هذه الحادثة مشهورة تحكي بناء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالسيدة"صفية بنت حيي بن أخطب" في غزة خيبر، وذلك بعد طُهرها من الحيضة الأولى في مخالفة واضحة لصريح القرآن، وقد اختلف الرواة في أمرها هل كانت زوجة أم ملك يمين...أنوه على أن هذا البحث هو ثمرة مجهودي في إحدى المواقع، فقد ناقشت القضية بكامل أركانها-تقريباً-حتى أننا لم نترك أمراً إلا وناقشناه، ولعدم سبق النتيجة سنترك للقارئ الكريم أن يكتشف النتيجة بنفسه...أيضاً فنوايا البحث ليست لتلميع أو لهدم كتاب أو شخص إنما هي محاولة للمكاشفة والوضوح وإزالة اللبس الذي اعترى الكثير من تراثنا التاريخي.
سؤال يدور في ذهني دائماً حين التطرق لقضية بحثية من قضايا التراث ..هل كان للإمام البخاري-كمثال- أن يستوثق صحة رواياته بأسلوب وآليات أفضل في زمانه لو قدّر الله له أن يعيش في القرن الحادي والعشرين؟!..الإجابة على هذا السؤال سيضعنا على مضمون النقد، وأن الانتقاص من الأئمة درب الجاهلين، فلا يقول قائل أن البخاري كان يتعمد الانتقاص من النبي إلا ويعتقد بأنه على غير ملة الإسلام-وحاشاه-بل نقول أن الانتقاص والاتهام لو حدث فهو عن جهل وبغير قصد منه، فهؤلاء الأئمة كانوا يتحركون بناءاً على قُدراتهم المحكومة بواقع زمانهم، فالأصل أن الفكر ابن الواقع وليس العكس وفي هذا مقام شرح طويل لا يتسنى لنا عرضه الآن... أيضاً فاعتقادي في البخاري وغيره-كمثله- أنه كتاب رواية بشرية غير معصومة، وأن الخطأ وارد فيه وبقوة، ومع ذلك أؤمن بأن أغلب ما في صحيح البخاري هو صحيح السند، أما أن ننسبه للنبي قطعاً فهذا بعد تبيان آحاده من تواتره ..فالثابت أن جمهور أهل العلم اتفقوا على أن رواية الآحاد- أياً كانت درجة صحتها- هي ظنية الثبوت لا قطع فيها كي ننسبها لرسول الله..وهذه نقطة في غاية الأهمية ويتغاضى عنها الشيوخ ويحجبونها عن العامة قصداً، وهذا أمر خطير بلا شك وقد نتج عنه أشياء لا تقل في خطورتها عن خطورة بناء إنسان عنيف أو كاذب أو منافق أو متناقض...وربما نتطرق لهذا الأمر مستقبلاً بإذن الله.
في البداية فقد استوقفتني عِدة روايات في صحيح البخاري بشأن بناء الرسول بصفية بنت حيي ، تقول الروايات بأن الرسول قد تزوجها بعد قتل زوجها وهي عروس، ولم ينتظر النبي قضاء عِدتها كما في كتاب الله إذ قال الله تبارك وتعالى.. "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهرٍ وعشرا "..الآية واضحة بضرورة انقضاء 130 يوماً على الأقل كي يجوز للمسلم أن يتزوج أرملة ..ولكن بعد مطالعة هذه الروايات رأيت أن البخاري قد اتهم النبي بمخالفة القرآن في تلك القضية ، وهذه هي الروايات بتمامها وسنعقبها بالصورة العامة المُنطبعة في الذهن ثم سنعقبها ببعض الإشكاليات للمناقشة:
أولاً:الروايات في صحيح البخاري:
1- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
"قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحِصْنَ ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا وَكَانَتْ عَرُوسًا فَاصْطَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ فَخَرَجَ بِهَا حَتَّى بَلَغْنَا سَدَّ الرَّوْحَاءِ حَلَّتْ فَبَنَى بِهَا ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ ..."
2-حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي طَلْحَةَ الْتَمِسْ غُلَامًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى خَيْبَرَ فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ مُرْدِفِي وَأَنَا غُلَامٌ رَاهَقْتُ الْحُلُمَ فَكُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ كَثِيرًا يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ ثُمَّ قَدِمْنَا خَيْبَرَ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحِصْنَ ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا وَكَانَتْ عَرُوسًا فَاصْطَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ فَخَرَجَ بِهَا حَتَّى بَلَغْنَا سَدَّ الصَّهْبَاءِ حَلَّتْ فَبَنَى بِهَا ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ صَغِيرٍ ..."
3-حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ح و حَدَّثَنِي أَحْمَدُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيُّ عَنْ عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
"قَدِمْنَا خَيْبَرَ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحِصْنَ ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا وَكَانَتْ عَرُوسًا فَاصْطَفَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ فَخَرَجَ بِهَا حَتَّى بَلَغْنَا سَدَّ الصَّهْبَاءِ حَلَّتْ فَبَنَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ صَغِيرٍ"
ثانياً:الصورة العامة المنطبعة في الذهن
تصور هذه الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يسمع لجمال النساء، ثم وفي حادثة من الحوادث أن ذُكر له جمال إحدى النساء وقد وقعت في ظرفٍ صعب على كل امرأة وهو موت بعلها، فما كان بعد ذكر جمال هذه المرأة للنبي أن أُعجِبَ بها، ثم أخذها معه في غزواته حتى حاضت حيضةً واحدة(حلّت)،ثم ما لبث النبي إلا وأن بنى بها أي دخل بها أي عاشرها معاشرة الأزواج..
ثالثاً:الإشكاليات
1-الرواة يقولون أن النبي تزوج السيدة صفية أم المؤمنين لجمالها وذلك كسبب أصيل لتلك الزيجة، أما موت بعلها ذلك الظرف الصعب على كل إمراة لم يكن إلا سبباً ثانوياً .
2-الروايات تُجمع على أن النبي دخل بزوجته بعد تمام حيضة واحدة ليس أكثر، وهذا ترفٌ فكري وهذيان واضح لا يجوز لصقه للنبي الذي لم يكن ليُخالف كتاب الله ولو للحظة.
3-السيدة التي تزوجها النبي كان أبيها يهوديا وهو حُيي بن أخطب، وهذا الرجل تزعم بعض كُتُب السنن أن الرسول قد قتله بعد ربطه..يعني يقول الرواة أن النبي قتل رجلاً وهو أسير.(السنن الكبرى للبيهقي ج6ص526).
4-هذه السيدة أيضاً يدعي عليها ابن حبان بأن رسول الله قام بقتل زوجها وأخو زوجها (صحيح ابن حبان ج11ص607)
5-مما قاله البيهقي وابن حبان وغيرهم نرى بأن النبي قد قتل رجلاً ثم تزوج إبنته طمعاً في جمالها، وقام أيضاً بقتل رجل آخر ثم تزوج زوجته التي هي ابنة الرجل الأول لنفس السبب وهو أيضاً لجمالها..والأعظم أنه دخل بها دون أن تنقضي عِدتها....
- ما الذي بقي إذاً كي ننتقص من نبينا بهذا الشكل؟!... إن هذه الصورة المنطبعة في ذهن الراوي أو كما سمعها دلالة على شيوع آفة النقل دون تمحيص..ودلالة أخرى على تعظيم السند دون المتن..هذا المتن الذي يوضح وبجلاء أن هناك أشياء في أنفس الرواة لصقوها للنبي عُنوةً -عمداً أو جهلاً –حتى وثقتها كُتُب المتون وصارت لدينا من الثوابت وأنه لا يجوز ردها طالما كان سندها موصولاً!.. راجعت شرح النووي على مسلم وشرح ابن حجر على البخاري فوجدت تبريراً لتناقض الروايات مع القرآن بحُجة .."عِدّة المسبية" ..وسوف نتعرض لهذه القضية من خلال البحث باستفاضة بإذن الله.
-
عرضنا هذه الرؤية على المخالف فقال أن الرسول بنى بصفية بنت حيي بن أخطب وهي سبية من السبايا ..وعدة المسبية هي أن تستبرئ بحيضة واحدة ، لما رواه أبو داود والإمام أحمد عن أبي سعيد ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبي أوطاس : لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة) . وصححه الألباني ، وهو مخرج عنده في الإرواء ....فلا تعارض إذاً لأن الآية عامة و حديث زواج النبي بصفية و حديث أبو داود و أحمد مخصصين للأية و هذا ظاهر.
قلت سنتخلى عن شرط الصحيح الذي لم يراعه من احتج بفقه سبايا أوطاس..وسنتعامل مع القضية كونها صحيحة السند وأن أي شبهة تعتري هذه الغزوة وأحداثها غير موجودة..! إذاً فعدة المسبية جاءت بناءاً على رواية تاريخية وثقت بناء الصحابة بسبايا المشركين في غزوة أوطاس..ولكن هذه الغزوة تكاد تكون مجهولة الزمن بشكلٍ كبير حتى اختُلف فيها هل هي غزوة حنين أم هي فتح مكة وهما حادثتين وقعتا في السنة الثامنة للهجرة، وفي كلتا الحالتين فقضية صفية بنت حيي أسبق لهذا الزمن بعامين، كون قضيتها حدثت في غزوة خيبر-حسبما يقول الرواة-وهذه الغزوة كانت في السنة السادسة من الهجرة ، أي أنها أسبق من هذا التاريخ وبناءاً عليه يسقط الزعم بأن بناء الرسول بصفية- بعد طُهرها بحيضة واحدة- كان بناءاً على فقهه في غزوة أوطاس، فإن كان من تشريع سابق لخيبر يخص فقه السبايا وعِدتهن فأين هو؟
حقيقة فإن كون صفية في السبايا أو ينطبق عليها أحكام السبايا هو ليس مُشكلاً في حد ذاته كي ننظر للحادثة بعين الريب، لأن هناك خلافاً حاصلاً مع رواية أنس بن مالك في الصحاح حكى فيها زواج صفية من الرسول وهو ما يعطيها حق العدة للأرملة المنصوص عليه في كتاب الله..ناهيك عن دعوى الحجب فكلها مؤشرات تقول بأن النبي تزوجها وليست مِلكاً لليمين...إذاً ما الحل لكي لا يرد الشُرّاح هذه الروايات؟!..الحل هو القول بأنها سبية من السبايا، وأن عِدّة السبية الأرملة تختلف عن عدة الحرة ليس بمقدار شهر أو اثنين بل إلى ثلاثة شهور على الأقل، وهو فارق زمني كبير سيضع شبهات حول القضية برمتها...ناهيك عن الصورة المنطبعة في الذهن من جراء عدم مناقشة تلك الروايات أو التبرير لها بما يلائم ظرفها الزماني والمكاني وإهمال حتى آراء الأطباء وبذلك لا نرد رواية صحيحة!
هذا السلوك ليس مُقنعاً على الإطلاق فهو سلوك أقرب إلى التبرير منه إلى المناقشة المنهجية..حقيقة أنا اطلعت على معظم الأقوال في القضية..إثباتاً ونُكرانا ..ثم سألت نفسي لماذا هذه القضية هي مشوشة عند الكثيرين حتى عند بعض طلاب العلم ، فتشوّش العقل من أحداثها يعني وجود ثغرات وأن الأحداث غير مرتبة وغير مقنعة فوق ذلك فهي تثير شُبهات حول أخلاق الرسول..قد تقنعنا نحن المسلمين أو نتعاطف معها كسُنة أو نجد لها التبرير المناسب -في ظننا- لأن هذا مذهبنا وهذا ديننا ويجب علينا فِعلُ ذلك..أما أن نُقنع بها الآخرين فصعب... .نحن لا نعي- حتى الآن- مقدار الخطر الحقيقي الذي يتهدد الإسلام بتشويه صورة نبيه..فلا يكفي أن ندافع عن نبينا بالكلام والتوصيف...إذ العقول تسأل وتنظر، ومن سأل ونظر ولم يُلقى لديه جواباً فسيثاوره الشك.
أيضاً فجميع الشروحات التي تناقش هذه القضية تعيش بالنص وتفكر به ولا تعيش في النص وتفكر فيه وتطرح ما فيه للتساؤل، قضية عدة المسبية أو ما قيل عنه فقه سبايا أوطاس الذي يحتج به الشُرّاح -كونه الدليل الوحيد-نسوا أن آيات الجهاد كانت تضع ضابطاً لمنع سبي نساء الأعداء تحت قاعدة.."ولا تزر وازرة وزر أخرى"..وأيضا.."واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون"..فكيف لا يرضى الله لهم الظلم في الآخرة ثم يرضاه لهم في الدنيا تحت باب السبي والرق؟!..
أيضاً فمن لا يرى في إعجاب النبي بجمال صفية وزواجه بها لأجله كسبب أصيل بحُجة أن الإعجاب بحُسن النساء طبيعة بشرية والرسول غير معصوم من هذا أقول... أنه ليس الإعجاب بجمال وحُسن النساء كونه أتى في سياق الافتراض فيكون سببا أصيلاً في أي زيجة للرسول ، فالوارد في السنة غير ذلك حيث اشترط النبي على المسلمين أن يتزوجوا من تحققت فيهن تلك الصفات.."ذات الدين-الودود-الولود"..هذا كاختيار أولي مُعرف في قوله عليه الصلاة والسلام.."فاظفر"..أي هذه سنته وهذا سلوكه..وهذا يتسق أيضاً مع شخصية النبي وخُلقه في القرآن وصورته في كافة عقول المسلمين..هذا لو افترضنا أن النبي-حسب الروايات- سلك سلوكاً مشروعا في الزيجة..أي أتى لأبيها أو لولي أمرها يستأذنه ثم يدفع صداقها..ولكن الروايات تقول غير ذلك، فالروايات تقول أنه قتل أبيها بعد ربطه وهو أسير!..ثم أتى على إبنته ليتزوجها..ليس هذا فقط بل هناك روايات –صحيحة السند-تقول أن صفية وقعت في سهم أحد الصحابة ولكن بعد مشاورات أخذها النبي لنفسه ومنعها عن الصحابي فقط لمجرد أنها إبنة أحد أسياد اليهود كما سيأتي بيانه!
أيضاً نسى الشارحون بأن الله قد أنزل في سورة الأنفال أمراً بعدم الأسر ..يقول الله تعالى..." ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم"..وسورة الأنفال نزلت قبل غزوة خيبر بكثير فكيف يأسر النبي أمة ثم ينكحها تحت بند وما ملكت أيمانكم بعد نزول هذه الآية ؟!.. هذا يعني أن كافة روايات الأسر التي أعقبت نزول هذه الآية كلها محض خيال ولا علاقة لها بالنبي ولا بصحبه..وإلا كيف نجمع بين فهم هذه الآية وتلك الروايات التي تتعارض صراحة مع القرآن وأحداثه؟!
أيضاً نسى الشارحون أن حادثة صفية كانت في غزوة خيبر من السنة السابعة للهجرة، وسورة النساء التي نزلت قبل هذا التاريخ بعام أو بعامين..وسورة النساء يقول الله فيها بعدم جواز وطء ملك اليمين إلا بشروط.." ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم"......الآية تقول وبوضوح أنه لا يحل إقامة علاقة جنسية مع مِلك اليمين إلا بشرطين قال البغوي.."وفيه دليل على أنه لا يجوز للحر نكاح الأمة إلا بشرطين ، أحدهم : أن لا يجد مهر حرة ، والثاني أن يكون خائفا على نفسه من العنت"..بينما الروايات تقول بأن الرسول أعجب بها فاتخذها لنفسه دون الصحابي..بما يثبت بأن الرسول لم يكن خائفاً على نفسه من العنت كي يبني بها..
سلمنا أن الرسول بني بها خوفاً على نفسه من العنت فكيف ذلك وخيبر لا تبعد عن المدينة تلك المسافة المكانية والزمانية التي تُجيز للرجل الخوف على نفسه من العنت..سلمنا أيضاً أن المسافة توجب هذا العنت فلماذا رأوا بناء الرسول بصفية بعد قتل أبيها وزوجها والآية واضحة أنه لا نكاح للأمة إلا بإذن أهلها، وهل يجوز أن أقتل من كان له سلطة زواجي بابنته أو أخته ثم أبني يها بعد قتل أبيها أو أخيها؟!..هذا إشكالٌ أخلاقي لم يُراعه الفقهاء ولم يبحثوا فيه.
سلمنا أيضاً أنه يحل للرجل أن يبني بالأمة بعد حيضة واحدة فما الذي يجمع بين الأرملتين الحُرة والأمة غير العدة المنصوص عليها في القرآن وهي أربعة أشهرٍ وعشرا..ولماذا حملنا حديث أوطاس على الأمة ولم نحمله على الحُرّة، وهل العدة هي لحفظ الأنساب أم أن هناك أسباباً أخرى تراعي الحالات النفسية والاجتماعية، ولماذا راعينا هذه الحالات في الحُرّة ولم نُراعها في الأمة...هذا إشكالٌ أخلاقي يُضاف أيضاً إلى سابقيه... سلمنا أن صفية كانت مسبية وتنطبق عليها كافة حقوق وأحكام السبايا..إذاً ما هي هذه الحقوق وما هي الأحكام..هل لها وجود في القرآن أم هي مبينة على روايات تاريخية وحديثية متضاربة وأكثرها يحط من صورة وسمعة النبي في عقول وقلوب الناس...خلاصة ذلك أن من صنع عدةً مخصوصةً للجارية صنعها عن رواية وهذا عين التقليد وعبادة السند ، ولو تأملوا في القرآن لوجدوا أن الله قد شرّع فيه كافة صنوف العِدد من الأرملة إلى المُطلقة إلى التي لم تحض بينما لم يُشرّع أي عدة للجارية كون العدة مشروعة-كما هو واضح من القرآن-لأسباب بيولوجية وسيكولوجية وليس عن أسباب تصنيفية اجتماعية!.. فلننظر للقرآن سنجد أن لفظ"النساء" لم يُختص به مقام اجتماعي عن آخر، ولننظر أيضاً لأحكام الأسرى في القرآن سنجد أن جميعها مختصة بالحروب وظروفها ورؤية القائد مما يسمح لضمان حقوق أسرى المسلمين في المقابل..بينما لم يجعل الله للأسير أي حقوق متمايزة عن الحر اجتماعياً والعكس صحيح.
سلمنا أيضاً بصحة القصة كما وردت بتمامها في الصحاح وأن كافة الشبهات التي ألحقت بها قد تم ردها..ألم يقل الله عز وجل في سورة الأحزاب.."لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا "...وسورة الأحزاب نزلت في السنة الخامسة للهجرة والآية واضحة بالأمر الإلهي للرسول بأنه لا يحل له أن يتزوج بعد نزول هذه الآية..!
سلمنا بصحة استثناء المسبية كيف ذلك وفي نفس الصحيح صحيح البخاري أيضاً يقول أنه تزوجها وكان صداقها عتقها :
1-حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا حماد عن ثابت وشعيب بن الحبحاب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها...صحيح البخاري
2-حدثنا آدم حدثنا شعبة عن عبد العزيز بن صهيب قال سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول سبى النبي صلى الله عليه وسلم صفية فأعتقها وتزوجها فقال ثابت لأنس ما أصدقها قال أصدقها نفسها فأعتقها..صحيح البخاري..
كيف ذلك ولا صداق للسبايا..هذا يؤكد-حسب كلام البخاري- أن صفية كانت زوجة وليست ملك يمين، فإذا قيل بأنه بنى بها وهي مسبية لذلك كانت عدتها أقصر مما نص عليه القرآن، أقول بأن الأحاديث الصحاح تؤكد أنه أعتقها وتزوجها وهذا يعني أنه بنى بها وهي زوجة، وقد مات عنها بعلها وهي زوجة أيضاً وبالتالي فهي تستحق العدة المنصوص عليها في القرآن كونها أرملة..فإذا قيل أنه بنى بها وهي مسبية ثم تزوجها بعد ذلك أقول أين الدليل...؟!
أظن أن الأمور اتضحت نوعاً ما..ولكن إمعاناً في البحث أكثر لرد كافة الشُبهات سنناقش أحد الأقوال عن الإمام النووي في شرحه على مسلم، وذلك إثر تعرضه لحادثة وقوع صفية في سهم دحية الكلبي، واشتباه القول "بأنانية وتصنيف" الرسول-وحاشاه أن يُقال عليه هذا..فقد قال النووي في شرحه على صحيح مسلم :"رأى في إبقائها لدحية مفسدة لتميزه بمثلها على باقي الجيش، ولما فيه من انتهاكها مع مرتبتها وكونها بنت سيدهم، ولما يخاف من استعلائها على دحية بسبب مرتبتها، وربما ترتب على ذلك شقاق أو غيره، فكان أخذه صلى الله عليه وسلم إياها لنفسه قاطعا لكل هذه المفاسد المتخوفة أ.هـ...
والحقيقة أن قول النووي حكايته رده ،فخلاصة طرحه أنه يقول بأن زيجة الرسول بصفية كانت لأجل مقامها ومركزها الاجتماعي..أما الصحاح فتنفي لحُجة النووي وتجزم بأن النبي تزوجها لجمالها- أياً كانت درجة الاهتمام...فأيهما نصدق تبرير النووي أم تصريح الراوي؟!.. أيهما أصح ..من قال أن سبب اختيار النبي لها هو"جمالها"..أم من قال أن السبب هو"كونها من أسياد اليهود"؟!..ولو فرضنا تحقق السببين فهذا يعني أن الروايات وصفت النبي بالأنانية وأنه عليه الصلاة والسلام كان يحسب لنفسه مقاماً أعلى من مقام الصحب اجتماعياً، وأن له حقوق أعلى من غيره ليست مشروعة في القرآن –وحاشاه أن يتقوّل عليه أحد هذا القول الشنيع!....أيضاً أنا لم أقل على قول النووي أن حكايته رده إلا لفساد حجته فساداً بائناً، فلازم قوله أن النبي يتزوج من سادات العرب حصراً ،فكم يكفي النبي من الأزواج والسبايا بنات الأسياد من كامل غزواته ومعاركه، ولازمه أيضاً أنه لا يحق للصحابي بأن ينكح السبية إلا وأن كانت من صغار القوم وأسافلهم..فمن أين أتينا بهذا التفسير وهو يقدح في عدل النبي ومقام صحابته لهذه الدرجة؟!
إن معنى وقوف صفية أمام النبي ليُعاين جمالها كما وُرد في الروايات يتعارض مع كونها زوجة النبي لأجل أنها من بنات الأسياد وهذا رد صريح على تأويل النووي..أما التبرير بخصوصية بنات الأسياد للرسول وتأويله بالحكمة –كما يفعل البعض-فهذا عين التفكير بالنص الذي استشكلت على مثله من كلام الأئمة..لأنه حتى لو قطعنا بصحة الرواية فتأويل الحكمة يلزمه الوضوح ونظام الأفكار، ولكن الحاضر عكس ذلك إذ القضية يملأها الغموض!.. فما بالك بظني الثبوت وأحاديث صفية جميعها آحاد ظنية الثبوت..أقول أننا مطالبون بالتفكير في النص وليس بالنص-كما أسلفنا...على الأقل لنخرج من مُعضلة المُطلق والنسبي هذه التي تُعد العائق أمام فهم تلكم الأمور.... أي مسألة اجتهادية أو بحثية نقابلها بإشكالية المطلق والنسبي فلن يتم حلها..أرى أنه لو قمنا بإخراج عقولنا -جميعاً من أي فكرة أو اعتقاد مسبق فسنرى القضية بشكل أوضح...ذلك لأن التفكير عن قناعة مسبقة يُخرج الفكرة من سياق البحث إلى سياق التأكيد أو التبرير..
على الهامش ..فروايات صفية بنت حيي جميعها أخبار آحاد وجميعها تمس جناب وسمعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم..والآحاد لا قطع فيها بالحدوث إذ شهد جمهور الأمة تحرزاً في قبول روايات الآحاد في العقائد وأعدوها ظناً والبعض غلبة الظن، فما بالكم بما يمس جناب وسُمعة النبي، وألا يعتد بجناب النبي عقيدةً أم ماذا؟؟!..ومن هو ذلك الشخص الذي يعد أعظم البشر في الإسلام من النبي كي ندفع عنه النَقَص والزلل؟؟!..أسألكم بربكم لماذا كان الفاروق رضي الله عنه يحترز في قبول خبر الواحد..ومثله أم المؤمنين عائشة وذي النورين رضي الله عنهم أجمعين؟!...هل كانوا حين احترازهم يطعنون بالصحب والأتباع أم أن منهاج التحقق لديهم كان يقتضي التواتر، وهل كان مسلم مُحقاً حين صحح رواية مالك بن أوس التي شتم فيها العباس الإمام علي عليه السلام ووصفه" بالكاذب والغادر والخائن والآثم" أم أن مسلم أخطأ أو الراوي نفسه قد أخطأ..فلماذا لا نحمل الخطأ على الراوي بدلاً من حمل الخطأ على النبي وصحبه.
أخيراً ومع كل هذه المناقشات سييخرج علينا من يُحذرنا بالويل والثبور وعظائم الأمور فقط لمجرد تجرأنا واستخدامنا لعقولنا التي حبانا الله بها لمعرفة الدين ولمناقشة ما جاء به البخاري في صحيحه...لا تستهينوا ياأخوة بما لصق في أذهان الناس عن البخاري ، فمن كثرة تعظيم الأئمة والخطباء له بات الرجل وكتابه قرآناً ثانياً يعتقده الناس عملياً وليس نظرياً..ولو تكلم فيه الخطباء بمنطق الصحيح والضعيف والخطأ والصواب لكان للناس صورةً أخرى تسمح بنقد ما جاء في الكتاب متعارضاً مع القرآن والعقل..ولكنهم لا يفعلون.. لذلك أعذر كل من اعتقد هذا الاعتقاد –عن جهل-فهي تقريباً ثقافة عامة ،وهي بحاجة لتبيان وشرح وإخلاص علمي وخُلقي يدفع الناس لتغيير توجهاتهم بناءاً على الدليل وليس على الشخص والسُمعة.
إن المسلمين في هذا الزمان لا يستشهدون بالقرآن في نقاشهم وخُطبهم أكثر من الروايات الحديثية والتاريخية، حتى أنهم لايقرأون كُتب الحديث والتاريخ أصلاً..ولكنهم فقط يتلقفون المشهور الوارد عن شيوخهم ومراجعهم، حتى أنك لو عقدت استطلاعاً للرأي أي الروايات الحديثية الأكثر شُهرة ستجد أن حديث"حفوا الشارب واعفوا اللحى" هو الأكثر شُهرة..ويليه حديث "افترقت الأمة"..ثم حديث المعازف..ثم أحاديث تحريم العطور والذهب..قد تختلف الدرجات والرُتب لكن هذا مثال للتقريب، أن ثقافة التحريم لدينا أشد وأقوى تأثيراً وشيوعا بين الخطباء والعامة.. لذلك أنا لا أستغرب أن لو أردنا نقاش مسألة تخص سمعة النبي مع طلاب العلم أن يخافوا من الحديث والاجتهاد خوفاً على أنفسهم من العامة..ولكن مع ذلك فقلوب العامة تتصل بالنبي أكثر من هؤلاء الشيوخ والطلاب ،ولو سألت العامة هل تقبلون أن يُقال على النبي أنه كان شهوانياً؟!..لكانت الإجابة أسرع من البرق..سيُنكرون..نعم سيُنكرون لأنهم لا يعلمون ما دُسّ في الكتب وأوذي منه النبي..هؤلاء لا تزال عقولهم على الفطرة والعلم الصحيح..بينما الشيوخ –وكالعادة-سيختلقون التبريرات ولديهم أساليبهم التي تكفي للدفاع عن الراوي مهما كانت تلك الرواية تتصادم مع القرآن والسنة والعقل!
أقول أنه لا أصنام في الإسلام نعبدها، فلا إله إلا الله ولا معصوم إلا محمد ، ولا نبي معصوم إلا ما بلغنا في القرآن من خبره، ولا حق إلا الحق ، ولا شخص غير معصوم فوق المسائلة، ولا أحد فوق النقد حتى لو كان صحابياً لنعتبر..هكذا نفهم الإسلام دون تلوّن أو تمذهب، فالإسلام يحض على الوحدة والاعتصام لا على التنابز والتشتت،وما جعل الناس مختلفين إلا باختلافهم في تصور الحق في شخوصهم ومذاهبهم وأحزابهم، فلنجعل الحق ضياءاً في سماءٍ واحدة تجمعنا، ولنسلك إليه كلٌ بطريقته دون إنكارٍ على مسالك الآخرين، فالأهم أن تصل للحق حتى لو اختلفت الوسيلة أو حتى بعض الدوافع، أما أن نجعل الحق في أنفسنا وآرائنا فهذا ما سيقودنا إلى التبلّد والنفاق وسوء الأخلاق والإسلام برئٌ من هذا كله...
التعليقات (0)