مواضيع اليوم

بين العولمة والأصولية ـ 2 ـ

فارس ماجدي

2010-05-01 10:54:58

0

أريد من كل ذلك ان أصل إلى النتيجة التالية : إن مسيرة العولمة التي لا تقاوم ولا ترد ولا ترحم الأمر الذي يعني أن أصحاب القرار الاقتصادي والمصرفي والسياسي على المستوى الدولي يرفضون حتى الآن الاعتراف بالحقيقة البسيطة التالية ، ولكن هل سيرفضونها دائما ؟ أقصد بهذه الحقيقة البسيطة أن عولمة القيم الديمقراطية ، أي تعميمها على مختلف شعوب الأرض ، يفترض مسبقا الانضمام القاطع وغير المشروط لهذه الشعوب إلى الفلسفة الحديثة للشخص – الفرد – المواطن . كما ويفترض تجسيد هذه الفلسفة عمليا في قانون دولي مناسب وفي هيئة تنفيذية عليا لا اعتراض عليها . هذا هو الشرط الأساسي لتعميم القيم الديمقراطية الهادفة إلى تحرير الوضع البشري في جميع أبعاده وفي كل الدول وليس فقط في أوروبا أو الغرب . ينبغي ألا ننسى أن الانتصار الكامل لقوانين السوق والفلسفة الليبرالية التي تحمي حقوق الفرد إلى درجة الفردانية المطلقة إنما يتمان داخل إطار قانون دولي لا يهتم بالتفاوت الاجتماعي المتزايد الذي تحفزه أكثر فأكثر قوى العولمة . إنها تفاوتات صارخة لم تعد تحتمل بين دول الشمال / ودول الجنوب . فالبذخ والبطر في جهة ، والفقر المدقع والبؤس الشامل في جهة أخرى . بل وهناك ما هو أسوأ من ذلك . نحن نعلم أن القوى الاستعمارية العظمى في القرن التاسع عشر هي التي رسمت الحدود بين دول العالم الثالث وذلك في جو من مشاحناتها وتنافسها على هذه الدول بالذات وهي حدود مجحفة وغير حقيقية . ولكن " النخب " الوطنية التي استلمت الحكم بعد الاستقلال استمرت عليها ولم تغيرها . وهذه الحدود غير الطبيعية هي المسؤولة عن تغذية الحروب الأهلية المندلعة حاليا أو التي قد تندلع لاحقا في مناطق مختلفة من دول الجنوب المنكوب . ثم تراقب قوى العولمة الكبرى هذه الحروب عن بعد وتظهر أسفها لأنها لا تستطيع إيقافها ، بل وتحاول أن تتلاعب بها لكي تستخدمها من أجل تحقيق امتيازات اقتصادية … وكل ذلك على حساب الضمير ؟ وما جدوى التحدث عن حقوق الإنسان والشعارات البراقة ؟ انظر ما يحدث الآن في أفريقيا .
لا يمكن أن تنتهي من عد الأضرار الحالية والمخاطر المحتملة الناتجة عن ظاهرة العولمة . أقصد المضار التي تفرضها هذه الظاهرة على مجتمعات الجنوب وشعوبه وأفراده ، أي المجتمعات التي لم تشهد بعد ظاهرة الحداثة ولم تستمع بحرياتها الديمقراطية ولم يرتفع مستوى معيشتها كما حصل لشعوب أوروبا والغرب . نقول ذلك ونحن نعلم أن الحداثة تفرض نفسها على جميع شعوب العالم الآن تحت اسم العولمة . والواقع أن العولمة الجارية حاليا لا تفرض نفسها كتجاوز تاريخي للحداثة بقدر ما تفرض نفسها كتعميم لها على كل الأرض المسكونة ، بل وعلى الفضاء العلوي من الكون ( انظر محاولات استكشاف الفضاء عن طريق الأقمار الصناعية والأجهزة التكنولوجية الأكثر حداثة ) . وبالتالي فعندما نلفظ كلمة العولمة فإننا نعني الحداثة ، ولكن بدلا من أن تكون محصورة حتى الآن بشعوب أوروبا وأمريكا أصبحت تعمم على مختلف شعوب الأرض . فبعد أن انتصر الغرب على الاتحاد السوفييتي شعر بقوته وازداد ثقة بنفسه وأخذ يفكر بفرض نظام الاقتصاد الحر والقيم الديمقراطية على العالم كله ( انظر نظرية فوكوياما بهذا الصدد ) . ولكن إذا كانت الحداثة مشروعا لم يكتمل ، مشروعا يتمثل في السيطرة على الطبيعة ومعرفتها واستغلالها بشكل تكنولوجي ، براغماتي ، عملياتي ، فإنها لا يمكن ان تؤدي إلى العولمة كما نشهدها الآن ونعيشها . إذا تغلب الجانب التكنولوجي المنفعي في الحداثة على الجانب الروحي الإنساني ، فإن النتيجة لا يمكن ان تكون شيئا آخر . فالحداثة التكنولوجية – المصرفية تعني تهميش كل الأنبياء والقديسين واللاهوتيين والفلاسفة والفنانين والشعراء والأبطال التاريخيين الذين عاشوا في الماضي . إنها تعني احتقارهم أو الاستهزاء بهم ورميهم في سلة الماضي لكي يصبحوا مادة للتبحر الأكاديمي الجاف او للنسيان الكلي والنهائي . ولذا فإنني أقول : ينبغي على الحداثة ، كمشروع إنساني ، أن تصحح إرادة المعرفة الهادفة إلى السيطرة والاستغلال والهيمنة . ولكن كيف ؟ عن طريق الإدخال الفعلي ، أي الفلسفي والقانوني ، لحقوق الروح في حقوق الإنسان . فقد تحولت هذه الأخيرة إلى مصطلح مؤدلج أكثر من اللزوم ، بل ومستهلك وفاقد لروحه . فالغرب يرفعه كشعار أيديولوجي للضغط على الآخرين أكثر مما يتقيد به عندما يتعامل مع الآخرين .

لا ينبغي أن نتاجر بحقوق الإنسان أكثر من اللزوم ، لأنها عندئذ تفقد عصارتها ونبضها الأولي ومعناها . لا ينبغي أن نحرف المعرفة عن طريقها الصحيح كأداة لتحرير الشرط البشري لكي تتحول إلى أداة لقمع الآخرين واستغلالهم . نقول ذلك ونحن نعلم أن المعرفة التي تشكلت في سياج الحداثة الغربية قد استخدمت في طريق الخير كما في طريق الشر . المعرفة ليست بريئة إلى الحد الذي نتصوره ، أو قل إن استخدامها ليس بريئا . أن الأديان قد تحولت إلى أداة قمع رهيبة ومخيفة على يد الكثيرين من رجال الدين الأشداء . صحيح أن الأديان والفلسفات السابقة علمتنا أن الإنسان الروحي هو روح أولا. ولكن لا يمكن أن ننسى أن هذا التأكيد قد حرف عمليا عن معناه الأولي وتحول إلى روحانية بالية ، أو أنطولوجيا تجريدية ، أو لاهوت قمعي على مدار التاريخ . ولم ينهض عصر التنوير إلا كرد فعل على هذا الانحراف الكبير للدين المثالي .

إن مفهوم الإسلام المعاصر ، وأريد أن أستخدمه كمثال تطبيقي من اجل توضيح المنعطف التاريخي الكبير الذي نشهد اليوم والمتمثل بالعولمة . أريد البرهنة على أن ظاهرة العولمة الضخمة تدفعنا إلى أن نتجاوز فلسفيا وأخلاقيا وقانونيا ومؤسساتيا كل الأنظمة العقائيدية واللاهوتية الموروثة عن الماضي . وسوف أفعل ذلك ضمن منظور السيطرة بشكل أفضل على سلطة الإنسان ، أو السلطة التي يمتلكها الإنسان من أجل تغيير الإنسان ( أي تغيير ظروفه المادية والمعيشية عن طريق التكنولوجيا ، أو تغيير سلوكه وعاداته عن طريق العلوم الإنسانية الحديثة ) . باختصار ، أريد أن أنتقد التراث الديني ، وترث الحداثة الغربية في آن معا ، وأريد أن أتوصل إلى مفهوم جديد واسع يتجاوز الاثنين …

أصدر أحد الباحثين الأمريكان في العلوم السياسية منذ فترة قصيرة كتابا تحدث فيه عن المفهوم القرآني والإسلامي للجهاد وهو الجهاد ضد العولمة لبنيامين بادمير . وقد رفعه إلى مرتبة القطب الموازي أو المضاد للعولمة بالمعنى الأمريكي والأوروبي الغربي ، أو قل إنه ربط بينهما جدليا . ولكن بعد قراءة الكتاب نلاحظ أن المؤلف لا يهتم بالجهاد على الطريقة الغربية الشائعة . بمعنى أنه لا يدرسه لكي يدين توسع الإسلام عن طريق " الحرب المقدسة " أو الجهاد ، أو من أجل أن يبلور نظرية جديدة ل " الحرب العادلة " المضادة له كما فعل الرئيس بوش في حرب الخليج . لا . وإنما هو يتبنى منظورا آخر مختلفا تماما . إنه يعتبر أن العنف الذي يمزق حاليا عددا كبيرا من المجتمعات الإسلامية يعبر ليس عن أزمات داخلية حادة فحسب ، وإنما يعبر أيضا عن ردة فعل هذه المجتمعات ضد ظاهرة العولمة التي تحمل في طياتها الهيمنة الغربية . ويرى أن الاحتجاجات العنيفة ضد هذه الظاهرة ليست محصورة بالمجتمعات الإسلامية ، وإنما هي مشتركة لدى جميع المجتمعات البشرية بما فيها المجتمعات الغربية . إنه رد فعل ضد القوى العمياء والكاسحة للعولمة .المقصود بالعولمة هنا : اقتصاد السوق ، هيمنة النظام المالي والمصرفي على العالم كله ، هيمنة التكنولوجيا الحديثة ووسائل الإعلام الضخمة ، والتلاعبات بنظام الصبغات الوراثية للإنسان … الخ . إنه رد فعل ضد العنف البنيوي أو المفصلي الذي تبثه في جميع أنحاء العالم قوى غير مرئية وغير مسؤولة ، قوى تتخذ القرار من وراء الستار وتحرك العالم بواسطة الأزرار !

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !