بقلم/ المحامي سركوت كمال علي
بكر صدقي (1886 - 12 أغسطس 1937، الموصل) عسكري وسياسي عراقي من أبوين كرديين ، ولد في قرية عسكر القريبة من مدينة كركوك ، درس في الأستانة في المدرسة الحربية (الكلية العسكرية لاحقاً) وتخرج فيها ضابطاٌ في الجيش العثماني ، وشارك في الحرب العالمية ألأولى في أخر سنينها. وبعد نهاية الحرب واندحار الدولة العثمانية، انضم إلى الجيش العراقي الذي أسسه المحتلون في 6 / 1 / 1920 برتبة ملازم أول.
لقد كان بكر صدقي يتصف بشخصية كارزمية وكان لديه طموحات سياسية كبيرة فكان يحاول التشبه بمصطفى كمال اتاتورك.
تدرج في رتبته العسكرية حتى وصل إلى رتبة فريق ركن في عهد الملك غازي. واشتهر بالصرامة والتنفيذ الحرفي للأوامر العسكرية عندما قاد الجيش العراقي ضد انتفاضة الآثوريين (مجزرة سميل ضد اللاجئين الآشوريين من سوريا) عام 1933 في عهد وزارة رشيد عالي الكيلاني، ثم ضد انتفاضة العشائر في منطقة الفرات الأوسط عام 1935 ، وتوطدت العلاقة بينه وبين وزير الداخلية آنذاك التركماني حكمت سليمان .
في أواخر عهد وزارة ياسين الهاشمي الثانية، اشتد الصراع بين الوزارة والمعارضة التي عملت جاهدة لإسقاط الوزارة التي سعت للتمسك بالحكم بكل الوسائل والسبل. وفي تلك الأيام شغل الفريق بكر صدقي منصب قائد الفرقة الثانية. وكان يتردد باستمرار على دار قطب المعارضة المعروف حكمت سليمان، وكان الحديث يدور حول استئثار وزارة الهاشمي بالحكم، رغم افتقارها للتأييد الشعبي. وحينئذ، اختمرت لدى بكر صدقي فكرة اسقاط وزارة الهاشمي بالقوة عن طريق القيام بانقلاب عسكري.
تحرك بكر صدقي واستطاع اقناع رجال ذوي نفوذ داخل المؤسسة العسكرية في مقدمتهم الفريق عبد اللطيف نوري قائد الفرقة الأولى والعقيد محمد علي جواد قائد القوة الجوية - الطيار الخاص لجلالة الملك للانضمام إلى فكرته وتأييده بالإطاحة بحكومة الهاشمي ، سارت الأمور بتكتم شديد مما تعذر على الاستخبارات العسكرية كشف الحركة قبل وقوعها. وجاء موعد مناورات الخريف للجيش عام 1936 ووجد بكر صدقي ضالته المنشودة بهذه المناسبة فقد كانت المناورات تقتضي اجرائها في منطقة جبل حمرين في محافظة ديالى بين خانقين وبغداد وكان من المفترض أن تكون الفرقة الأولى بقيادة الفريق عبد اللطيف نوري في موقع الدفاع عن بغداد فيما تكون الفرقة الثانية بقيادة بكر صدقي في موقع الهجوم.
في 29 تموز 1936، سافر رئيس أركان الجيش الفريق ياسين الهاشمي شقيق رئيس الوزراء بمهمة إلى خارج العراق وأناب عنه الفريق عبد اللطيف نوري مما سهل للانقلابيين الأمور كثيراً. جرى الاتفاق على نقل الفرقة الثانية من قرتبة إلى قرغان ليلة 25/26 تشرين الأول، على أن يجري تسلل وحدات الفرقة ليلة 28 / 29 إلى بعقوبة مركز محافظة ديالى المتاخمة لبغداد والتي تبعد عنها حوالي 50 كم . في ليلة الخميس 26 اكتوبر 1936، زحفت قوات الجيش إلى بعقوبة ووصلتها صباح اليوم التالي، حيث قامت بقطع خطوط الاتصال ببغداد واستولت على دوائر البريد والتلفون وعدد من المواقع الاستراتيجية في المدينة، ثم واصلت زحفها نحو بغداد في الساعة السابعة والنصف بقيادة الفريق بكر صدقي. وفي الساعة الثامنة والنصف من صباح ذلك اليوم ظهرت في سماء بغداد طائرات حربية يقودها العقيد محمد علي جواد وألقت ألوف المنشورات التي احتوت على البيان الأول للانقلاب!
في الوقت الذي كانت الطائرات تلقي بيان الأنقلاب، استقل حكمت سليمان سيارته وتوجه نحو القصر الملكي قصر الزهور) حاملاٌ المذكرة التي وقعها الفريقان بكر صدقي وعبد الطيف نوري والتي حددا فيها مهلة أمدها 3 ساعات للملك غازي لاقالة وزارة ياسين باشا الهاشمي حيث سلمها إلى رئيس الديوان الملكي رستم حيدر .
وما ان بلغ نبأ الانقلاب ياسين الهاشمي حتى بادر الى الاتصال ببكر صدقي الذي ابلغه خلال المحادثة التلفونية ان الملك غازي على علم بالانقلاب،فما كان من الهاشمي الا ان ينهي المكالمة التلفونية ويتوجه فوراً الى قصر الزهور لمقابلة الملك.
وبالمقابل طلب الملك وعلى وجه السرعة استدعاء ياسين الهاشمي ووزير الدفاع جعفر العسكري ووزير الخارجية نوري السعيد وكذلك السفير البريطاني لغرض تدارس الوضع.
واثناء اللقاء تحدث السفير البريطاني مخاطباً الملك غازي وسائلاً اياه ان كان على علم مسبق بالانقلاب الا ان الملك نفى ذلك وتحدث ياسين الهاشمي موجهاً سؤاله الى الملك فيما اذا كان لايزال يثق بالوزارة،فأن الوزارة مستعدة لمواجهة الانقلابين والا فأنه سيقدم استقالة حكومته.
اما نوري السعيد فقد طلب من السفير البريطاني التدخل لقمع الانقلاب الا ان السفير ابلغه ان بريطانيا لاتود التدخل في الشؤون الداخلية.
ويبدو ومن خلال التهاون الواضح للملك انه كان على علم بأمر الانقلاب وان لم يكن يعرف تفاصيله،حيث ان الملك لم يكن مرتاحاً لياسين الهاشمي وخصوصاً في تدخلاته الغير مبررة في شؤون الملك.
مضت الساعات الثلاث التي حددها الانقلابيون مهلة لاستقالة الوزارة،ولما لم يتم ذلك بادرت الطائرات في الساعة الحادية عشرة والنصف من صباح ذلك اليوم بالقاء القنابل على مقر مجلس الوزراء ،ووزارة الداخلية،ودائرة البريد القريبة من بيت ياسين الهاشمي،ودار البرلمان وقد قتل جراء القصف سبعة اشخاص واصيب العشرات.
حاول وزير الدفاع الفريق الاول جعفر العسكري وقف زحف قوات الانقلابيون نحو بغداد، فاتصل ببكر صدقي وأبلغه أنه آت لمقابلته وأنه يحمل رسالة من الملك غازي. كانت فرصة بكر صدقي قد حلت للتخلص من جعفر العسكري صهر الرجل القوي ووزير الخارجية آنذاك والمقرب من الإنگليز الفريق أول نوري السعيد باشا، فرتب الأمر مع الضباط المقربون منه لاغتياله والتخلص منه. ما أن وصل الفريق الاول جعفر العسكري إلى المنطقة المحددة، حتى جردوه من سلاحه ومرافقيه، بعدها تقدم عددا من الضباط وهم كل من جمال جميل وجمال فتاح ومحمد جواد امين ولازا برودس حيث قاموا بأطلاق النار على العسكري فأردوه في الحال. ، ولما وصل الخبر إلى نوري السعيد باشا سارع اللجوء إلى السفارة البريطانية التي قامت بدورها بتهريبه إلى الخارج.
استمرت قوات الانقلابيين بالزحف نحو بغداد، حيث وصلت أبوابها الساعة الرابعة بعد الظهر. لذلك اضطر الملك غازي من توجيه خطاب التكليف إلى حكمت سليمان في 29 تشرين الأول بتشكيل وزارة جديدة، وعند الساعة الخامسة والنصف كانت القوات قد دخلت شوارع بغداد من دون أن تلقى أية مقاومة .
أتم الانقلابيون تشكيل وزارتهم وصدرت الأرادة الملكية بتشكيلها في الساعة السادسة مساءٌ وجاءت على النحو التالي:
حكمت سليمان رئيس الوزراء ووزيراً للداخلية .
جعفر أبو التمن للمالية .
صالح جبر للعدلية .
ناجي الأصيل للخارجية .
كامل الجادرجي للاقتصاد والمواصلات .
يوسف ابراهيم للمعارف.
أما بكر صدقي فقد تولى منصب رئيس أركان الجيش بدلاٌ من الهاشمي الذي أحيل على التقاعد. أما ياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني ونوري السعيد فقد غادرا العراق على الفور بمساعدة السفارة البريطانية خوفاٌ من بطش بكر صدقي. أراد قائد الانقلاب بكر صدقي أن يرسل من يقوم بتصفية نوري السعيد والكيلاني والهاشمي إلا أن حكمت سليمان رفض الفكرة.
ولقد نجح الانقلاب واصدرت جماعة الاهالي بيانا موقعا بأسم "لجنة الاصلاح التقدمي الوطني " اشاد بالانقلاب وقادته ودعا الى القيام بالمظاهرات المؤيدة والمطالبة بالامور التالية :
1.ازالة آثار الظلم .
2.تقوية الجيش.
3.العفو عن المسجونين السياسيين .
4.فتح النقابات والصحف التي اغلقتها الحكومات السابقة .
5. تخفيف ويلات الفقر وحل مشكلة البطالة وتشجيع الصناعة .
6.توحيد الحركات الشعبية العربية لتأمين التقدم المطلوب .
7. التساوي في الحقوق بين العراقيين والتمسك بوحدتهم ونشر الثقافة والوقاية الصحية .
في الوقت نفسه نظمت العناصر الوطنية المظاهرات المؤيدة للحكومة وكان على رأس تلك المظاهرات السادة محمد صالح القزاز وهو من الشيوعيون المعروفين والشاعر الكبير المرحوم الجواهري وغيرهم من الوطنيون ، وتقدمت المظاهرات بمطالب للحكومة تدعوا فيها إلى اصدار العفو العام عن المسجونين السياسيين وأطلاق حرية الصحافة وحرية التنظيم الحزبي والنقابي وأزالة آثار الماضي والعمل على رفع مستوى معيشة الشعب وضمان حقوقه وحرياته وتقوية الجيش ليكون حارساٌ أميناً لأستقلال البلاد، ولم تقتصر المظاهرات على العاصمة فقط ، بل امتدت إلى سائر المدن الأخرى .
سيطر بكر صدقي على مقدرات البلاد وكان هو الحاكم الفعلي الأول والأخير، لقد رتب قوائم المرشحين لمجلس النواب ومعظمهم من المؤيدين له، وقد جرت الانتخابات في 20 شباط 1937 وجاءت النتيجة كما خطط لها سلفاً وأصبح يمتلك ظهيراً قانونياً لبقائه سيد الموقف من دون منازع.
قرر بكر صدقي السفر إلى تركيا لحضور المناورات العسكرية التركية المقرر القيام بها في 18 آب 1937. وقد اتخذ الإنگليز قرارهم بتصفيته وهو في طريقه إلى تركيا. غادر العراق في 9 آب بالطائرة إلى الموصل، وكان برفقته العقيد محمد علي جواد، قائد القوة الجوية، وكان من المقرر أن يغادر بالقطار ولكنه أحس بوجود مؤامرة ضده لذلك قرر السفر بالطائرة. وصل إلى الموصل ونزل في دار الضيافة وقد وجد المتآمرون فرصتهم في التخلص منه، حينما انتقل إلى حديقة مطعم المطار وبينما كان جالساٌ مع العقيد محمد علي جواد والمقدم الطيار موسى علي يتجاذبان أطراف الحديث ، تقدم نائب العريف عبد الله التلعفري نحوهم ليقدم لهم المرطبات وكان يخبئ مسدساٌ تحت ملابسه، ولما وصل قرب بكر صدقي أخرج مسدسه وصوبه نحو رأسه وأطلق النار عليه فقتل في الحال، ثم أقدم على اطلاق النار على قائد القوة الجوية وقتله هو الآخر. تم القاء القبض على القاتل وأشبعوه ضرباٌ وفي التحقيق المبدئي اعترف بأن الذي جاء به لتنفيذ الجريمة هو الضابط محمود هندي الذي اختفى بعد الحادث.
وقيل أن العقيد فهمي سعيد كان لولب الحركة وأن الضابط محمود خورشيد هو الدماغ المفكر لتلك العملية، وسارت شائعة تقول أن ضابط الاستخبارات البريطاني في الموصل هو الذي دبر وان العملية بالاساس كان مخطط لها من قبل بعض الضباط الكبار والعديد من رجال السياسة العراقية،ولم يكن الانكليز بعيدين عن موضوع الاغتيال بالتأكيد،فقد كان قلقهم يزداد يوماً بعد يوم من توجهات بكر صدقي وجاء زواجه من احدى الغانيات الالمانيات ليزيد من قلق الانكليز،
في صباح يوم الخميس 12 آب نقل جثمان بكر صدقي ورفيقه إلى بغداد حيث شيع إلى مثواه الأخير تشيعاٌ رسمياً، سار في مقدمته الوزراء وكبار الضباط والأعيان والنواب والسفراء.
واضطر حكمت سليمان الى الاستقالة في 11 اب 1937 وبذلك سقطت حكومة الانقلاب.
التعليقات (0)