بلير و "رحلة" الضياع
حين يُعيي الخطاب الشعبي التوصيف الدقيق لسلوك مثير للدهشة من حيث التحكم في الانفعالات ولجم الغضب،فهو،غالبا،ما يجد في مضمون "دم انجليز" ما يفي بالغرض...والحقيقة أني وجدت في "توني بلير" ما يُدلل على أن "برودة دمه الانجليزي" متأصلة في دهاليز أصوله ومتمكنة من دهائه الفطري،مما ساعده إلى حد كبير على التمادي في إبراز قدرات خارقة في التمويه والتضليل ولعب دور "النبي المضطهد" الذي لم يُقدّره الناس بما هو جدير به-كما يتوهم-وتجنّوا على إلهامه بما لا يستحق حين مالوا إلى تصنيفه في خانة فعل الثعالب والأبالسة لا الرسل المبشرين المنقذين والملائكة الطاهرين...
من ذات هذه القناعة شدني في كتابه "رحلة" عنوانه المشبع بالدلالات:ف"رحلة" الرجل عقائدية ودعوية وسلطوية بإيحاءات لفظ "رحلة" ومضمونها ،وهي بذلك تسعى إلى أن تنضّد ل"توني" صورة "عظيم" يُوحى له،هو من سلالة الأنبياء حملة الرسالات الخالدة.
علينا أن نستحضر أنّ الرجل-فجر بروز نجمه-بشّر،بمعية قادة ومفكرين غربيين،بالنظرية الثالثة أعني ما سماه ب"الطريق الثالثة" التي تُروّج لأطروحات عقائدية لا تخلو من روعة التصور-كما نظّر لها عالم الاجتماع "انتوني غيدنز"- لو لم يخدعها فقر سلوك أبرز دعاتها"بلير"...
كان العالم يومها بحاجة إلى فكر غربي جديد يُسوَّق على عجل في ظل انهيار الشيوعية وأفول بريق الفكر الماركسي من جهة وجشع الرأسمالية المتوحشة فجاءت فكرة بناء إستراتيجية ديمقراطية اشتراكية تُحاول التوفيق بين الشيوعية كإيديولوجيا وبين الرأسمالية المتتظللة بمفهوم لا يزال غامضا للعولمة احتركته.
قفز،يومها،صاحب"رحلة" ،بدأ مشوارهاوقتها،على الفكرة يستعطفها لتنحت له صورة الزعيم،وهو القادم بتجربة سياسية متواضعة.
كان محظوظا لأنه أطلّ والشعب البريطاني قرف من عمر حكم المحافظين المديد(18 سنة،تاتشر ثم ميجور) وتطلّع إلى التغيير وكان بلير في الموعد مبشرا،كحامل رسالة،بعقيدة سياسية جديدة بدت مجسمة للتغيير المنشود في أفق واعد لعاصمة الضباب والغرب عموما.
استطاع بريق فكرة "الطريق الثالثة" أن يستهوي ويشدّ الاهتمام وأن يستفيد منه حزب العمال البريطاني الذي أصبح يُشار إليه "بحزب العمال الجدد" وسطع،بين يوم وليلة،نجم القيادة التبشيرية بجنة حياة الدنيا،ممثلة في شخص هذا الميكيافيلي الجديد "توني بلير".
غير واضح،بما فيه الكفاية،أن رئيس الوزراء العمالي الجديد اعتنق نظرية المرشد/العالم "انتوني غيدنز" صادقا أم منافقا،لكنّ الثابت أن الأحداث التي تلاحقت زمن حكمه (احتلال أفغانستان،أحداث 11 سبتمبر 2001،احتلال العراق...) أكدت،بما لا يدع مجالا للشك،أنّ الرجل وضع كلّ بيضه في سلة "بوش الابن" المحافظ،واستظلّ به هروبا من ذاته الخاوية،فلم يبق من نظرية طريقه الثالثة إلا رصيد هزيل زاده هزالا انخراطه اللامشروط في غزوات أميركا التي لم تتحدد نتائجها إلى اليوم،رغم كل الدمار الذي أحدثته والفوضى التي نشرتها في العالم والضحايا الذين سقطوا وما يزالون والذين يتحسّر "بلير" من بينهم عن الجنود البريطانيين الذين لقوا حتفهم بقوله:"لقد مات هؤلاء الناس وإني كنت الرجل الذي اتخذ القرار الذي أدّى إلى مصرعهم ومع ذلك فإني مازلت على قيد الحياة."
والحقيقة أن العبرة من الحديث عن "مبعوث رباعي الوساطة الدولية في الشرق الأوسط" ليس اهتماما بما حبره في مذكراته من كلام الدفاع عن النفس لمتّهم متلبّس بجريمته،إنما لفت الانتباه إلى "أنبياء الغرب الجدد" الذين يعتقدون العصمة من الخطإ ويُصرّون على أنهم حملة رسالة تحديث وسلام حتى وهم ينشرون الرعب والدمار ويُفرّخون الحقد والإرهاب،ويشدّدون على أنهم على حق وضحاياهم على باطل...
ولئن يغنم "بلير" بما لا يغنم به غيره من حق التجوال،بتفويض رسمي،في الشرق الأوسط الذي ألهب في أجزاء منه نيران شيطان إلهامه،وهو ينعم بثورة طائلة تفرّغ لجمع قسطها الأوفر بفضل ما يُسديه من "نصائح" للمغفّلين،لئن كان هذا حاله،وهو يروي رحلته التي لم تكتمل،فإنّ الدرس البليغ الجدير بشدّ الانتباه،ليس الإقبال الكبير على كتاب مذكراته(ذلك شأن الفضائح الكبرى)،إنما الاستقبال الذي خُصّ في دبلن عاصمة ايرلندا الشمالية (بكل رمزيتها في مساره السياسي) حيث رُشق...بالبيض والأحذية،وهذا الأخير لم يعد تقليدا عربيا إنما تعولم،والحذاء هو الحذاء بإيذائه ورمزيته.
إن بلير يروي في مذكراته رحلة ضياع مدّع للنبوّة ليس له من أتباع حتى ذاته،وهو يعلن من خلالها رحلة وداعه غير المأسوف عليه...
التعليقات (0)