مصر كانت تتّسع لهموم العرب وعيوبهم كما كانت تساهم في صنع انتصاراتهم وأفراحهم شعوبا وأفرادا. كانت زمن الكفاح التحريري ملجئا وملاذا ومنبرا لزعماء حركات التحرير العربيّة يجدون في دفء بيتها- بيت العرب- ما يُحصّنهم من الخذلان واليأس وما يُغذّيهم بالثبات والصّمود وما يدعمهم بما توفّر من دعم أهمّه تلك العواطف الفياضة الصادقة التي تغمر بها مصر- قيادات ونخبا وشعبا- كلّ عربيّ جاءها بحلمه وقضيّته وأشواقه.
في ذلك الزّمن الذي كان فيه العرب،كلّ العرب،محكومين بإرادة التغيير،عُزّلا من أيّ عتاد يُذكر غيرها،كانت مصر أمًّا لهم تحنو عليهم وتحتضنهم برفق وتُضمّد جراحهم وتُطعمهم من قوتها القليل ومن قلبها الكبير الكثير،فيفوح طبق " طعميّتها " بالرّوائح الشّذيّة.
كانت مصر النّاصريّة،رغم كلّ ما عُدّ لذلك العهد من مآخذ،علامة فارقة في العالم من حيث قدرتها على تجسيم وحدة الشعوب(العربية) أمرا واقعا لا قرارا فوقيا أو سلطويا-وهو القرار الذي كان وظلّ إلى اليوم معطّلا لذلك الأمر الواقع ومتآمرا عليه...كان العرب لا يغفرون لأنفسهم إهمال خطاب للراحل جمال عبد الناصر لا يستمعون إليه بمهابة وشغف ولا يستشهدون بمقاطع منه،كما كانوا لا يُفرّطون في رائعة من روائع الراحلة أم كلثوم لا يتغنّون بها ولا يحفظونها على ظهر قلب سابحين في لجج الهوى محلّقين في فضاء الإبداع الخالد...
ونتيجة لشريعة الحبّ المتبادل الغامر، كانت الشعوب العربيّة مقدّرة جميل الأمّ الغالية،لا تعصي لها أمرا،ولا ترفض لها طلبا،ولا تخذلها حين تنتبه لخطب ألمُّ بها بما توفّر من عطاء متواضع تُعوّض نقصه بنبل المقصد وتوهّج عواطف التّعظيم لمصر.
وككلّ الأمّهات التي تسكنها عاطفة أمومة جيّاشة سخيّة،كانت مصر تتكتّم على عوزها وتعضّ بنانها من فرط الوجع الذي يُداهمها، وتكظم غيظها كظما،وتنشغل عن حاجتها من أجل القضيّة الفلسطينيّة وقضايا وعاهات العرب الأخرى،وما أكثرها.
لكنّ مصر السّاداتية تغيّرت،بعد أن سئمت العرب وأمّلت في رغد عيش حسبت أنّ هموم أشقّائها المستأسدين والوديعين حرمتها من بلوغه وشغلتها عن إتيانه،هجرت الأشقاء إلى أحضان العدوّ ودأبت على عشقها الجديد فلا غنمت بالمتعة ولا أشاحت بوجهها عن عشق بلا أمل...
لم يهجرها العرب لكنّ أغلب الظّنّ أنّهم بيّتوا لهجر عروبتهم.
ما تزال مصر،إلى اليوم،يشغلها أمل رغد العيش فلا هي حقّقته حاضنة حضانة الأمّ ولا محضونة في حاضرها الصّعب...
التعليقات (0)