مواضيع اليوم

بيت العنكبوت (قصة قصيرة)

أيمن عرفان

2011-03-21 05:08:34

0


كما يلازم القطار قضيبه الحديدي لا يحيد عنه يمينا أو يسارا ؛ كان للأسرة نظام لا يتغير ، وروتين يومي لا يشذ عنه أحد ، ثلاثتهم " الأب والأم والابنة الوحيدة " يستيقظون في السادسة ، يتناولون إفطارا خفيفا ، ينطلق الوالدان في السيارة المتواضعة إلى العمل ، أما هي فمدرستها قريبة لا تبعد سوى شارعين عن المنزل ولذلك فهي تقطع تلك المسافة سيرا على الأقدام .

وفي الظهيرة تصل الأم أولا إلى المنزل بعد رحلة مواصلات شاقة ، ثم تصل هي ، أما الأب فغالبا لا تراه ثانية إذ أنه لا يعود إلى المنزل إلا بعد منتصف الليل حيث تكون قد نامت ، وهي لا تدري هل يقضي كل ذلك الوقت في العمل أم أن له هوايات أخرى يمارسها خارج المنزل ؟ .

في الرابعة عصرا تخرج الأم لتمارس نشاطها الاجتماعي في إحدى الجمعيات النسائية ، أما هي فقد اعتادت رفقة الصمت بين جدران حجرتها الأربعة تارة مع الكتب الدراسية ، وتارة مع بعض الروايات الرومانسية ، وتارة مع الفضائيات التلفزيونية ، وغالبا مع أحلامها الوردية ، إلى أن تعود الأم في التاسعة مساءا .

داعبت عينيها أشعة الشمس تتسلل عبر نافذة حجرتها ، جلست على سريرها تتمطى في كسل لتزيل عن نفسها آثار النوم ، تتذكر شيء ما ، فتنسل بخفة لتقف أمام المرآة فيكون أول ما يطالعها وجهها الملائكي دقيق التفاصيل ، في صورة تلقائية بدأت تعبث بأناملها في خصلات شعرها المنسدلة على كتفيها ، لاحت على شفتيها ابتسامة خفيفة وهي تتأمل بإعجاب جسدها النحيل المتناسق .

في خفتها المعتادة استقرت على كرسي أمام مكتبها المتواضع ، فتحت الدرج السفلي من أدراج المكتب لتخرج منه مظروفا تم إخفاءه وسط مجموعة من الكتب بعناية ، من المظروف أخرجت عدة ورقات تناثرت عليها بعض الرسومات لقلوب حمراء وورود مختلفة الألوان يتخللها حروف متفرقة باللغة الإنجليزية ، وكلمات رقيقة الأسلوب كتبت في نظم بديع كأبيات شعرية .

استقرت بين يديها رسالة هي آخر ما وصلها بالأمس ، أخذت تعيد قراءتها مرارا ، تطلعت عبر نافذة حجرتها إلى اللاشيء ، فكرت في كلمات الرسالة ، منذ أن أحبته وأحبها لم تتسع دائرة الحديث بينهما أكثر من الرسائل ، ينتظرها عند خروجها من المدرسة ليقترب منها في حذر ، وفي خلسة وغفلة عن عيون الناس يعطيها ورقة ويتسلم منها غيرها ، وها هو ذا في رسالته يريد أن يقترب منها أكثر ، يريد أن يتحدث معها بحرية ، يريد أن يستنشق عبيرها ، انتبهت من شرودها على صوت حركة بالخارج إيذانا بأن الروتين اليومي للأسرة قد بدأ .

قبل أن تدخل المدرسة رأته في انتظارها أمام باب المدرسة ، فهو لا يذهب إلى مدرسته إلا بعد أن يرى ابتسامتها الساحرة ، قضت يومها الدراسي وهي لا تدرك منه إلا صوت الجرس على فترات متناسبة يعلن خروج مدرس ودخول آخر .

خرجت من المدرسة ، اقترب منها كعادته إلا أن يده كانت فارغة لا تحمل أية ورقات ، لم يتكلم ، لم يكن يعرف ماذا يقول ، فقط سار إلى جوارها وعيناه تجولان هنا وهناك ، قالت له في مبادرة عفوية : " أنا أقضي فترة ما بعد الظهيرة وحيدة " .

اضطربت أنفاسه ، تلعثم قليلا وهو يقول : " هل يمكن أن نقضيها سويا " .

تطلعت إلى أعلى وأشارت إلى شرفة يميزها قفصا صغيرا به عصفورين ملونين قائلة : " سأنتظرك في الخامسة ، لا تتأخر " .

في الخامسة تماما كان يقف في نفس المكان مترددا ، يشعر أن كل المارة يرقبون حركاته في عتاب ، ماذا لو مر أحد أقاربه الآن وسأله عن سر وقوفه هنا ، فكر أن يعود إلى المنزل ، تذكر حكايات أصدقائه ومغامراتهم ، تقدم خطوة إلى الداخل ، توقف ، ماذا لو وجد أحد أبويها معها ، أقنع نفسه أن ذلك لن يحدث ، أخذ يرتقي السلم ، يشعر بازدياد في ضربات قلبه وبعض الرجفة تسري في أطرافه .

أخيرا وقف أمام الباب ، دق الجرس ، فتحت له ، في سرعة دخل وأغلق الباب خلفه وأسند ظهره على الباب ، دقيقة أو دقيقتين مرت في سكون ثم بدأت أعصابه تتراخى ، تجول ببصره في أنحاء الشقة ، ليس هناك سواهما .

حاولت أن تتغلب على توترها الملحوظ فرسمت ابتسامة على شفتيها ودعته للدخول ، انتبه إلى أنه لا يزال يقف خلف باب الشقة ، نظر إليها في إعجاب ، إنها تبدو أجمل في ثياب البيت ، أخذت تحدثه عن مكونات الشقة وصوتها يزداد انخفاضا شيئا فشيئا : " هناك الصالون ، وهناك المطبخ ، وهناك حجرة والداي ، وهناك حجرتي الخاصة " .

وهناك ، حيث أشارت إشارتها الأخيرة ، استشعرت دفأ أنفاسه تخترق كيانها، شعرت في البداية برهبة وقلق ، ثم .. استسلام ، ثم .. تلذذ ، ثم .. انفلتت من بيت شفتيها آهة مكتومة تعلن أنها ... سقطت .

في الواحدة بعد منتصف الليل دخل الأب إلى الشرفة حاملا بإحدى يديه كوبا من الشاي الساخن ، وفي اليد الأخرى سيجارة يخرج دخانها من فمه في تلذذ ، وقعت عيناه على قفص العصافير ، فغر فاه دهشا ، فقد كانت الأنثى ميتة ، أما الذكر فكأنما أصابه مس من الشيطان فأخذ يقفز ويضرب الهواء بمنقاره بقوة في عشوائية .





التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !