اعتدنا على سماع الكثير من الشيخ يوسف القرضاوي..واعتدنا ظهوره المتكرر كلاحقة ضرورية للاحداث..وألفنا جهده الاعلامي في تفسير ما يصدر عن الخطاب السياسي للحكم القطري, ومحاولاته-الاقرب الى حذق ومهارة الحواة-في شرعنة التناقض المربك ما بين خلفية وتوجهات الحكم السلفية وارتباطاته المتعشقة بالغرب,والاكثر هو حبه المرضي للظهور ,وهوايته -في اوقات الفراغ- للتنظير والترويج للتنظيم الدولي للاخوان المسلمين..
وهذا الاعتياد وتلك الالفة قد تكون مبررا كافيا لازدراد-مع بعض الصعوبة بالبلع-محاولاته لتصدر المشهد الخطابي الثوري قبيل او بعد ان تلقي الحراكات الشعبية عصاها وان يتقافز بتهجداته الباكية بين صفوف الثوار المرضي عنهم خليجيا او ان يرسل الشهب الحارقة شواظا على من لا يتحصلون على ذلك الرضا..ولكننا لا نستطيع الا ان نرى ان فضيلة الشيخ قد استبق الامور كثيرا هذه المرة عندما اشار الى خطبته المرتقبة في دمشق على انها الخاتمة الطبيعية للانتفاضة الشعبية السورية والاعلان الرسمي عن اكمال الثورة واتمام الحراك وارتضاء الاخوان للسوريين دينا..
اشارات كثيرة وردت في كلام الشيخ يوسف القرضاوي عن وحدة الشعب السوري وعن ضرورة تكاتفه وتآزره في وجه النظام ..والاكثر كانت العبارات الودية تجاه الاقليات والعلويين وضرورة احتضان من ينشق منهم عن النظام ..ولكن كل هذا لا يخفي ان كلمات الشيخ قد تكون جهرا عالي الصوت باعلان الاستيلاء التام على الجهد السياسي للحراك الثوري السوري من قبل التحالف المؤقت ما بين الاخوان والسلفيين وحسم مسألة تغييب التيارات العلمانية والليبرالية وحصرها في زاوية اللازمة البروتوكولية المصاحبة للصورة الفضائية المنتحلة للمعارضة السياسية الفاعلة..
سمعنا الكثير من الشيخ القرضاوي مما لا يعتد به ولا يلقى له بالا..وتقاطرعلى رؤوسنا العديد من تناقضاته بين الدعوة لحرق الشوارع والعباد في العراق والجهاد ضد العراقيين الذين وضعوا أيديهم في أيدي الكفرة الأميركان،والدعاء من جانب آخر بطيور ابابيل من حلف الناتو مددا للمجاهدين وعونا للمسلمين..بين كلامه عن فساد حكم الاسر العربية في مصر وليبيا وتونس ومدحه لـ"حماس" الاسر الخليجية تجاه الثورات العربية..ورغم ان هذا الارباك قد يكون مسؤولا عن كثرة علامات الاستفهام حول الدور الحقيقي الذي يقوم به القرضاوي على الساحة العربية ومدى جدية التصريحات والتنظيرات والفتاوى التي يلقيها بين الفينة والأخرى..ولكن الوقائع على الارض تجعلنا نأخذ كلامه على محمل الجد هذه المرة..
ليس من الحكمة ان نظن ان الشيخ ينطق عن الهوى عندما يقول"لكل زمان دولة ورجال.. والليبراليون والعلمانيون أخذوا زمانهم وهذا هو زماننا وزمان الإسلاميين" ويجب التوقف قليلا لفهم ماهية الزمن المنتظر ان يحل على المنطقة..فان حديثه المعاد -حد الضجر-عن دولة مدنية بمرجعية اسلامية لا يعدو ان يكون الا شكلا من اشكال الرماد الذي اعتاد الاسلام السياسي ذره في عيون المجتمع وليس الا تزويرا روتينيا لمفاهيم الديمقراطية والتعددية والتفافا على اشتراطات الدولة المدنية وتسخيرها لمتبنيات الخطاب الاسلاموي المغلق..
يكثر الشيخ القرضاوي من الحديث عن الوحدة والانفتاح والتعددية ولكنه لا يقنع احدا.وحديثه المكرور عن "كلنا اليوم سوريون"يصطدم بفتواه بأن:"لا تشهدوا لعلماني، ولا اللاديني، أو لمن لا يقبل بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً".وهي ترجمة حرفية لان "لا تنتخبوا الا الاخوان..او السلفيين ان اضطررتم" ومثل هذه التصريحات تؤكد ثبات الاسلام السياسي على المنهج القديم في التقية السياسية ومداهنة القوة وان اختلفت الاساليب وتعددت الوسائل ، وتغيرت المعطيات.وان كانوا يجيدون زخرف القول ما يبتغون به تشتيت العقول والاذهان فان الوقائع العديدة على الارض كافية لكي يستعيد المجتمع رشده وتتوضح امامه الصورة عن الجهد المؤسسي الهائل الدأب والثبات والمريب الارتباطات لتكوين هلال –او حلقة محكمة على الادق-من قوى الاسلام السياسي يحيط بالمجتمعات الثائرة ويجردها من عوامل قوتها ويضبط خطواتها على ايقاع التفاهمات السياسية ما بين الغرب والاخوان ولكن برضا الله ورسوله هذه المرة..
يخطئ الشيخ ومن والاه الظن بان الامور قد استقامت للاسلام السياسي وان دولة الاخوان قد دالت اخيرا..وان المشكل الان في تعيين اي الطرفين سيقود الخلافة الراشدة السادسة ومن سيكون عليه القيام بدور الكفار..فانها مرحلة يجب ان تمر بها المجتمعات الاسلامية لكي تجرد بكائيات القرون من ورقتها الاخيرة..ولكي ترى الشيخ الجليل سريع العبرات وهو يدوسها بموكبه الاحتفالي المهيب الذي يتحاشى المرور في الشوارع التي تذكره بالعوام الرعاع الذين اوصلوه للحكم..هي مرحلة لكي يتلمس الناس حقيقة الشعارات البراقة عن الوسطية والاسلام المعتدل ودولة الحق والايمان.. هي مرحلة ضرورية لكي يعلم الناس ان الفتنة التي كان يحذر منها فضيلة الشيخ كانت خيوطها تنسج تحت عباءته..هي مرحلة اكثر من ضرورية لمعرفة الاجابة عن التساؤلات المبهمة عن شكل وطبيعة المرحلة التي ستعقب فرض الحجاب واطلاق اللحى في عموم دار الاسلام..
لا جدال في القدرات اللغوية والبلاغية لفضيلة الشيخ القرضاوي..ولا تمكنه اللافت من تعويم الشعارات وخلطها وتدويرها في خدمة الجهات الراعية وخطابها الايديولوجي الزائف..غير أنّ الخطابية وحدها لا تكفي لتمرير المنهج الاقصائي الافنائي الذي يبشر وينظر له الاسلام السياسي والذي يجد في الحضور الاعلامي لفضيلته وسيلة اكثر من ملائمة لتسويق نسخة اسلامية لجهود قوى الثورة المضادة في تغييب وتزييف الارادة الشعبية وطرح هوية مخاتلة مراوغة للمجتمعات المنادية بالتغيير..
التعليقات (0)