وبيّن السيد الحسني في النقطة الثالثة من البيان الى أن من أعظَم الأخطار والشرور على الأمّة وزيادتها وتعميقها في المجتمع عندما يكون مصدرها هو مَن يملكون العناوين والواجهات الاجتماعية والدينية كعنوان المجتهد والمرجع ونحوه من العناوين .. كما في قوله :
( ويزداد ويعظم ويتعمق الشر والفتك والخطر والدمار عندما يكون ذلك صادراً من شخص يمتلك العنوان الاجتماعي والديني كعنوان المجتهد أو المرجع و نحوها . )
مُشيراً بهذه الشموليّة الى مدَيات البُعد التأثيري والنتائج المُدمّرة وأثرها الواقعي الحقيقي الذي يحصل في المجتمع عندما تكون صور الفتك والشر مؤمّنة ومشرعَنة من قبل هذه العناوين ، مما يدعو بالتالي الى تأصيل حالات القلق والأرباك في مفاصل المجتمع والدولة ، وخلق صراع قد يترشح عنه في المستقبل مالا تُحمَد عُقباه ، وقد تتسع جذوره وتمتد الى كل البلاد .. أي أن تنشئَة تيارات جديدة ( التكتلات والتشكيلات - موضوع السؤال ) حتى لو كانت يحمل ظاهرها الصفة الدينية او تحصّلَت على الأمضاء الشرعي فهي تبقى في حقيقتها مشروع دخيل لايتماشا اطلاقاً مع ما يمكن ان تُحقّقَه خطة ( فرض القانون ) التي وضَعتها الحكومة لو طُبّقت كما هو مفروض ، والتي سبق وباركتها نفس هذه العناوين الدينية وناقضتها لاحقاً بهذا التأسيس من جهة ، ولا يتماها مع كيفية متطلبات أحلال الأمن الداخلي للبلاد وأستتبابه في تلك المرحلة من جهة أخرى ، لذلك تُعتبر هذه التكتلات والتشكيلات المُنشَئة بذريعة أنقاذ الشعب العراقي من الأزمة والتي يعودُ قسمٌ منها الى نفس هذه الجهات الدينية هو توفير عاهة مرضيّة جديدة وغرسها في جسد المجتمع تُضاف للأزمة نفسها ، رغمَ تغطيَتَها وتأمينَها بالشرعية ، الأمر الذي يعني وفق هذه الحيثيّة وهذه السلوكيات، وحسب هذا التضليل الفتّاك، ليس تعميقاً للأخطار والشرور المُشرعنة فحسب ! بل هو تكريس لهذه الشرور والأخطار وديمومتها على المدى البعيد . الأمر والمشروع الذي لازال المجتمع العراقي بكل مكوناته، يعيش كل تداعياته وتبعاته ، وبكل ما ترشّحَ عنه لاحقاً من أزمات واحداث مأساويّة لازالت مًستمرّة لحد الآن .
الغريب في الأمر رغم كل هذه الأزمات ومع كل هذه الحيثيّات والتراكمات المأساويّة المصنوعة وما تبِعَها من ويلات مجرورة عَمّة البلاد بأسرِها ! وعلى الرغم من معرفة المجتمع بهذه العناوين المُسبّبَة، والتي خلقت وجذّرت ورسّخت وكرّست وشرعَنَت لهذا المشروع الخطِر .. إلا أن المجتمع لازال يسير خلفهم ويتّبِعهم ويصدّقَهم ! كما في قول السيد الحسني في النقطة رابعاً من البيان :
( لكن العجب العجب العجب ...وكل العجب من الناس ...والعتب العتب العتب ...وكل العتب على الناس الذين يصدقون هؤلاء ويتبعونهم ...ألا يعلم الناس أن هذا التصرف يجسد حقيقة الاستخفاف والانتهاك لإنسانيتهم والاستصغار والاحتقار لنفوسهم وعقولهم وأفكارهم ...ألم يعلم هؤلاء أن فرعون استخف بقومه فأطاعوه ...فلماذا تكون أسوتنا و قدوتنا قوم فرعون فيستخف بنا البعض ونطيعهم.. لماذا ...؟؟؟ قال مولانا العظيم { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ } زخرف/54 . ) .
لقد جسّد السيد الحسني بهذا الخطاب في هذه الفقرة اروع ألوان التربية الروحيّة والأجتماعية والنفسيّة ، وأنطوائه على مفاهيم علمية ومعرفيّة ثرّة تضُم أعلى مراتب الثقافة والأحاطة والأمكان في توعية الجماهير المسلمة، وتعريفها ليس بواجبها التكليفي الشرعي والفكري مع نفسها فحسب ، بل وحتى في المسؤوليات الأنسانية والوطنية التي تقع على عاتقها ، فضلاً عن ضرورة توعية المجتمع المسلم من سيرَه وتَبعيّتهُ وأنجراره وتصديقه وإتّباعهُ هذه العناوين والمُسمّيات ، الأتّباع الذي أدّى بالتالي وفق هذه الحيثيّات وهذه التَبعيّة الى إمتهان المجتمع العراقي المسلم ، فضلاً عن باقي مكونات المجتمع الذلَة والأحتقار والأستعباد، ومهّدَ المجتمع بسَيرِه وأنجراره خلف هذه الرموز على حساب كرامته وعقله ونفسه وأفكاره وكيانه وأنسانيّته ، طُرُق إحتقاره وأستصغاره والأستخفاف به وأنتهاكه .
استناداً لهذا كان العجب وكل العجب من هذا الأتباع والتصديق والتصرف اللامعقول ، الأمر الذي أنسحبت كل نتائجه المزرية وأزماته اللاحقة على المجتمع العراقي بأجمعه وليس على هؤلاء الأتباع وحدهم فقط .
الحرقه والألم واللوعة والأسف، تتجسّد في العتب وكل العتب على الناس، كان هذا الخطاب الأبوي بمعانيه الروحية والأنسانية، ينمُّ عن حسرَة وحشرجَة ولوعة وألم اسفا يعتمل في صدر السيد الحسني ، لما يراه من مآسي وويلات تُحيط بشعبه .
يُعتبر العتب من اجمل ألوان الأسف على الأحباب ، ويأتي العتاب على قدر المحبة، وهو لغة الأحباب، لكن العتاب لايكون أسلوبا فعالا إلا اذا استخدم في الوقت المناسب ومع الشخصية المناسبة التي تتقبل العتاب اللطيف بصدر رحب ، لكن كيف بالسيد الحسني وهو يتعاطى مع كل المجتمع بنفس الروحية والخُلُق الرفيع من عطف وحنو الى محبَّة وتسامح ، من هنا قال الشاعر وهو يصف هذا اللون من العتب :
اذا انت عاتبت الملول فإنما ***** تخط على صحف من الماء أحرفا .
وأن كان المجتمع هنا هو الجاني على نفسه فلا يحقّ له الضجر والملل مما جلَبَتهُ يده وما جلَبهُ على نفسه . فكان عتاب السيد الحسني عتاب مُحب الخير لأهله وأبنائه ، كيف لا وهم أبناء جلدته وأرضه ودينه وموطنه. وهو يرى شعبه يمُر بأشد الأزمات والأهوال وأعظمها .
فكما يجب العتاب في حدودٍ معينّة ، كذلك يلزم ان لاينقص عن الحد الذي يجعله فعالا ، فالتهاون احيانا يؤدي الى استسهال الأمر من قبل الآخرين ، ومن ثم يتمادون اكثر في عدم المراعاة حتى لأنفسهم وحقوقهم ووطنهم ودينهم وواجباتهم ومسؤولياتهم ، بل وحتى عدم مراعاة مشاعرهم وأفكارهم وعقولهم وأنسانيّتهم ، كما رأيناه الآن .
يُشكّلَ الجهل الثقافي والفكري في المجتمعات ، ونقص التوعية والتعصّب القبلي والجِهَوي، عائقة تُعتبر من أصعب أزمات وكوارث الشعوب ، لهذا قال الحكماء (الجهل عدو الأنسان) خاصة حينما تتمسك هذه الشعوب بقِيَم مستهلَكة بمثل هذه الموروثات ، وتعفو البحث عن قيمَتها الأنسانيّة والتمسك بكرامتها الأجتماعيّة بالدرجة الأساس ، ومن ثم قِيَمَها التربويّة والفكرية والثقافية وحفظها . ويُعتبر الجهل والخنوع والذلّة ، والقناعات الفارغة ، والرضوخ للظلم والتكبّر والتجبّر والطغيان ، والسكوت على الفُقر والجوع والمهانة والأستعباد ، والصمت على الفساد والأفساد والفاسدين . تُعتبر هي من أهم الأهداف والغايات التي يسعى وعّاظ السلاطين لتحقيقها ، الأمر الذي أستغَلتهُ قوى التجبّر والظلام على مرّ العصور ..
من هنا كان خطاب السيد الحسني وأستشهاده بالآية الكريمة " { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ } " نابعاً عن معرفة عالية ووعي كامل بثقافة هذه الحقيقة التأريخية ، والتي لو ترجمناها برؤية وفهم تحليلي شخصي آخر ، لخرجنا برؤية اخرى ونتيجة مُغايرة تماماً لما شرحناه وطرحناه في الفقرة الأخيرة من هذا البحث .
أي ( بما يخص القوم ) .
رغم وجود أمتداد الخط الأصلاحي في قوم فرعون متمثلاً بالمصلح نبي الله موسى (ع) إلا ان القوم ابوا أن يتّبعوا النبي (ع) إلا القلّة منهم ، ممن وعوا وعرفوا حقيقة الأنسان وكرامته التي حفظتها لهم السماء ، بعدم الرضوخ والركون الى الظالمين ، فوصفَ الباري تعالى الآخرين ونَعَتهُم بأنهم كانوا قوماً فاسقين .
من هنا نعرف ونعلم جيداً وبكل وضوح، ان هذه الحيثيّة هي سُنّة سماويّة تأريخيّة تجري على كل الأمم وفي كل عصرٍ وزمان.وكما مَنَّ الباري تعالى على تلك الأمم بالأئمة والنبيين (ع) كذلك تَفَضَّلَ الباري سبحانه على الأمّة والعراق تحديداً بالسيد الحسني هادياً وداعياً الى نور السماء نور الله سبحانه نور النبيين والأئمة المعصومين (ع) نور الهداية والخير والرحمة والعدل والصلاح ، وعلى الأمّة الأسلامية والعراقيين بنحوٍ خاص ، إذا كانوا ينشدون الخلاص من هذه الأهوال والأزمات والكوارث الأنسانية ، والتطلع الى حياة حرة كريمة ، الألتفاف حول ظاهرة السيد الحسني وتكريس كل الجهود والطاقات لخدمة ودعم أُطروحته وقضيّته الأصلاحية
العادلة .
التعليقات (0)