مواضيع اليوم

بلاغة قصة الطفل (قراءة في قصص الأطفال بالمغرب لمحمد أنقار) بقلم الدكتور محمد مشبال

محمد أنقار

2010-02-17 22:05:18

0

بلاغة قصة الطفل

(قراءة في قصص الأطفال بالمغرب

لمحمد أنقار)(1)

محمد مشبال

1 ـ

إن قراءتي لهذا الكتاب ستعمد حتما إلى وضعه في سياق المؤلفات النقدية التي أصدرها محمد أنقار حتى الآن؛ وهذا يعني أن ثمة رؤية نقدية واحدة تتشكل في صيغ متباينة. فقارئ بناء الصورة في الرواية الاستعمارية وبلاغة النص المسرحي وصورة عطيل(2) هو نفسه قارئ قصص الأطفال بالمغرب، لا يختلف عنه سوى في طبيعة الموضوع، وكأنه يواجه سؤالا نقديا واحدا ينزع إلى الشمول النظري دون أن يتخلى عن التنويعات التي يفرضها تباين الأجناس الأدبية والحقول الفنية.

والواجب التنبيه على أن كتاب قصص الأطفال هو أول كتاب ينجزه الباحث في مسيرته العلمية، ومع ذلك فإن أصداء التصور النقدي الذي بلوره الباحث بعد ذلك فيما أسماه بـ"الصورة السردية" أو "بلاغة الأجناس السردية"، واضحة في هذا الكتاب لا يخطئها القارئ المدقق. ولأجل ذلك كانت غاية هذا المقال إبراز جذور هذا التصور في حقل ساد الاعتقاد بأنه يعني علماء التربية والنفس.

لقد انطلق محمد أنقار من مفهوم مجدد للبلاغة يقرأ صورة الأجنبي في الرواية الاستعمارية ومسرح شكسبير، يستند إلى سؤال نقدي مخصوص: هل راهن المبدع (الروائي والمسرحي) في تصويره للأجنبي (المغربي هنا) على الأصول الجمالية والإنسانية للإبداع الروائي والمسرحي، أم أنه راهن على مواقف عرقية وعنصرية واستعمارية. هل راهن على البناء الفني والبلاغة المحبوكة أم راهن على المعلومات والمواقف الجاهزة؟

ولم يكن الإشكال النقدي الذي صدر عنه في تحليل قصص الأطفال سوى أحد تنويعات ذلك السؤال الجمالي الأصيل الذي صدر عنه في تحليل الأعمال الأدبية المتباينة، وهو ما يمكن التعبير عنه بالصيغة الآتية:

هل راهن كاتب قصة الطفل على طبيعة هذا المتلقي الصغير وحاجاته النفسية؟ هل حشد إمكاناته اللغوية والبلاغية والفنية للاستجابة لروح الطفولة بما تقتضيه من نزوع إلى الدهشة والمغامرة والابتهاج؟ أم أنه رجح كفة القيم والتعليم والتثقيف؟ هل كان الرهان على بلاغة قصصية تتعامل مع الطفولة باعتبارها مرحلة مكتملة؟ أم كان الرهان على بلاغة تنظر إلى الطفولة باعتبارها مرحلة ناقصة ينبغي أن نتولاها بالرعاية والتقويم؟

إن مثل هذه الأسئلة تختزل في كنهها وجوب التفريق بين بلاغتين:

ـ بلاغة أدبية تراعي آفاق النوع والتلقي وخصوصية البيئة والثقافة.

ـ بلاغة "أخلاقية" تراعي الأفكار والمعلومات والمضامين ولا يعنيها من الأدب سوى كونه وثيقة تطلب لمعناها دون لفظها.

وبينما يسعى نقاد الأدب إلى إظهار قيمة البلاغة الأدبية في تكوين إنسانية الإنسان، يسعى مؤرخو الأفكار وعلماء الاجتماع والنفس إلى اعتماد الأعمال الأدبية وسائل لتزكية مقولاتهم ومفهوماتهم وتأويلاتهم، دون أن تحظى تلك البلاغة الأدبية بأية عناية تذكر لديهم.

فهل نقول مرة أخرى إن ناقد الأدب ما يزال يرزح تحت عقدة تفوق الحقول الفكرية الأخرى التي تزاحمه ميدانه الذي ظن لفترة أنه لا يجاريه فيه أحد؟

إن الكتاب الذي بين أيدينا يؤمن بأن الأدب ميدان للقيم الفنية قبل أن يكون ميدانا للقيم الخارجية؛ تربوية أو اجتماعية أو نفسية أو فكرية. وعلى الناقد الأدبي أن يخلص لهذه الحقيقة وخاصة في ميدان أدب الأطفال الذي تسيطر عليه الوظيفة الإمتاعية التي تشكل قوام أدبيته المتميزة.

2 ـ

على الرغم من أن الكتاب تضمن قسما هاما رصد فيه الباحث مسيرة قصة الطفل بالمغرب بين سنتي 1947 و1979، إلا أن هذا الجانب التأريخي الشاق(3) لم يثن من عزم الباحث لاقتحام المشكلات النظرية والإجرامية التي تثيرها قصص الأطفال؛ ولأجل ذلك خصص مباحث الباب الأول لإشكال التحديد: تحديد مصطلح الطفل، وقصة الطفل والأجناس القصصية التي تشتمل عليها وأبرزها (القصة القصيرة جدا. القصة القصيرة. القصة. الرواية. الصورة القصصية. المقالة القصصية. الحكاية الشعبية. الحكاية العجيبة. الحكاية الأسطورية. الخرافة. النادرة. النكتة. الأشرطة المصورة). وهو ما استثمره في مقاربة نماذج من قصة الطفل المغربية في الباب الثالث الذي حرص على أن يتنوع وفق تنوع السمات المهيمنة على تلك النماذج المنتقاة وقد تمثلت في: القيمة والمغامرة والخارق والتاريخ والشاعرية(4).

وقد كان تحليله لتلك السمات خاضعا لتصور منهجي يمكن استخلاصه من التعريف التقريبي الذي اقترحه لقصة الطفل. ونورده هنا كاملا على الرغم من طوله:

"إن قصة الطفل النثرية هي جنس أدبي نمطي يسرد أساسا للأطفال كي يقرأوه أو يقرأ لهم قصد التسلية والإمتاع، تراعى في تركيب عناصره وتحديد أجناسه وأنواعه الخصائص النوعية والذاتية لنموهم الجسمي والنفسي والعقلي والاجتماعي والخلقي واللغوي، ثم الخصائص الموضوعية الخارجية، وكذا المكونات العامة للجنس الأدبي وسمات النوع. وقد تشتمل قصة الطفل على مواقف تعليمية أو تهذيبية، أو تنجز في سبيل تحقيق غايات ومصالح قريبة. غير أن مثل هذه المواقف والغايات لا تدخل ضمن الاعتبار الحقيقي لهذا النمط التعبيري إلا إذا كانت نابعة من صميم البنية العامة للنصوص. ومادة هذه القصة قد تكون مبتكرة من شتى مظاهر الواقع والخيال، أو مستوحاة من أجناس أدبية أخرى، أو مقتبسة من التراث الشعبي الإنساني. وتتداخل في بناء القصة شبكة معقدة من المكونات أبرزها –على سبيل التبسيط- الحبكة والزمان والمكان والشخصيات والأحداث والفكرة والعقدة وحلها، إلى جانب الحوار والوصف والتوقيت والتشويق وتباين الأساليب ومستويات السرد. وكل هذه المكونات لا توظف، بالضرورة، مجتمعة في نص قصصي واحد أو بدرجة واحدة من الأهمية، إذ إن طبيعة المرحلة الطفولية المعنية بالخطاب هي التي تجعل مكونا أو مكونات تهيمن على عملية الحكي… إن قصة الطفل قد تبدو، من خلال وجهة نظر عجلى، غير مختلفة في تركيبتها وأشكالها عن قصة الراشد. إلا أن المقاربة المتأنية لمستوياتها البنائية العامة، والمعرفة الدقيقة لخصائص الطفولة يجعلان منها إبداعا متميزا بـ"أدبيته" الخاصة"(5).

يقدم لنا هذا التعريف الإطار النظري والمنهجي الذي اعتمده الباحث في تحليل نصوص قصص الأطفال. وهو يقوم على المرتكزات الآتية:

ـ اعتبار وظيفة قصة الطفل المتمثلة في الإمتاع والتسلية؛ حيث لا يعتد بالوظائف الأخرى إلا إذا كانت خاضعة لشروط العمل الفني ونابعة من صميم البناء الذي يقوم أساسا على إشباع نزوع الطفل إلى الاستماع.

ـ اعتبار المتلقي الصغير الذي يمتلك خصائص نوعية وذاتية تميزه في مراحل نموه؛ فالطفولة مراحل ينمو فيها الطفل مكتسبا خصائص جديدة وليست مرحلة واحدة ثابتة يمكن التواصل معها دون مراعاة الفروق الدقيقة الناجمة عن هذا التفاوت في نمو الطفل جسميا ونفسيا وعقليا واجتماعيا وخلقيا ولغويا. إن هذه المراحل تتدخل في اختيار عناصر تركيب القصة، ولأجل ذلك يستحسن أن يحدد الكاتب المرحلة التي يتوجه إليها بقصته، وإن كان الناقد المتمرس يستطيع تحديد تلك المرحلة في أثناء فحصه للمستويات البنائية للقصة.

ـ اعتبار المكونات العامة لجنس قصة الطفل وسمات أنواعها؛ ويعني ذلك أن الكاتب والناقد يتعاملان مع قصة الطفل بناء على وعي مضمر بخصوصية الجنس القصصي الطفولي وسمات الأنواع التي تتفرع منه.

3 ـ

تسمح لنا المرتكزات المذكورة بتطوير مناقشة أصول بلاغة قصة الطفل على نحو ما تجلت في نماذج التحليل المقدمة. ويبدو أن هذه الأصول ترتد إلى سؤال مركزي يتحكم في جميع كتابات محمد أنقار النقدية؛ وهو ما أشرت إليه في صدر هذا المقال عندما ميزت بين نمطين من التحليل:

أحدهما يعنيه في الأدب الجوانب الفكرية والسياسية والاجتماعية ولأجل ذلك فهو يعتبر القيمة الجمالية أمرا زائدا يمكن اختراقها دون أن يحدث ما يخل بكيان العمل الأدبي. وأصحاب هذا الاتجاه يساوون بين الأدب وأشكال التعبير الأخرى ويرون أن النص الأدبي يلتحم بالنصوص الثقافية الأخرى ولا يجوز أن ينفصل عنها في التعبير عن إشكالات العصر. ومن ثم لا ضير أن تخضع لخطة منهجية موحدة في التحليل مادامت الغاية فكرية في المقام الأول، وأن المفكر يمثل المرتبة التي يحلم بها أي مثقف. وربما كان الاشتغال بالأدب مرحلة أولية يعبر منها الناقد إلى الاهتمام بما هو أجل وأسمى، وقد يمثل ذلك بالنسبة إلى بعض الباحثين مستراحا يجلب البهجة إلى النفس ويعدها لمعاودة التفكير. في هذا النمط من التحليل ينفصل الشكل عن المضمون، وتتحول "الأدبية" إلى حلية أو زخرف.

ثانيهما يعتد ببلاغة العمل الأدبي ويرى أن وظيفة النقد استخلاص الرؤية الفنية بواسطة العناية الدقيقة بسمات هذه البلاغة ومكوناتها. في هذا النمط من التحليل يصبح البناء الفني للعمل منبعا للمتعة الجمالية ووسيلة لضبط الرؤى والدلالات الكلية؛ فهو ليس شكلا خارجيا أو وعاء تزيينيا يجوز فصله عن المضمون كما تفصل قشرة الجوز عن النواة. إن مثل هذا التصور التقليدي لا يزال يتحكم في كثير من المقاربات التي تنظر إلى الأدب من عل أو، في أحسن الأحوال، تتخذه حجة لتدعيم نتائجها في الحقول المعرفية المتباينة.

إن السؤال المركزي المفترض في هذه الدراسة، كما أومأت إليه سالفا، ينتمي إلى هذا النمط الأخير من التحليل؛ أي إنه سؤال بلاغي مرتبط بأصول العمل الأدبي وشروطه. والناقد الذي يصدر في تحليله لنصوص قصص الأطفال عن هذا الافتراض المنهجي لا شك سيواجه أسئلة من قبيل: هل استطاع الكاتب أن يبلغ للمتلقي مجموع القيم المتباينة بصيغة تخضع لأصول التوصيل الفني وشروطه؟ ألا تطغى القيمة"الأخلاقية" على القيمة الجمالية فيتحول الفن إلى مجرد خادم ووسيط للوصول إلى أغراض أسمى؟ كيف يفلح التحليل في استخلاص رؤية العمل الأدبي من نسيجه المخصوص؟ وكيف ينجح هذا العمل في الاستحواذ على المتلقي دون أن يهتك قانون التوازن ويكسر معيار الانسجام؟ وكيف ينجح الكاتب في بث الغاية الجمالية وفرضها وسط فيض عارم من الغايات التي تجتذب المنشغلين بثقافة الطفل والأدب جزء منها؟ أليس من مهمات الناقد الأدبي الذي يتصدى لأدب الطفل بالتحليل أن يوصل هذه الغاية الجمالية الإنسانية الرفيعة وأن يدافع عن ضرورتها في تكوين الطفل الإنسان قبل كل شيء؟

4 ـ

يصدر محمد أنقار في تحليله لقصص الأطفال، كما في تحليله للرواية والمسرح، عن مجموعة من الضوابط توجه القراءة وتقيد الحرية؛ فالناقد المؤمن بسلطة القراءة والتذوق ليس حرا طليقا في مواجهة النص، فهو لم يعد ذلك الناقد الذي يروي مغامرات روحه إزاء النص المقروء، كما كان يقول رواد المذهب الانطباعي في النقد، ولكنه أصبح ذلك الناقد الذي يلزم نفسه بقيود منهجية تحد من حريته في اختيار الخطط التحليلية وترقى بقراءته إلى مستوى المقاربة المضبوطة. وواضح أن المقصود بالضوابط ليس القواعد أو القوانين ولكنها معايير إن خلت من صرامة العلم ودقته فهي لا تخلو من صفة الرجحان وشبه الموضوعية.

1 ـ معيار النوع:

يعتبر مبدأ النوع مقولة تنظيمية للقراءة الذوقية لنص أدبي؛ فهو يوجه القارئ ويقود خطواته الاستكشافية. وعلى هذا النحو يغدو انتماء نص معين لتقاليد النوع وأصوله قيدا ضابطا للقراءة، كلما ازداد إدراك الناقد لنماذجه الأصيلة والمتحولة ازداد تحكما في بنية النص المدروس. وينبغي ألا يفهم من تشغيل هذا المعيار دعوة إلى قيد لا يجوز الإفلات منه؛ فمفهوم النوع يستوعب التحويلات التي يخضع لها على مستوى النصوص المبدعة، وليس مجموعة من القواعد المقررة والثابتة؛ أي ليس مفهوما متعاليا ولكنه جملة من الخصائص النصية المتحققة بواسطة التحولات التي تطرأ على الجنس الأدبي مما يجعله ضربا من القيد المنفتح والمرن(6).

إن تحليل الناقد لنصوص قصص الأطفال استرشد بمعيار البناء في الجنس القصصي والشروط التي تقتضيها الأنواع السردية المعتمدة في تلك النصوص. وهذا واضح بين في نماذجه التحليلية؛ يقول بصدد تحليله لنصي "حيرة اسماعيل" و"حسان بن النعمان" إنه سيعمد إلى رؤية "كيف عالجا بعض جوانب التاريخ المغربي من خلال جنسين قصصيين متباينين: الشريط المصور والرواية"(7). وينتهي إلى أن قصة "حسان بن النعمان" لمحمد الهيتمي، على الرغم من صلاحيتها لطفل المرحلة المتأخرة، فإنها لن تحقق له المتعة المرجوة. ويفسر ذلك بقوله "إن الخطاب التاريخي لم يصل بالعناية المطلوبة إلى القارئ وأن شروط الجنس الروائي حسبما حددناه.. لم تبرز بالصورة المتوخاة"(8). وقد قام تحليله لقصة "عمتي جيدة" لمحمد العمري في سياق سمات الحكاية العجيبة(9). وأما قصة "مغامرات ذكي" لعبد الرحيم الكتاني وعبد الحق الكتاني فتنتمي إلى جنس الحكاية الشعبية المرحة؛ فقد أخلصت لكثير من سماته رافضة الخضوع لقواعد "القصة". وقد لاحظ الباحث أن اعتماد الحكاية الشعبية في أدب الأطفال ينبغي أن يخضعها لشروطه، بما فيها الشرط البيئي(10). وينتمي نص "الأرنب السارق" لعبد الفتاح الأزرق إلى جنس الخرافة المختلطة الشخصيات(11). أما "مجموعة قصص بسمة للأطفال" لمحمد الصباغ فتنتمي إلى ما يسمى بالحكي الشاعري(12).

لقد شكل السياق القصصي باعتباره بناء له مكوناته وسماته معيارا استخدمه الناقد في تحليل النص وتقييمه؛ على هذا النحو نظر إلى السمات المهيمنة (القيمة – المغامرة – الخارق – التاريخ – الشاعرية) معتمدا القراءة السياقية لمختلف مكونات السرد القصصي(13). فهذه السمات لا تحوز قيمتها الأدبية إلا بمقدار ما تخضع لشروط البناء الفني للنص القصصي. فالنص لا يفلح في توصيل غاياته الخلقية والتاريخية إلا عندما يفلح في أن يكون ممتعا؛ ولا شك أن تحقيق الإمتاع يقتضي من الكاتب تسخير قدر غير قليل من الإمكانات الفنية التي تتكفل بخلق الاستجابة الجمالية لدى الطفل.

إن قصة "الصديق الوفي" للحاج مصطفى غزال التي أعدت نفسها لتقديم الخطاب الأخلاقي أضرت بتركيبها الفني؛ فهناك أكثر من سؤال يخطر ببال القارئ لا يتم الإجابة عنه، ومن ثم تفتقد كثير من خطط القصة التعليل اللازم. ولكي ينسجم المتلقي الطفل مع الخطاب القيمي للقصة يقتضي أن يتبنى الكاتب تصورا سليما للبنية القصصية ذاتها؛ فالقيمة الخلقية في الفن ينبغي توصيلها ببناء مقنع حتى يحصل الإمتاع المطلوب(14).

وفي قصة "حسان بن النعمان" المشار إليها آنفا، يأخذ الإخبار مكان السرد، والتاريخ مكان القصة، ويتم الرهان على الحقيقة التاريخية بدل البعد الخيالي؛ فالكاتب يقدم الشخصية التاريخية بواسطة تراكم النعوت بدل حركة الفعل القصصي "إن الأمر يتعلق إذن بنعوت فضفاضة لا بأفعال قصصية تكوينية، فالشخصية تعدد فضائلها من دون أن يقدمها السرد في مواقف حيوية يتطلبها كل عمل قصصي فضلا عن قصص الأطفال"(15).

وفي تحليله لقصة "مغامرات ذكي" أشار في أكثر من موضع إلى أن الذكاء في هذه القصة غير معلل أسلوبيا أي إنه غير مقنع للقارئ كما أنها تقوم على المصادفة و"المصادفة في قصة الطفل، كما في القصة عموما، تعني اضطرابا فنيا مضاعفا؛ إذ هي ترابط غير راجح ولا ضروري أو منطقي بين موقفين، يفضي إلى نتيجة لفظية غير منطقية أيضا"(16).

2 ـ معيار التلقي:

إن القول بأن النص يفترض نوعا من التلقي ويسعى إلى بناء صورة لمتلقيه، يعني أن النص يحتوي في داخله على جملة من العلامات البنائية والدلالية التي تستدعي مشاركة خاصة في تركيب هذا النص، ومن ثم فهو يحدد نوع هذه المشاركة التي يتطلبها من القارئ.

ولعل هذا أن يمثل قيدا آخر يضبط حرية التحليل ومعيارا يستند إليه الناقد في تناول النص؛ وقد أوضح الباحث في مقال له بعنوان "الطفل المغربي وجمالية التلقي" أن الاهتمام النسبي بحضور الطفل المغربي على الصعيد الاجتماعي أو النفسي أو التعليمي لا يوازيه اهتمام على مستوى النقد الأدبي" لسبب بسيط يرجع إلى أن النقد عندنا يغيب, إما عن جهل أو عن قصد، فئة عريضة من جمهور المتلقين تكاد تكون نصف المجتمع المغربي. فالنقد الأدبي بالمغرب هو نقد الراشدين، والتركيبة الذهنية للناقد تستبعد الطفل، كما أن فحص أنواع التخييل من قبل المختصين تستشرف هموم الكبار والعقول الناضجة والإشكالات الإنسانية ذات السمت الرجولي، وتنسى هموم الصغار ومشاكلهم النفسية وتتقاعس عن الاهتمام بالحد الأدنى من حاجاتهم للقيم الجمالية"(17).

لقد حاول الباحث في تحليله لنصوص قصص الأطفال بالمغرب أن يصوغ نقدا أدبيا ينطلق من أفق الطفل بما في ذلك البيئة الثقافية والاجتماعية التي ينتمي إليها؛ فعلى الناقد ألا يقطع بينه وبين الطفولة وأن يستعين على ذلك بأحاسيسه وخياله وله في مؤلفات علم نفس الطفل والدراسات الميدانية المنجزة في مجال القراءة ما يعينه على اكتشاف آليات التلقي عند الطفل. إن التحليل في هذا المجال يقتضي "التقيد بقارئ محتمل واحد هو الطفل، نحاول أن نقرأ بعينه وذاكرته سياق النص ثم نحاول تنظيم ما يتم قراءته"(18).

لقد كانت قراءته للنصوص مخلصة لأفق انتظار القارئ الطفل بما في ذلك معطيات البيئة المحلية؛ لأجل ذلك ركز تحليله على العناصر التي تهوش على هذا القارئ الاستمتاع بالقصة(19). وهناك مجموعة من الوسائل الأسلوبية في قصص الأطفال بالمغرب لا تناسب بلاغة الأدب المكتوب للأطفال ولا تستجيب لتلقيهم. من ذلك ما أسماه بـ"الشاعرية" وهو أسلوب توسل به محمد الصباغ في بناء قصصه معتمدا الرمز والإيحاء والتجريد والصور الشاعرية الحالمة، وهو ما يتجاوز مدارك الطفل الذي يظل في حاجة إلى علامات يرتكز عليها لاستيعاب الرمز الشاعري. إن التجريد والشاعرية يقتضيان أن يكون للنص القصصي صلة بالواقع الحقيقي أو على الأقل أن يحتوي هذا النص على عناصر قابلة للإدراك من قبل الطفل(20). إن الباحث لا يعترض على استثمار سمة الشاعرية في قصة الطفل ولكنه يعترض على الطريقة التي تنجز بها في النصوص التي ينبغي لأصحابها أن يستثمروا بشكل جيد المكونات الواقعية وألا يضحوا بالحركة.

5 ـ

عندما نقول بلاغة قصة الطفل فإننا نقصد بذلك مجموع الأنواع الأدبية والإمكانات الأسلوبية التي وظفها كاتب القصة للتأثير الفني في المتلقي؛ فالبلاغة بهذا المعنى نمط من التوصيل الفني، وهي أيضا بمعنى آخر مظهر تنظيمي للتذوق والقراءة؛ أي إنها جهاز من الأدوات والمفاهيم والمقولات يتيح للقارئ فرصة تأمل النص وتشريحه.

ولعل هذا المدلول الرحب للبلاغة ألا يحصر إمكاناتها في المكونات البلاغية الصغرى التي حظيت بعناية البلاغيين الكلاسيكيين، بل يوسعها لتشمل مكونات لها صلة بهيكل النص وبنائه أو الأسلوب بمفهومه المرتبط بالجنس الأدبي (مستويات الشخصيات والسرد – الحبكة – الوصف – الحوار - الزمان – المكان – الحدث…).

لقد عمد الباحث في تحليله لقصة الطفل المغربية إلى استثمار البلاغة بمفهومها الواسع المشتمل على المكونات البلاغية الصغرى (المجاز والمقابلة والتكرار والتراكم…) والمكونات القصصية المشار إليها، بالإضافة إلى المكونات الخارجية التي تسهم في إنجاز القصة على مستوى الصفحة (حجم الخط والحروف وعلامات الترقيم والرسومات والفقرات والتعليقات والعناوين..). وهي عناصر ضرورية في تكوين بلاغة قصة الطفل بشكل خاص.

وإذا كان بعض الباحثين يرتاب في دراسة المكونات البلاغية الصغرى في الأعمال السردية(21) بحجة أنها لا تمثل خصوصية أسلوبها, فإن محمد أنقار لا يخفي أهمية أدوارها في بناء بلاغة النص القصصي، شرط أن يتم درسها في سياق كلي يتجاوز بها حدود الجملة التي أسرتها فيها البلاغة التقليدية التي خضعت زمنا طويلا لمعيار البيت الشعري أو الجملة النثرية التامة المعنى. فقد عالج أسلوب المقابلة على نحو مخالف للتوصيف البلاغي المأثور؛ حيث عمد إلى توسيعها خارج حدود الألفاظ والعبارات والدلالات الجزئية لتشمل مكونات العمل القصصي من مواقف وأحداث وشخصيات وأمكنة… وقد شكل النص بخصوصيته معينا استند إليه في نحت مصطلحه وضبط التنويعات الممكنة لهذا الأسلوب البلاغي؛ فقد رصد في قصة "مغامرات ذكي" جملة من المقابلات (مقابلة تضاد –مقابلة اختزال– المقابلة اللغوية –المقابلة بين الاختزال والتفصيل– مقابلة صيغة وصفية بأخرى) وتضطلع هذه المقابلات وغيرها بتحقيق مكون الإيقاع "الذي يملك قوة سحرية خفية في اجتذاب القارئ الطفل اجتذابا قلما يحدث خارج الأجناس القصصية ذات البنية الشعبية أو الخرافية أو العجيبة"(22).

وفي قصة "الصديق الوفي" رصد أنواعا من التكرار تتعلق بالحرف والفعل والوصف والشخصية؛ يقول عن هذا الأسلوب: "التكرار في قصة الطفل ذو حدين: فإذا كان زائدا عن البناء الأساس تحول إلى حشو، أي إلى تراكم يهوش على مخيلة القارئ الطفل مفوتا عليه جزءا من لذة الاستمتاع. أما إذا كان تكرارا نابعا من بناء النص ذاته، كما في بعض الحكايات العجيبة فإنه يصبح في مستوى النسق المطلوب"(23).

ومما له صلة بالتكرار ما أسماه بأسلوب التراكم، الذي اعتبر وجوده في قصص الأطفال المغربية سلبيا؛ ومن مظاهره في قصة حسان بن النعمان: "… اعتماد التعليق الذي يثيره الاستطراد من دون أن يقتضيه الحدث… (و) اعتماد السؤال لا لتطوير الحدث أو التشويق، بل لتحقيق غاية الاستطراد ذاته… من ناحية ثالثة ينتج التراكم بسبب توظيف الاستطراد لغاية تبريرية تعتمد لتعليل ظاهرة أو موقف تاريخي… كما نتج التراكم عن الدعاء الإضافي الذي لا يبرر الفعل القصصي أو يعمل على تطوره… كما نتج عن توجيه النصيحة المضافة… وفي حالات أخرى نتج التراكم عن تضخيم رد فعل المتلقي لبيت شعري… أو بآيات قرآنية… وباختصار فإن مظاهر التراكم… من الكثرة والتنوع لدرجة قد تجعل المحلل يحتاج إلى مصطلحات أخرى ليستطيع حصر تلك المظاهر وتسميتها"(24).

واضح أن تقييم الناقد لهذه الأساليب وغيرها يعتمد المرتكزات الجمالية التي أشرنا إليها أنفا؛ وتتمثل في سياق الجنس الأدبي وسياق النص وسياق التلقي. وهو ما يعني أن البلاغة المقصودة هنا ليست بلاغة الانزياح التي تقيس شعرية اللغة بدرجة الخرق المتحقق بين طرفين أو حدين. إن البلاغة التي يخوض فيها هذا الكتاب(25) تستمد "حدودها" من التركيب الجمالي لقصة الطفل والأنواع السردية التي تستلهمها، ومن أفق التلقي الذي يستحضر فيه عالم الطفولة والبيئة الثقافية والاجتماعية المحلية. إنها بلاغة تستمد خصوصيتها الجمالية من صلاتها بالإنسان والحياةn

 

هوامش

() عبد السلام بنعبد العالي، في الترجمة، سلسلة شراع، العدد 40.

() هذا عنوان لكتاب للأستاذ عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال، الطبعة 1، 1996.

(1) منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان،سلسلة رسائل وأطاريح جامعية، الطبعة الأولى، 1988.

(2) محمد أنقار، بناء الصورة في الرواية الاستعمارية: صورة المغرب في الرواية الإسبانية مكتبة الإدريسي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1994، تطوان.

محمد أنقار، بلاغة النص المسرحي، مطبعة الحداد يوسف إخوان-تطوان، الطبعة الأولى، 1996.

محمد أنقار، صورة عطيل، منشورات نادي الكتاب، كلية الآداب بتطوان، الطبعة الأولى، 1999.

(3) تضمن البحث بالإضافة إلى الباب الأول المعنون بـ"الطفل وقصته" بابا ثانيا خصصه لـ"وضعية الطفل المغربي ومسيرة قصته" حيث قام الباحث بمراجعة الصحافة المغربية منذ مطلع القرن للوقوف على بدايات الاهتمام بأدب الطفل في المغرب. وقد غطى البحث ما بين سنتي (1949-1979).

(4) عنوان الباب الثالث "أنواع الخطاب في قصص الأطفال بالمغرب" وقد تضمن الأنواع الآتية: خطاب القيمة وخطاب المغامرة والخطاب الخارق والخطاب التاريخي والخطاب الشاعري.

(5) قصص الأطفال بالمغرب (56-57).

(6) بلاغة النص المسرحي، مرجع مذكور (9-29).

(7) قصص الأطفال بالمغرب (256).

(8) نفسه (284).

(9) نفسه (224).

(10) نفسه (208).

(11) نفسه (169).

(12) نفسه (278).

(13) نفسه (169).

(14) نفسه (159-160 و167-168).

(15) نفسه (274).

(16) نفسه (161).

(17) منشور ضمن أعمال ندوة الأسرة والطفل في المجتمع المغربي المعاصر، منشورات جمعية موظفي كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، عكاظ، ص41.

(18) قصص الأطفال بالمغرب (209).

(19) نفسه (195-200-203-209-226-241-243).

(20) نفسه (291).

(21) حميد لحمداني، أسلوبية الرواية: مدخل نظري، منشورات دراسات سال، 1989.

(22) قصص الأطفال بالمغرب (193).

(23) نفسه (166).

(24) نفسه (278-280).

(25) تجب الإشارة إلى أن الباحث لم يستخدم لفظ البلاغة في هذا الكتاب ولم يحدد استراتيجية بحثه في بلاغة قصة الطفل؛ لكن القراءة الدقيقة له تكشف عن انسجام منهجه العام مع الأدوات النقدية التي وظفها في كتاباته اللاحقة وهي "المكونات" و"السمات" و"الصور" و"النوع" والتي تمثل الحدود الدنيا للبلاغة، على نحو ما يستشرفها في الأجناس النثرية.

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !