عندما تقف هناك على أطلال التاريخ متأملا يشدك ذلك الحنين و الوجع وأنت تنظر بعينيك الدامعتين على حجم الحدث، ولعل جلل الحدث وحده كاف لأن يقض مضجع الذاكرة ويغرقها في أتون محرق، تأتي عليها جحيمه حتى تتلاشى، ثم تبعث ناصعة وحدها لتبدو الصفحة أمامنا بيضاء من غير سؤ عليها رسم واحد خطه القدر بابل .. .. هنا يتجسد الرابط الروحي..والشعور العميق بحقيقة الذكرى لذلك المنحى المعرفي حيث يجعلك لا ترى التاريخ وكأنه مجرد حجارة، وإنما تكتشف إن ما يتحرك أمامك من تاريخ هو محمول رمز أعمق من ماهية تتشكل منها ذاتك ، بل ستذهب أكثر من ذلك مصغيا لموسيقى دواخلك، ينبعث منها الحزن الدفين ، وتنهل الدموع سفاحا حتى تمتزج بتراب ارض النهرين لتصنع مجد كل ذلك التاريخ ، انه نفس اللحن الذي لم تزل حتى اللحظة تغنيه بابل وهي تعزفه انغاما روحية تنساب مع رحيق الزمن (أوروك) بقيثارة أمها الخالدة أكد وجدتها سومر ، هذا النشيد الذي لايمكن استشفاف روحه مالم تتحرر من كل قيم الشعور بأنك هنا لا بل أنت هناك ، هذا التحرر وحده هو الذي يجعلك تنصت ُ خاشعا ً متبتلا ممتلئا بالنشوة والألم حيال ما تسمعه من نشيج مووايل بابل الحزينة. التي راحت تتغور في الذات العراقية حتى هذا اليوم الى أن طغت على هذه الذات مسحة الحزن الاثير الذي ما ان يستثار حتى ينفجر فيعم عويله السماء والارض ويتصاعد حتى تلويه الرياح في مفاتن التاريخ ليغذه من تراجيعه المقامية في أنس وبهاء منقطع النظير والشبية فمن اين ينسكب هذا الرجع المدوي في نواحي الوجود ؟
سأصنع من جديلة الريح همسة تستقر حيث اغفاءة الزمن على مسافة منك.. واقتسمني معك للحظة تعبر نحو ظل الآبدين .. اكتب على جبينك بأنك عطر لا يتنفس سوى آخر شهقاته دمي.وأنت تتسللين من أطراف الغيم ورائحة المطر الى حيث تتوالد الزهور على شفتي نهريك وتسقوان من حلمك لتنشران في أفق الزمان عطرك فيسكر التاريخ وتنتشي الأيام وتثمل الثواني .
واعرف بأنك قارورة العطر الذي حملتها يد القدر ذات مرة واراقتها على تراب العراق فنبتت هناك زهرة فواحة خبأت في جوفها سر تلاقح الأزهار وهذيان العطر وأثير الندى وزهو الصباح . وتمايل العذارى الغاديات على حفافي نسائمك يحملن جرار الفرح على مبسمهن اللطيف .
على جبين الكون كنت نجمة الصبح التي عبدها الانسان .. وكنت وطنه السماوي تلدين اناسك فراشات كالجنون ليصبح الوطن عالم من حلم بهي .
نظرة من اطراف عينيك يا جميلتي . همسة من رعشة اناملك.. تعلمنا كيف يمكن لنا أن نقبض على الحقيقة التي غابت في الذاكرة واكلتها السنين على حين غفلة .
هل اخبرتك بأني اعشق الرقص تحت حبات مطرك الهاطلة لتبللني بنثاره شهوة .. لتصنع مني ثورة كبرياء صاخبة تمارس جنونها في عري مطرك الذي ياتي على حين بلا موعد لغرامك . دفء الروح أنت كما أنت صخبها وعريها وفضيحتها ، حملت تفاصيلنا في رحمك مذ كنا ذرات في عالم الغيب والشهود ، حتى ولدتنا كائنات نمشي على الأرض علمتنا الكبرياء ونحن لا نزال نطفا هناك في ليل زهوك .. أنت اكبر وأجل من وطن لو يعقل العراقيون الذين تنكروا لك .. لكننا نحن أبناءك الغرباء نبكيك دوما لأننا نحس بتلك الوحشة التي تأتي على ذواتنا التي أرهقها البعد عنك .. نحن أبناءك الروحيين ..
أقرأي ملامح وجهي ورعشة اناملي .. وحرقة انفاسي المتلاحقة كلهيب عاصفة.. وأقرأي فنجان قهوتي الصباحي .. لتجدني قائما اتلو صلاتك التي نسوها وارتل تعويذة مجدك الزاهي ..
أنت نصفي الممتليء بشهد الروح..و قبلة ذاتي الشهيدة على مذبحك .. أنت من صنع مني أشتهاء الورد. وتلاقح النحل من الزهر..و كأس نبيذ الروح .. قبلة اعشوشبت على شفتي قبل تاريخ ميلادي.. أقمارا طوقتني بأسرارها.. وصنعت مني جدول عشق يصب في بحرك الزاخر الفواح المليء بتهاويل القداسة والنبل وتلاحق الغيم في المساء واشتهاء الصباح ورحلة العطر في نهريك الذين يغذواهما نهديك بسجف الخيال ورحيق الخمر و جنون السماء في ليلة عاصفة.. أستثناء اوجده الله أنت في لحظة صفو.. وبراءة حب.. وأشتهاء العرق النخيلي ..و امتزاج الفصول لتصبحي سفرا من أسفار الكون.. حفرت ذاتك على معابد مردوخ في كل زاوية هناك ..
مردوخ الذي صار مزاجا من عطر تطلقه ياسمينة في دماء الروح .. لتطلق أشتهاء السماء للأرض من علمك سيدتي كيف تصمتين .. وأنت من أنفاس رابية في السماء هويت على الأرض ذات لحظة شوق من سموها، كغيمة حملت لحن الوجود في قلبك المشبوب فرحت تبعثينه في المفاصل الحية من تاريخ الانسانية جمعاء ...
ما أجمل لحنك الزماني يا بابل، لحن لا يسمعه الا الذين سقوا من مواردك العذبة لحنا ما سمعته الدنيا ولو سمعته لما تسلل الموت الى أوصالها ودب الفناء في أرجاءها وجلجل صوت العدم في كيانها … فأنت حديث البدايات والنهايات وسيدة الوقت الجميل .
بابل ٌ اروي حكايك الى من أنجبتهم كيما يروها ..حتى لا يظنوا أنك متوارية وراء كواليس الزمن .
أروي حكاياتك لبغداد التي اغتالوها في لحظة جنون أروي قصة الصمود والتحدي في عصر الانكسار والتراجع. والذل والهزيمة والعار والشنار .!
بابل ٌ أمي العظيمة اروي ذكريات صباك وعنفوان أنوثتك وثورتك الصاخبة المتمردة . أروي حكايات بنوكي ألذين غذوتهم من لبن العظمة وأطعمتميهم خبز المحبة .
أمي ألا أخبرك أن .. بغداد خانتها الصحراء وافتضت بكارتها مجدها وتاريخها
بغداد التي سمعتُْ شجي صوتك الآتي على صهوة الريح وصهوة السنين يوم ذبحتي غدرا ، فراحت تردده بألم تعالى صراخها حتى سمعته النجوم فأجهشت بالبكاء .. بغداد تردد نحيبك الآن تقول بابل .. بابل متوارية خلف كواليس رسومها و ومدفونة تحت اقدام برجها و جنائنها التي لم تزل تقص لي أسطورة الماضي الذي لا منتهى لسحره ولا حدود لإعجازه و لا نظير لعبق الورد في روض القه وبهائه الساحر الذي يغشي كل من أبحر في سطور روح التاريخ مصغيا لنشيد الخلود الآسر وهو يروي حكاية الحب والعطاء ، حكاية الصبر والوفاء ، قصة الإنسان وهو يتناغم مع الطبيعة تناغما لا يكاد يفرق بين الطين والماء والحياة وبين آلهتها السعيدة المعذبة .
فإليك يا أمي تحيتي…وعليك يا أم التاريخ والقدر أيتها الشادية ً ..الباسمة ً ..، إليك تحيتي وإجلالي لنور الشمس وهي تنبعث من رحم ملتقى دجلة والفرات ، نعم دجلة والفرات ..دمعتيك يا بابل وهما تشفعان ارض أوروك وآشور وأكد هادلة على وجنتيك السمراوتين .
تحية من نزيف الجرح ..يا أم عشتار..و مريم…والزهراء فاطمة ورابعة العدوية وغزالة الخارجية ، سلامي اليك كل فجر ٍ متجدد ٍ بنور الشمس التي تمشط ً جدائلك السوداء ، تحية لشمسك الذاهلة في آفاق النوى الراقصة على صفحات الماء ، تحية الفرحة والدموع التي لا تكففها مسرات الدنيا ، تحية الرقاب التي ترزح تحت نطع الحجاج وهولاكو وبوش وكل الغازين وكل الغادرين الذين احتضنتيهم فخانوا واكرمتيهم فعقرو ..واويتهم من شمس ” الصحراء” فأبوا إلا أن يسلبوك وينهبوك ويأسروك ، فكنت كأم عامر…التي اخطات عندما ظنت إنها ستغلب طبائع الصحراء…!
ومن يجعل المعروف في غير أهله يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر
إنها بعل داد ، غربت شمسها بعد غروبك ثلاث مرات …!
أجمل أيامك التي كنت تحتفلين بها ، وكان أهل العراق يومها بين محتفل بفجر جديد…وخائف من مستقبل مجهول ، وبغداد تذكرتك يومها وبكت على فقدك واشتاقت للقاءك بعدما حل بها ما حل بك قبل آلاف السنين..، لم تزل بغداد يا ” اُماه ” جرحا نازفا في قلوبنا ..ولم تزل هي الأخرى يا سيدتي تفجر ابتسامتها وسط الدموع ، وتصفق فرحا رغم ما تعانيه من الم ، بغداد على العهد يا بابل لم تزل تهتف مع إن الأصفاد في أيديها ..والسوط في ظهرها ولم تزل تتغنى بذكراك منشدة..
هذي دماك ِ على فمي تتكلم ُ…ماذا يقول القلم ُ إن نطق الدم ُ؟
بغداد هي بابل أه لويعقلون أهلوك ويتعلموا من درس التاريخ
يوم أطلقت توراة موسى صيحتها :
سقطت ..سقطت..سقطت بابل…!
وا أسفي عليك يا ربتي..وملهمتي .. أمثلك يزول. من صفحات الزمان ويتوارى خلف أستار التاريخ .؟
اعذريني أماه إن لم أجد سوى هذه اللغة كي أحدثك بها…واغفري لي ذنوبي وولعي بدموعك ، فلن تصدقي كم تكوني جميلة حينما تترقرق من مآقيك الدموع السواجم ويسكن محياك البهاء …كلبوة ٍ..غاضبة.. جريحة الكبرياء !
اغفري لي مرتين عندما أبوح لك ..كم تكوني ساحرة وأنت تستعيضين عن الكلمات بطرف عينينك وبريق السنا في محياك، وعندما اذكرك كالحروف المشتاه على شفتي النسيان، لا اذكرك الا كلمحة خاطفة في مخيلة أثقلها الوجع وأنت تتغنين بهوى الغريزة السومرية المقدسة ، كم أنت فاتنة ورائعة حينما تهتزين راقصة ثملة بخمر تاريخك العتيق..يا شمس أيل الغاربة..
التعليقات (0)