مواضيع اليوم

بياع الورد في بغداد

nasser damaj

2009-09-17 00:47:06

0

بياع الورد.. في بغداد 
بقلم: خليل الفزيع 

     عندما كنا صغارا، كان المذياع في بداية ظهوره، وكانت إذاعة بغداد تبث الأغاني التي تلقى إقبالا منقطع النظير من جميع المستمعين الذين يتحلقون أمام المذياع متسمرين في أماكنهم دون حراك ليستمعوا إلى حضيري أبو عزيز يطلق صوته الرنان منشدا أحلى الأغاني أو ناصر حكيم أو داخل حسن أو غيرهم من أعلام الغناء العراقي.
    ومما يروى من الطرائف عن تلك الفترة أن أحدهم اشترى مذياعا ولما لم يسمع صوت حضيري أبو عزيز أرجعه إلى صاحبه بحجة أن مذياعه ليس به صاحب هذا الصوت المعجزة، كانت تلك الأغاني تبث قبل صلاة المغرب، فإذا ارتفع صوت المؤذن.. أخرس صوت المذياع وسارع الناس إلى تلبية نداء الصلاة.. وزحفوا إلى المساجد جماعات وأفرادا، كان ذلك قبل أن تظهر فتاوى تحريم الأغاني ويجتهد المجتهدون في التضييق على خلق الله وحرمانهم من بعض المتع البريئة، الذين يذكروننا دائما بعذاب جهنم، وينسون نعيم الجنة لمن أحسن عملا.
    ومن أشهر أغاني تلك الفترة أغنية (عمي يا بياع الورد) لطيب الذكر حضيري أبو عزيز، يرددها الصغار والكبار محاولين تقليد ذلك الصوت الضخم الرنان، حتى وإن اضطروا إلى إدخال أعناقهم في (تنكة) فارغة تظهر أصواتهم رنانة عالية لعلها تشبه صوت عمنا حضيري، وهو هدف بعيد المنال.
    عندما زرت بغداد لأول مرة قبل أن يتسلط عليها (البعثيون) رأيت مظاهر الفرح في كل أرجائها، فهي حافلة بألوان الفرح، في الغناء والفنون المسرحية والتشيكية والشعر والمكتبات، وإن تسرب إلى ذلك الفرح شيء من الحزن الموروث من مآسي الأزمنة الغابرة في التاريخ العراقي المتخم بالأحداث الدموية الرهيبة، وقد مرت الأغنية العراقية بعدة مراحل يمكن اختصارها في فترة الازدهار في الخمسينيات والستينيات الميلادية، وأبطال تلك الفترة حضيري أو عزيز وزهور حسين ثم ناظم الغزالي وعفيفة اسكندر وفرقة الإنشاد بإذاعة بغداد، وكانت للغناء الريفي صولاته على يد داخل حسن وناصر حكيم وأقرانهما، ومع وصول البعث إلى الحكم ظهرت أصوات جميلة لم تلبث السلطة أن مسختها وأجبرتها على التغني بأمجاد البعث ، وانتهت تلك الأصوات أما بالهروب والنجاة من قبضة العتاة، أو الوقوع في مستنقع السلطة الآسن، وبعد هزيمة حرب الكويت، كان لا بد من إشغال الناس بما يصرفهم عن الإحساس بمرارة تلك الهزيمة، فنشطت أغاني الخلاعة والمجون، وأصبحت الاستعراضات الجسدية المهينة هي قوام الأغنية العراقية واتخذت من المرأة وسيلة إغراء وغواية، وازداد الإقبال على (الكبريهات) التي كان من روادها بعض رجال النظام، ومنهم من سجل رقما قياسيا في حالات الاعتداء على النساء في تلك الأماكن المشبوهة، بينما ظل الشعب مطحونا، يردد أغانية الخاصة التي لم تدنسها يد السلطة، ولم تطلها أيدي المنتفعين الذين يملكون مواهب ليس منها الغناء، ولا تزال الأغنية العراقية تعاني من خزي تلك الفترة وما علق بها من رقص خليع مستهجن، تم تصديره للخارج، وتلقفته بعض الفضائيات الخليجية بعناية فائقة.
    الآن بعد أن حدث ما حدث، هل يعود الفرح إلى شوارع بغداد؟ رغم ما في هذا الفرح من حزن أصبح طابعا للأغنية العراقية، وهل سيسمع البغداديون من جديد (عمي يا بياع الورد) وغيرها من الأغاني العراقية الأصيلة؟.
    ربما نعم، وربما لا.. فالعراقيون لا زالوا يدفعون ثمن هذه الفوضى العارمة التي تسود شوارع المدن العراقية دون استثناء، ولا زالوا ينتظرون انتهاء تدخل بعض دول الجوار في شئونهم، ولا زالوا يعملون على إنهاء سيطرة الموالين لتلك الدول على مقدراتهم، ويوم يتحقق لهم ذلك سنجد كل أناشيد الفرح على شفاه العراقيين في كل المدن والقرى العراقية، ولتعود بغداد دار السلام، وقلعة الخلود، .
بغــدادُ يا جــنةَ الدنيا وشـقوَتـَهـــا
قد آنَ للدّهـرِ أن يَحْـني لكِ العُـنـُقـا
كل المدائنِ في أحداقِـِك اختـُـصِـرَتْ
وفـيكِ قلـبٌ ونفــسٌ للهـوى خـُلِـقـا
خذي ضلوعيَ نعْشـاً للشـهيدِ فـمــا
أطيقُ عَيشاً وفيكِ يَعْبَثُ الـصُّـفَـقــا.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات