بلا معايير موضوعية!
في بداية شهر تشرين اول(اكتوبر)من كل عام،تمنح جوائز نوبل الستة لفروع العلم الرئيسية والادب والاقتصاد والسلام في العالم منذ مايزيد عن القرن من الزمان،وهي الجائزة الاشهر في العالم وتمتاز بقيمتها المعنوية مع القيمة المادية الكبيرة المصاحبة لها.
هذه الجائزة تخضع كغيرها من الجوائز الى معايير رئيسية تكون محل اجماع الكثيرين ومنها الهدف الرئيسي بلا شك وهو خدمة الانسانية في شتى فروع العلم والمعرفة وان تكون شاملة ونابعة من ضمير حي،ولا يشترط فيها جنسية او لون وتكون محايدة في الاختيار والذي يرتكز على اسس صارمة ومتوارثة في التمييز بين ماهو انساني ومفيد لصالح البشرية وبين ماهو اقليمي ضيق قد يكون اثره ضعيفا او معدوما وبالتالي تنتفي صفة الانتفاع الخيري الذي هو اساس الاختيار.
والجوائز الاخرى والتي تصدر من مختلف الدول،هي ايضا تسير على هذا النهج المرسوم لها نظريا!ولكن هل يكون التطبيق مطابق للتنظير؟!...هذا ما سوف نجيب عليه هنا في هذا المكان المختصر بغية اشباع الموضوع من بعض جوانبه لكونه كبير ومن الصعب الاحاطة الكاملة بدون دراسات شاملة...
في الحقيقة جائزة نوبل كبقية الجوائز الاخرى ومهما قيل عن حياديتها ومصداقيتها ،فهي تخضع لارادة البشر وميولهم الشخصية،ومهما حاول هذا الجمع من البشر ان يحافظ على حياديته،فهو واهم بالطبع! لان الانسان بطبيعته غير معصوم من الخطأ، وبالتالي سوف تنعكس تلك التقلبات والميول بصيغة او بأخرى على الاختيار السنوي للجوائز!...وعليه لا يستغرب الجميع من ان تلك الجائزة الشهيرة قد انحرفت عن مسارها مرات عديدة خلال تاريخها الطويل وبنفس الوقت ايضا بقيت امينة في الاختيار السليم لاشخاص آخرون هم بالفعل خدموا الانسانية بأبداعاتهم العلمية والادبية التي لاتعرف للحدود قيودا ولا للشكل او الجنسية مانعا!..
يبدأ الخطأ الاكبر عند الترشيحات السنوية،وهي احيانا ترتكز على ابداعات تكون منشورة باللغات الحية وخاصة الانكليزية وان تكون الشهرة مصاحبة لها وبالتالي فأن هذا التقييم هو خاطئ تماما لكون الكثير من الابداعات هي منحصرة ضمن نطاق اللغات المحلية والاقليمية والتي هي خارج نطاق ارادة الباحث او الاديب من خلال ضعف الامكانيات المتاحة له والتي تمنعه من نشرها باللغات الحية حتى تصل الى اكبر عدد من سكان المعمورة،وهذا يجعلنا امام معضلة كبيرة جدا تتمثل في كون الكثير من نتاجات اصحاب الابداعات الفكرية والعلمية ودعاة السلام في العالم وخاصة في العالم الثالث والذي ينتمي اليه عالمنا العربي هي في لغة واحدة ينطق بها صاحبها المبدع والذي هو لضيق الحال لايستطيع ان ينشرها في بلده فكيف به ان ينشره في بلاد الغرب الذي يتزعم التقدم العلمي والادبي منذ قرون خلت ويمتلك حق اصدار تلك الجائزة!بل حتى يعجز في نشرها بلغة عالمية تجمع بين مختلف اطياف البشر كاللغة الانكليزية،اذن يعجز المبدعون عن نشر الترجمات وهذا يحرمهم من الوصول الى الشهرة العالمية التي يستحقونها بصورة لا تقبل الشك مطلقا وحرمان البشرية من خدماتهم الجليلة... بينما في المقابل فأن الكثير من الذين ينشرون نتاجاتهم الابداعية بلغاتهم الاصلية الرئيسية المعتمدة في الغرب وخاصة الانكليزية يكونوا محظوظين في الوصول الى لجان التمحيص والغربلة والاختيار في مؤسسة جائزة نوبل! وهو ما يجعل المقارنة احيانا ظالمة بين المبدعين المغمورين والذين قد يتفوق العديد منهم على الذين تم اختيارهم على نفس الاسس المعمول بها سابقا ولكن منشورة بلغاتهم المعتمدة،والشرط الاخير يتحقق بسهولة ايضا من خلال وسائل الاعلام الحديثة والتي تدعم من تراه مبدعا شرط ان لا يتعارض مع سياستها في النشر بينما في الاعلام العربي فالصورة مقلوبة! فالاعلام مسيس وطائفي وعنصري الى درجة عجيبة وهو يركز على تلميع صور حكامه البشعة اما ان يدعم الابداع والمبدعين فذلك يأتي في الدرجة الثانية من الاهتمام هذا بالاضافة الى ان الدعم الحكومي للبحث العلمي والادبي هو ضئيل ولايقارن بتاتا بالدعم الحكومي في الغرب وبالتالي فأن مسألة ان يبرز مبدعي العالم العربي وتقديمهم الى العالم الخارجي هي بحكم المستحيل ولذلك نرى الكثيرين يبرزون بجهودهم الذاتية وعليه فأنه يحتاجون الى صبر طويل وعمر اطول!...نعم ان عدم النشر باللغات الحية من المشكلات الرئيسية في العالم العربي والذي يحتاج الى مراكز عديدة للترجمة والتي تحتاج الى تمويل حكومي كبير، هي من المفقودات في الوقت الراهن! ماعدا تجارب ضعيفة للقطاع الخاص ...كذلك عدم انتشار وسائل الاعلام العربية خارج حدود العالم العربي وانحصارها ضمن القيود السياسية والدينية والعرقية وحتى الجنسية! في ظل غياب ارادة جمعية واحدة وتخطيط سليم للمستقبل هو الذي جعله اعلاما وضيعا يبرر ولا يبدع!...
في جوائز نوبل للطب والفيزياء والكيمياء والتي هي علمية صرفة، تكون نسبة الخطأ او التحيز اقل من غيرها في كون شهرة المخترع قد انتشرت وبالتالي يتم فحص نتائج اعمالهم وفق اسس علمية مشددة تخضع لرقابة صارمة لامجال للتحيز والمحاباة ومن يدري لعل هنالك الكثيرين من المهملين والمنسيين هم خارج الترشيح لتلك الجوائز الثلاث.
اما الجوائز الثلاث الاخرى وهي الاداب والسلام والاقتصاد فهي اكثر شهرة من سابقاتها وفي نفس الوقت اكثر خضوعا للاهواء حيث يتم بسهولة التلاعب بالشروط الموضوعة وبالتالي تتضمن نسبة اكبر من الخطأ يمكن مشاهدتها من خلال التجارب الماضية...
جوائز عام2009:
الضجة الاخيرة المصاحبة لاختيار الرئيس الامريكي اوباما لجائزة السلام واختيار الاديبة الالمانية،الرومانية الاصل هيرتا مولر،هي لها مايبررها بالفعل!...فأوباما هو بالفعل كما هو ظاهر لنا انه ساعي لتحقيق السلام في العالم رغم القيود المشددة والمفروضة عليه في النظام السياسي الامريكي مما يجعل حركته بطيئة ومحدودة وتكون نتائجها ضعيفة كذلك فأن وجوده في الحكم ليس طويلا ،فبضعة شهور ليست كافية نهائيا سواء لاثبات النية او للدعوة لنشر السلام والاخاء وتطبيق تلك الدعوات وحصاد النتائج يحتاج الى فترة طويلة بلا شك كما لاحظنا ذلك من خلال اختيار الكثير من المؤسسات الدولية والرؤساء والشخصيات التي بذلت جهودا جبارة خلال عقود طويلة من الزمن وليس بضعة شهور كما هو في حالة اوباما الذي اعترف بعدم استحقاقه الجائزة وتبرعه بها للاعمال الخيرية رغم انه قبل بالاختيار، والاقوى في الظن انها منحت له تشجيعا له على الاستمرار في جهوده المبذولة وليس على حجم ونتائج جهوده السابقة!،اما بالنسبة لجائزة الاداب والتي هي الاشهر فقد كان الاختيار ضعيف باعتراف الالمان انفسهم او البلد الاصلي وهو رومانيا!...فالكاتبة غير مشهورة وكتاباتها ليس بقوة كتابات وابداعات الاخرين والذي ينتظرون نوبل منذ عقود طويلة من الزمن!بل حتى هيئة الناشرين الامريكيين والتي تتابع الترشيحات والاختيار بلهفة لكونها بداية الانطلاقة لعملها من خلال طباعة وتسويق نتاجات الاديب،اعلنوا وبصراحة انهم يجهلونها تماما مما يجعل نطاق عملها في السابق محدودا في القارة الاوروبية ولذلك فأن الاديبة هي مغمورة قبل الفوز بالجائزة وابداعاتها ليست منذ مدة طويلة او قوية بالمقارنة مع المرشحين الاخرين الذين تم استبعادهم بطريقة مريبة او للمحاولة من الفرار من الاختيار بين عدد من المرشحين العرب واسرائيلي...
اذا يلعب العامل السياسي وعامل التحيز للثقافة الغربية ولغاتها الحية دورا رئيسيا في الاختيار وهذا يعطي للجائزة ثغرات كبيرة في المصداقية ينبغي التنبه لها وعدم عد الجائزة مقياسا حقيقيا لقيمة المبدع...
تجارب سابقة:
الكثير من الاختيارات السابقة كانت ضعيفة بلا شك بل وحتى خاطئة! فأختيار السادات وبيغن لجائزة السلام لعام 1978 هو امر مخزي بحق فالاول ديكتاتور بأمتياز والثاني ارهابي بأعتراف الجميع من خلال تاريخه الدموي!وهذا الاختيار لاقيمة له حتى لو كان القصد التشجيع على السلام في المنطقة،او الفائزون الثلاث بجائزة السلام في عام 1994 وهم عرفات ورابين وبيريز،والثلاثة ايضا غير مؤهلين لتلك الجائزة فكريا واخلاقيا من خلال النظر الى سيرتهم الحافلة بالدماء والفساد قبل وبعد الحصول على الجائزة! ... اما ضمن اسماء جائزة الاداب فيظهر لنا اسم وينستون شرشل! الذي اخذها دون ان يستحقها عام 1953 والذي عرف عنه كرجل دولة دون ان يكون اديبا بارزا،وبذلك نرى عددا كبيرا من المثقفين لايقتنعون بأسماء الفائزين بل ويرفض بعضهم استلامه الجائزة! لان قيمة الفائزين الادبية هي التي تحدد وبصورة كاملة قيمته الفعلية قبل الدخول في ساحة المنافسة مع الاخرين في جوائز تميل مع الاهواء!...
اما الذين يستحقون الجوائز في العالم العربي فهم كثيرون ولكن غالبيتهم لم تنشر لهم باللغات العالمية الا بصورة محدودة،فالشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي ترجمت معظم ابداعاته الى اللغات الحية ورغم ذلك لم يرشح لها ! ورشح طه حسين مرتين ولم يفز بها !كذلك حرم منها شعراء وادباء كثيرون من قبيل احمد شوقي والجواهري والسياب ونازك الملائكة ومحمود درويش والطيب صالح وعبد الرحمن منيف وغيرهم ومازال اخرون ينتظرونها منذ فترة طويلة مثل اودنيس ...وهذا ليس مختص بالعرب فقط بل بكثير من المبدعين في العالم بل وحتى في الغرب فمثلا الكاتب البريطاني الشهير كولن ويلسون رغم شهرته العالمية منذ مايزيد عن النصف قرن فهو لم يفز بها وكذلك الاديب غراهام غرين والايرلندي جيمس جويس والزعيم الوطني غاندي لم يفز بجائزة نوبل للسلام رغم انه من المستحقين لها! والاديب الروسي الشهير تولستوي الذي يفوق بقيمته الادبية معظم من حصل على جائزة الاداب لم يحصل عليها !! ...وفي النهاية حرم كثيرون منها وربح اخرون لايستحقونها وكل ذلك غير خاضع بتاتا لاي معايير موضوعية يمكن الاشارة اليها، فالتحيز للحضارة الغربية ومشاهيرها ظاهرة للعيان بصورة لاتقبل النقاش ويمكن رؤية ذلك في ضعف الحضور من قبل عباقرة ومبدعي العالم الثالث...اذن يفرض علينا التقييم الموضوعي لجائزة نوبل، ضرورة الابتعاد عن التهويل الزائد او الاحتقار المطلق!...
التعليقات (0)