مواضيع اليوم

بنوة .... قصة قصيرة

عبد الجليل الحافظ

2009-12-10 08:43:24

0


بنوة
لمح شقًا صغيرًا اقترب منه أكثر .. استلقى بجانبه وضع خده حواليه، وأخذ يتحسسه براحته اليمنى كمن يتحسس كنزًا أفنى عمره في نواله حتى بلغ المشيب إلى أن رآه، قرّب أنفه منه وأخذ يشمه ويحبس النفس في صدره طويلاً قبل أن يزفر معه لوعة الصحراء كلها وهي في انتظار المطر سنين طوال حتى أجدبت وما عاد فيها غصن أخضر لتطعم به أحد أبنائها حتى ولو كان ضبًا حزبًا...
مع استنشاقه سقطت دمعة من عيني الرجل الذي أنهكه الزمن في انتظاره منذ أن أجدبت الأرض وما عادت السماء ترسل هباتها على الدهناء منذ سنوات طوال ...
كان آخر مطرٍ رآه لا يعرف كم طاف عليه من سنين لكنه يعرف أنه في هذا الجدب فقد أولاده الثلاثة ، الذين ادخرهم لشدته فأخذتهم الدهناء في شدتها ومحنتها ..
فقد ابنه الأول في بداية المجاعة كان مريضًا لم يبقَ كاهن في الصحراء ولا طبيب إلا وذهب إليه ليعالجه ويشفيه مما أصابه فلم يعرفوا له علاج أو دواء فجاءت المجاعة لتأخذه كأول قربان للسماء تقدمه قبيلته لها ..
أما الثاني فقد فقده بعد أن خرج لرعي ما تبقى من ماعزٍ لهم قيل بأنه رأى قطاة فذهب وراءها ليصطادها حية فأخذ يطاردها وهي تبتعد عنه قليلاً قليلاً وظل يطاردها حتى تاه في الصحراء وكأنها هي من تصطاده طعامًا لذئاب الصحراء الذين لم يبقوا منه إلا قطعًا ممزقة من ثيابه وتميمته التي ألبسها إياه عراف القبيلة يوم ولد ...
أما الثالث فقد مات من أول جولة حينما غزتهم من إحدى القبائل، خرج حاملاً سيفه، حاول منعه فهو لا زال غض العود طريًا ولم يلتحم حتى في عراك حقيقي بالأيدي إلا مع أقرانه وهم يتسلون في المراعي ...
قتل بيديه جميع بناته فلقد فضل أن  يمتنَ من البداية كي لا يصيبه العار منهن ، فهو على يقين أن الغزاة سيسبوهن من البداية ولن يستطيع أن يدافع عنهن فهو قد بلغ من العمر عتيًّا وأبناؤه كلهم صغار لن يقدروا على ذلك فيلحقه ويلحقهم عار البنات المسبيات...
حتى لو لم يسبهن الغزاة - وتركوهن كي لا ينشغلوا بإطعام أفواه جديدة في هذا الجدب - فإنه على يقين أنهن سيقدمن أجسادهن لأول عابر سبيل بيده كسرة خبز يابسة أو قربة ماء، فالنساء لا يعرفن الشرف القابع في صدور الرجال، فهن بلا شرف أو كرامة إن ابتعدت عنهن عين الرقيب ويد الحسيب...
لذا فضل أن يغسل العار قبل وقوعه وأن يتخلص منهن وهو شامخ الرأس بين أبناء عمه على أن يكون منكس الرأس هو وأبناؤه ..

أخذ يربت على الشق بيده اليمنى وهو يتمتم ببعض التمائم والأحراز ويبتهل إلى الأرض ويسقيها بدموعه التي انهمرت بقوة تشابه المطر والسيول التي جاءتهم بعد طول انتظار حتى أخذت ما تبقى من إبل وماشية ...
أخذ يوسع الشق بأصبعه وهو لا يزال يلهج بتمائمه بصوت خفيض غير مسموع ...
أخيرًا وصل إلى كنزه ومبتغاه أخرج ابنة الأرض رافعًا إياها صوب السماء فهي كذلك هبة منيها المطر ...

14/12/1430 هـ
عبد الجليل الحافظ
الأحساء - الحليلة




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !