بدأت السفينه في الابتعاد تدريجيا عن الرصيف٬وقد خلا تماما من الناس٬ فيما عدا شخص واحد٬ لمحته من بعيد منتصبا كالالف٬ يلوح لنا باشارة تعني الوداع والاعتذار ٬فامسكت بالناضور لكي اتحقق منه٬فانجلت هيئته لي بصعوبه٬فقلت لمن حولي : آها .. انه مهدي يا شباب جاء ليودعكم٬ فصمتوا برهه .. ثم ابتسم بعضهم لبعض٬ ولوحوا له ببرود بعد تردد مشوب بنوع من العتب٬بالطبع سبب هذا هو تخلف مهدي عن الابحار معهم٬ فليس ثمة رابط بين البحاره اقوى من رابط الابحار سويا. جلست على الكرسي بعد ان خف الازدحام٬ وخفتت النداءت٬ وهدأ الضجيج في برج القيادة٬واخذ الجميع اماكنهم حالما استقرت السفينة على المسار المحدد لها سلفا باتجاه ممر السولنت الاكثر ازدحاما في شمال اوروبا. يقول الانجليز : في السولنت اي شيء ممكن الحدوث ..! ففي هذا الممر تحطم عدد هائل من السفن بسبب سوء تقدير الاحتمالات٬ كذلك يمكنك تطبيق كل ماتعلمته من حسابات ومهارات وقوانين٬ وايضا رؤية نتائجها وردود افعال الجميع اتجاهك٬ خصوصا اذا كنت كابتين وقد تصاعد الموقف وتطلب الامر منك قرار نهائي وحاسم ٬ نتائجه سوف تجعل جميع الانظار تتجه اليك٬ اما باعجاب او بسخريه دفينه .
كان الجو غائما والامواج صغيرة ومترادفه يكسوها البياض٬تلطم ولكن برفق ربما تنذر بالمزيد حال وصولنا الى البحر المفتوح .. الجميع قد لبسوا اللون الكاكي مع القبعات الزرقاء٬معظمهم قد وضع كيس بلاستيك في الجيب الخلفي للبنطلون٬ تحسبا لأي غثيان مفاجيء٬فمقاومة دوار البحر تحتاج الى عزيمه ورياضه نفسيه٬ تُلهي صاحبها عن التفكير فيه٬ وتُبقيه واقفا على قدميه الى حين ..! دوار البحر ليس مرضا٬ بل حاله اعياء مؤقته يضرب عصب التوازن في الاذن إلا أنه يزول بمجرد زوال مسبباته٬ لكنه ينال من كبرياء البحار عندما يلقي به ارضا٬ ويتركه يائسا ممدا على الفراش٬ فيشعر بالعجز والاهانه امام الاخرين. منهم من لا يعاني منه إلا في اضيق الحالات وهم قله .. كما ان هناك من تكون معاناته شديده .. تعرف الواحد منهم من وجهه المكرمش٬وتفضحه عيناه التي ترف بسرعه٬ ومن حركة تفاحة ادم في بلعومه٬محاولا عبثا ايقاف الغثيان عن طريق الاسراع في البلع . يندر ان يصاب الكباتن بالدوار٬ يلهيهم عن ذلك القلق المتنامي من المسؤليه٬ والتحسب لمزاج البحر المتقلب وايضا لعبة الاحداث الطارئه .
التفت الي زيد قائلا : كابتين سوف تمطر بعد قليل .. قالها بملامح واثقه ! قلت : ليس مستغربا .. غيوم ورياح وامواج متلاطمه٬لم يبقى سوى المطر لكي يكتمل الحفل يا زيد .. ! ضحك وقال : لا .. ما اقوله لك ليس مصدره الاحوال الجويه ..! انه من عندياتي .. كابتين ارأيت ذلك الجسر الذي امامنا .. ؟ قلت نعم فقال : ان كنت تراه فهذا يعني بان المطر قد اصبح وشيكا٬ وان كنت لا تراه تكون السماء قد امطرت .. بالتالي المطر حاصل لا محاله٬ مثل الشمس في بلادنا.. ضحك جميع من في برج القياده٬ وسررت انا من توقيت الدعابه٬ فنحن بحاجه ماسه لدخول السولنت بمعنويات عاليه٬ لذا حاولت ان اقلب الطاوله عليه ..! فسألته : هل تعلم يا زيد ان هناك قطارا يمر الساعه العاشره تماما من كل يوم فوق هذا الجسر ؟ قال : نعم شاهدته مرارا قلت :إذن اريد ان تكون السفينه تحت الجسر في نفس اللحظه التي يكون فيها القطار فوقه٬ اي الساعه العاشره بالضبط ولك مني مكافأه . فنظر الي ببعض عينيه وببعض جسمه٬ وشعر انه امام تحدي يريد اقتحام موهبته كضابط ملاحه من الطراز الاول .. ثم انتصب امامي واثقا وادى التحيه وقال: قبلت التحدي .. ضبط الجميع ساعاتهم على ساعة السفينه٬ واعُلن عبر مكبرات الصوت عن هذا التحدي لاعطائه زخما ومتعه اكثر٬ بينما شرع زيد في سباق مع الزمان وظرف المكان٬ يعطي التعليمات والمهمام لفريق الملاحه٬ فمضى كل منهم يضرع المكان مستعينا بصور الرادار واجهزة الملاحه٬وبرصد زوايا العلامات البارزه٬ ثم يحول جميع تلك النتائج الى رسومات على الخارطه٬ بهدف تحديد موقع السفينه بدقه متناهيه٬ لضبط اتجاه السير وتحديد السرعه الفعليه٬ بغية الوصول تحت الجسر في الزمن المحدد لوصول القطار. فكلما قبض زيد على دقيقه دسها في جيبه تحسبا لاي تأخير مفاجيء٬ يكون سببه اعتراض سفن او زوارق صغيره . اما انا فلزمت الكرسي كرجل مسترخي تحت ظل شجره٬ اقلب الامور في ذهني٬واتابع باحترام واعجاب المهاره والثقه المتبادله بين زيد وفريق عمله٬المنشغلون بترويض الخصائص الطبيعيه٬ من خلال معادله حسابيه دقيقه٬ تعتمد على الرصد والمشاهده٬وتلغي جميع المؤثرات عن كاهل السفينه٬فلا تتزحزح عن مسارها المرسوم ٬هذا المشهد الازلي لم يتغير منذ ان رست سفينة نوح على الجودي وان اختلفت الوسائل او زادت او نقصت المعارف .
انكشف الجسر امامنا واصبحنا ندنو منه بصمت فيما عدا صوت زيد الذي بدأ يردد العد التنازلي بصوت عالي .. ٢٢ .. دقيقه وتكون السفينه تحت الجسر والقطار فوقه .. نظرت اليه والى الساعه بابتسامه منزويه ومكتومه بينما هو لم يعرني اي انتباه .. حينها انتشر الطاقم في كل انحاء السفينه يترقبون اللحظه الحاسمه .. واستمر زيد في العد .. ٤ دقائق .. تلتها دقائق من الترقب والسكون .. ثم صاح الطاقم صيحة رجل واحد عندما سمعوا صوت عجلات القطار تجلجل فوق رؤسنا معلنة الساعه العاشره تماما ... فتنفس زيد الصعداء ثم ابتسم وهو فاغر فاه ...
التعليقات (0)