بما يقولون .

إن الفكر المُمارس في المجتمعات الإسلامية يجد نفسه مرة أخرى وهو يتخبّط في الفوضى المعنوية الشاملة الناتجة عن العنف المزدوج والمتضافر الذي يسببه الجهاد الأصولي والعولمة الغربية في آن معاً . إن الفكر في المجتمعات التي يهيمن عليها الدين الإسلامي يجد نفسه مُعرقلاً جداً من قِبَل اللامفكر فيه والمتراكم منذ القرن السادس عشر . بمعنى أن الفكر توقف في تلك المجتمعات عن التطور منذ عدة قرون وطيلة تشكّل الحداثة في الغرب . وبالتالي فتنقصه أشياء كثيرة لكي يلحق بركب الحداثة . وينبغي أن يستدركها أولاً لكي يستطيع المشاركة في المناقشة المفتوحة حالياً على مستوى العالم بأسره . ينبغي أن يشارك في هذه المناقشة العلمية والفلسفية الكبرى بطريقة أخرى غير طريقة الأصوليين : أي بغير طريقة ردود الفعل العنيفة التي تشكل المساهمة الوحيدة للفقراء والمنبوذين . لقد آن الأوان لكي يُشارك الفكر العربي والإسلامي في هذه المناقشة الكونية بطريقة مسؤولة وجادة . وآن الأوان لكي يدخل المسلمون التاريخ بطريقة أخرى فاعلة ، وليس فقط كمستهلكين سلبيين (أي يستهلكون منتجات الحداثة ولا ينتجونها) . ما هي مساهمتنا في الطب الحديث ، أو الصيدلة واختراع الأدوية ، أو سبر أغوار الفضاء ، أو اختراع الآلات والتكنولوجيا .. الخ) . نحن عالة على العالم في الوضع الحالي للأمور . بل إننا عالة عليه ليس فقط في العلوم الفيزيائية والتكنولوجية ، وإنما أيضاً في العلوم الإنسانية والفلسفية . فلا توجد أي مساهمة فلسفية ، عربية أو إسلامية ، في النقاش الدولي الدائر حالياً حول مسألة الحداثة وما بعد الحداثة . إن دخول المسلمين (من عرب أو غير عرب) التاريخ مشروطٌ إلى حد كبير بتوجّهات الفكر الفلسفي التي ستتمخض عنها أزمة العولمة أو الحداثة . فالعوامل الخارجية سوف تلعب دورها أيضاً . ونقصد بالتطوّرات هنا : ماذا سيحصل في مرحلة ما بعد الأصولية ، أو ما بعد الموجة الأصولية ؟ هل سيحصل انفتاح في الفكر العربي والإسلامي ، وكيف ؟ كل هذه أسئلة يجيب عنها المستقبل القريب أو المتوسط والبعيد .

ينبغي أن نفكّر في أزمة الحداثة بكل أبعادها دون أن نهمل أي شيء ودون أن ندين أي شيء بشكل مسبق . أقصد أنه لا يحق لنا أن ندين التجلّيات التقليدية والحالية بدون تفحّص شديد ومسؤول . فما يحصل له أسبابه أو مسبّباته . فكل ما هو واقعي عقلاني كما يقول هيغل . ينبغي أن نفكّر في كل ذلك ضمن منظور الفلسفة السياسية المغتنية والمدعومة من قِبَل الأنتربولوجيا الثقافية (أي العلم الذي يهتمّ بجميع الثقافات البشرية دون استثناء ولا يُفضّل بشكل مسبق الثقافة الأوروبية على غيرها . فكل الثقافات واللغات جديرة بالاحترام ، ولها عطاؤها الخاص الجدير بأن يؤخذ بعين الاعتبار . بهذا المعنى فإن الثقافة الهندية أو الصينية أو العربية – الإسلامية ينبغي أن تُعامل بالطريقة ذاتها التي تُعامل بها الثقافة الأوروبية) . إن هذا المنظور الأنتربولوجي والثقافي الواسع يبدو لي هو الأقدر على العطاء وعلى التفهّم ، وهو الأكثر مصداقية . لماذا ؟ لأنه يُبشّر بالمستقبل : مستقبل التعايش السلمي بين مختلف الثقافات البشرية دون أن تهيمن إحداها على جميع الأخريات وتسحقها كما حصل في الماضي . فالتعددية الثقافية للبشرية شيء جيد ورائع بشرط أن يتم ضمن أفق السير نحو الكونية أو نحو وحدة الجنس البشري . وإذن فهناك قيم كونية ، ولكن يحق لكل ثقافة أن تتبنّاها بلغتها الخاصة . وهذا ما يُقرِّب بين الشعوب والأمم ويخلع طابعاً إنسانيا على الحداثة .

إن هذا المنظور الإنساني الواسع يفرض نفسه أيضاً من الناحية المنهجية والابستمولوجية . أقصد بذلك أنه ينبغي أن تتمّ السيطرة على أطر وأدوات الفكر الذي تستخدمه القوى العظمى المهيمنة . فهذه القوى هي التي تحدّد كل محاور المصير التاريخي للبشرية ، وكل جداول أعمال المستقبل . إن المنهجيات الفكرية والتوجّهات الابستمولوجية السائدة في الغرب المهيمن هي التي تتحكّم بأنماط تفسير كل تراثات الماضي ، بما فيها التراث العربي – الإسلامي . ينبغي أن تحصل مراقبة عُليا لهذه المنهجيات لكيلا تولّد من جديد معارف خاطئة أو وعياً خاطئاً كما حصل في الماضي ، ثم لكيلا تولّد كائنات ذهنية تجريدية وتقيم التضاد الكامل بينها . نقصد بالكائنات الذهنية هنا تلك المفاهيم التجريدية المتمثلة بالغرب ، والشرق ، والإسلام ، والتنمية ، وحقوق الإنسان ، وحقوق الشعوب .. فهذه المفاهيم فُرِّغت من معناها وتحوّلت إلى قوالب شكلية في استراتيجية السياسات الدولية . لقد تحوّلت إلى أقنومات ذهنية تجريدية لا معادل لها على أرض الواقع . ولذلك فقدت مصداقيتها في نظر أبناء العالم الثالث الذين طالما خابت آمالهم في التنمية المحسوسة والحقيقية . إنهم لم يعودوا يثقون بالشعارات المنكوبة من الحفرة التي وقعت فيها : حفرة الفقر والحرمان والحروب الأهلية والمجاعات .. وعلى أي حال ، فينبغي أن تخرج تضامنات جديدة (أو مشروعيات جديدة) من خلال هذه الحروب الأهلية الدائرة حالياً لكي تُحكَم الشعوب بإنسانية أكثر ولكي تضمّد جراحها .
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !