بيت المقدس اليهودي الاسير
من سخرية الأقدار ان تكون صلاة اليهودي في باحة بيت المقدس، قدس أقداسه وتاج عقيدته ، بل حتى مجرد تجواله في أزقة عاصمته وأروقة بيت المقدس ، محل نقاش او سببا في اثارة حفيظة المسلمين وتأليب مشاعرهم ضد اليهود ، بل واعتبار مثل هذا الفعل، لا مساسا بمشاعر العرب وحسب، بل تدنيسا للمسجد الاقصى، بحسبانه بقعة اسلامية خالصة لا تقبل فيها صلاة الا للمسلمين ...
هذا القانون الجائر الذي يعتبر مجرد وجود اليهود في أورشليم فعلا استفزازيا واخلالا بالنظام العام ، ظل قانونا متداولا ومعمول به منذ زمن الامبراطور الروماني ادريانوس الذي قارع لسنوات ثورة بار كوخبا وفرض قوانين جائرة لملاحقة اليهود والقضاء على الديانة اليهودية .. واليوم وبعد مرور اكثر من سبعة عشر قرنا على قوانين ادريانوس نجد انه حتى بكاء اليهود على اطلال مقدسهم او أداء صلاة بجواره يكون كافيا ليحل عليهم غضب الله ورسوله والمؤمنون ..
اما هذا الواقع الغريب، فقد استفز الراحل البروفيسور بن تسيون دينور احد كبار الباحثين في تاريخ ارض اسرائيل والذي تقلد منصب وزير التربية زمن حكومة مباي، لخوض غمار هذا المسلك الشائك وسبر اغوار واقع اليهود وبيت المقدس خلال الحقبات الاسلامية المتعاقبة ، هذا الجهد الذي أفرز كتابه (في صراع الاجيال) ، حيث يقدم لنا الاستاذ العلامة دينور ، بعلميته المعهودة ، حقائق صادمة حول مكانة بيت المقدس اليهودي تحت الحكم الاسلامي ، تظهر الصورة التالية :
بعد سقوط أورشليم في ايدي العرب الفاتحين ، وبرغم ما يروى حول منع اليهود من مساكنة النصارى في أورسالم وفقا لما هو منصوص عليه في العهدة العمرية ، الا ان سياسة الحكام المسلمين التي كانت تراوح بين غض الطرف حينا والاجازة الصريحة احيانا ، فسحت المجال امام اليهود للعودة الى الهيكل المقدس .. ومن تجليات هذه العودة اقامة كنيس ومدرسة يهودية في باحة الحرم الاورشليمي ظلت تستقطب جموع المؤمنين اليهود لقرون من الزمان.. فيما كان يسمح للمصلين اليهود كأقل القليل مزاولة طقوس العبادة في باحة بيت المقدس .. ولم يفقد اليهود هذا الحق الا بفعل نشوب خلافات مذهبية بين مختلف الطوائف اليهودية أفضت الى تدخل الحكام المسلمين وأدى ذلك الى منع كافة اليهود من الصلاة في باحة بيت المقدس في آخر المطاف .. فيما أوكل الى اليهود مهمة حراسة جبل البيت (المسجد الاقصى)..
وقد وردت في الكتاب المذكور شهادة ساطعة للحاخام ابراهام بار حايا (ابراهيم بن حيا) البرشلوني المتوفي عام 1135 للميلاد، هذا نصها : (اما الروم فانهم إذ قاموا بتدمير وتدنيس البيت المقدس زمن الطاغية تيتوس.. الا انهم لم يدّعوا يوما ملكيته ولم يتخذوه مكانا للعبادة الا بعد تحول الطاغية قسطنطين الى النصرانية.. فحتى ذلك الحين لم يُمنع اليهود من الصلاة في باحة بيت المقدس منذ هدمه الروم في القرن الاول للميلاد.. وظل هذا الوضع قائما طوال الحقبة الاسلامية ايضا حيث لقي اليهود معاملة حسنة من السلاطين العرب وسمح لهم ببناء مصلى ومدرسة في باحة بيت المقدس (الحرم القدسي).. وكان اليهود يؤمونه من كل حدب وصوب في الاعياد والمناسبات الدينية للصلاة واقامة الشعائر الدينية.. ولم يتغير هذا الوضع الا مع انطلاق الحملات الصليبية الغاشمة التي احكمت قبضتها على بيت المقدس)..
واما الوثيقة التالية فتتمثل بشهادة الحاخام يهودا هحسيد (يهودا الصالح) المؤرخة في نهاية القرن الـ 12 في "سفر الحسيديم" (كتاب الصالحين) الذي يروي قصة صعود نجم الحاخام بلتيئيل في بلاط الخليفة الفاطمي المعز (962-992 م)، واهتمامه بموضوع بيت المقدس اليهودي في أورشليم، تقول الوثيقة : (وطلب بلتيئيل من الخليفة إذنا لبناء بيت المقدس الذي كانت تغمره القاذورات منذ هدمه الطاغية تيتوس.. فوافق الخليفة شريطة ان يتم ازالة القاذورات قبل حلول وقت الظهيرة.. فاسرع بلتيئيل متقدما جمهورا من المتطوعين اليهود عملوا على تطهير باحة المعبد ثم اعادوا بناءه ودأبوا على اقامة الصلاة به ردحا طويلا من الزمان)..
وتؤكد وثيقة أخيماعتس المؤرخة خلال النصف الثاني من القرن الـ 11 على صحة ما ورد من امر بروز نجم الحاخام بلتيئيل حيث تقول الوثيقة : (فأقام المعسكرات، ورمم الاسواق والنزل، وجعلها مساكنا للتجار، وجعل بها خبزاً وماءً وسمكاً ولحماً وخضاراً وكل مستلزمات الجنود القادمين اليها من المدائن.. وجعل الخليفة له شأنا في مصر ومملكة ارام وصولا الى بلاد الرافدين وفي ارض اسرائيل وصولا الى أورشالم).. هذا ولم تخلو الوثيقة من أخبار المصلى في باحة المعبد القدسي..
كما يروي ان الحاخام شموئيل بن بلتيئيل أحضر زيتا للمذبح القائم داخل المعبد المقدس عند السور الغربي.. فيما الحاخام شلومو هكوهين يذكر في شهادته التي تتعلق كما يبدو بالقوانين الصارمة التي أطلقها الخليفة الحاكم بامر الله الفاطمي، يذكر القيّم على مدرسة الامام يعقوب الدينية في أورشالم قائلا: (..ونحن جميعا وكل طوائف اسرائيل سالمين، فيما تم ازالة البناء الفخم في السابع عشر من آب الساعة العاشرة، سائلين المولى ان يعاد بناءه والسلام).. والمقصود طبعا هو الكنيس اليهودي الذي تم ازاحته من باحة بيت المقدس العام 1018 م..
وفي النصف الاول من القرن التاسع الذي شهد صعود طائفة القرائين اليهودية في أورشالم، نجد شهادة للحاخام بن مئير إمام المدرسة الدينية "ارض اسرائيل" في أورشالم، واصفا من خلالها مقتل احد ذويه ويدعى الحاخام موسي من قبل احد افراد طائفة القرائين الذي ينتمي الى عائلة عنان بن دافيد مؤسس الطريقة القرائية، وقد حدث ذلك في ساحة بيت المقدس اليهودي في أورشالم..
وتعود الوثيقة التالية الى القرن العاشر وهي لاحد اتباع طائفة القرائين ويدعى سلمون بن يروحام المقدسي يقول: (وبعد ان منّ الله علينا بزوال سيطرة الروم عن أورشالم وظهور الحكم الاسلامي، فقد سُمح للاسرائيليين بالعودة الى أورشالم وأعطيت لهم ساحات بيت المقدس للصلاة والعبادة.. ولم يتم ابعادهم الى بوابات بيت المقدس الا بعد وشاية أدعى صاحبها في حضرة الخليفة بان اليهود يمارسون في باحة بيت المقدس اعمالا لا ترضي الله ويقيمون حفلات ماجنة..
ونختم بشهادة لنصراني وهو كاتب ارمني يدعى سيبيئوس تتناول شهادته حقبة زمنية تمتد الى سنة 661 م يقول: (بعد ان حظي اليهود بحماية العرب وذمتهم، فكروا باعادة بناء معبد سليمان.. وبعد العثور على قدس الاقداس بين اطلال المعبد القديم، شرعوا ببناء الاركان ثم أقاموا مصلى، مستخدمين ما بقي من آثار المعبد. وقام العرب فيما بعد باخلاء اليهود، مبقين على المصلى الذي أصبح مصلى اسلامي، فاستبدله اليهود بمصلى آخر أقيم في الجوار..
خلاصة القول، إن العرب والمسلمين يخالفون أوامر اسلافهم بادعاءهم بان صلاة اليهود في باحة بيت المقدس او ما يطلق عليه اليوم المسجد الاقصى، او حتى إقامة بيوت للعبادة لليهود في ساحات الاقصى، انما هي استفزاز من طرف اليهود ، او محاولة الاستيلاء على الاقصى، او سعي الى تهويد القدس، وتدنيس باحة المسجد الاقصى، وما الى هذا الكلام.. فلو اقتدى المسلمون اليوم حقا بسلفهم الصالح لكنا نرى اليهود والمسلمين يمارسون عباداتهم جنبا الى جنب بروح أخوية تتماشى والمقاصد السامية للاديان السماوية .....
دمتم بخير
التعليقات (0)