مواضيع اليوم

بقايا إسماعيل ......

ليلى عامر

2010-09-24 21:37:29

0

بعد مشاورات و مفاوضات عسيرة نجحت في افتكاك قطرة أخيرة لكم ،رغم التّهديد و الوعيد إلا أنني أصرّيت إصرارا كبيرا على رأيي أن أمنح أولا للأخت ليلى عامر هدية صغيرة قبل الكبيرة عرفانا لما تقوم به من الخير، و ثانيا لإخواني القرّاء الذين كلّما قرأت تعليقاتهم الجميلة إلاّ و رغبت أن أمنح لهم كلّ الرّمانة ليرتاحوا و لكن صبرا جميلا .
لقد اخترتنا لكم هذه القطرة لسببين: أولا: ليس فيها من الحزن و الشّفقة كما في القطرتين السّابقتين.
ثانيا : فهي تسلّط الضّوء على ظاهرة التديّن المغشوش إن صحّ التعبير أي صرف الأمة و المجتمعات الإسلامية عن القضايا المصيرية و الجوهرية و إلهائها في سفاسف الأمور التي لا تسمن و لا تغني من جوع.
لذا أريد أن نناقش معا هذه الظّاهرة و السبل للتّصدي لها .
أخوكم المقرب من الجوهرة .



هذا ما أرسله لنا الأخ المقرّب من أ جيجيكة
و قد أسميت هذه المشاهد - بقايا إسماعيل –
أتمنّى أن أكون قد وفّقت في اختيار العنوان ....

 

 

قراءة ممتعة للجميع

 


أشعره الجوع و البرد بفقدان توازنه و لم ينتبه إلاّ و كلب صيد آت بالقرب منه ينبح نباحا مزعجا. فقام اسماعيل يطرده بعصا كانت ملقاة بالقرب من الكانون و هو يبكي ،لم ينصرف الكلب بل ازداد نباحه الذي جلب صاحبه يستطلع الأمر.
وضع الصّبي العصا و بقي ليستطلع أمر الزّائر من خلف الجسر. لم تتّضح له صورته في البداية لأنه قد غطىّ وجهه بلثام تجنّبا للبرد.
قام الزائر بإبعاد كلبه ثم أسند جرابه على الأرض. حدّق فيه إسماعيل من بعيد فاكتشف بأن الصّياد هو ناصر الذي تكفل به و وعده بعدم التخلي عنه؛ لكن الظروف جعلته يخالف وعده.كان إسماعيل أصغر من أن يفهم اللّغة التي تتحدّث بها الظّروف القاسية.
قام ناصر يتحسّس صدر العم الطيب فوجد قلبه متوقّفا عن الحياة. صرخ إسماعيل من الحزن صرخة داخلية كتمها عن ناصر. و بينما كان هذا الأخير يحاول أن يخلّص الجثة من الوحل انصرف إسماعيل بهدوء بعدما تأكد بأن ناصر قد نجح في إخراج الجثة من الطين، و قد لاحظ ناصر بأن المتشرد لم يكن لوحده بل ثمة طفل برفقته و هذا ما عرفه من زوج أحذية صغيرة و بعض الأغراض الخاصّة به. و طبعا لم يكن يتصور بأن تلك الأغراض تعود لإسماعيل.
وقف يتأمل تلك الأجواء قليلا فاطمأنّ إلى كون قراره في وضع إسماعيل في مركز الطفولة أفضل من أن يعيش حياة مثل تلك التي يعيشها المتشردون.

جلس بالقرب من الجثة ينتظر عودة الصبي لكن هذا الأخير أبطأ في المجيء، و ما كان عليه سوى أن يصبر إلى حين عودته. مكث بالقرب من باب الجسر يطل على الحقول عساه يرى الطفل، لكن لا شيء هنالك سوى بعض العصافير المستعجلة في طيرانها. شعر ناصر بالقلق و لم يشأ أن يترك جثة الميت وحدها و خاصة أنه لم يكن متأكدا من كون أي طفل بجوار الميت؛ فكل ما رآه هو أغراض تخص صبيا صغيرا. و هذا بالطبع لا يكفي للجزم بأن ثمة للمتشرد مرافق ما.
لفت انتباه الرجل قشور فاكهة الرمان فراح يقلبها و قد تركت لونها على الثلج. بحث ناصر من تحت الثلج و بالقرب من الكانون عساه يجد حبة واحدة من فاكهة الجنة، لكنه لم يظفر بشيء.
لقد عرف أخيرا بأن المتشرد ممن يعرف طقوس أكل فاكهة الرمان. تأمل فيه مليا فرأى العمامة التي تحيط برأسه تحمل آثار نزيف يشبه نزيف الرمانة. قلب العمامة بلطف و شم الرائحة المنبعثة من آثار النزيف فوجدها تشبه كثيرا الرائحة التي تصدر من الفاكهة المقدسة حين تنزف.
فجأة توقف ناصر عن تقليب لفائف العمامة لأنه تعرف أخيرا على المتشرد. لقد عرف بأنه العم الطيب المتشرد الذي كثيرا ما كان يحضر إلى المسجد و يلتزم الصمت و هو يتأمل فيما حوله، و هذه حجة كافية كي لا يعتقد ناصر بأن ذلك المتشرد هو من سرق الرمانة المقدسة من بيته. و كان عليه أن يجد تفسيرا للنزيف الذي في العمامة و بالفعل وجده.
أعاد ناصر أسباب النزيف إلى كون العم الطيب كان حاضرا يوم قتلت فرقة الرقص المولوي من طرف أتباع فأس الدين. و ناصر لم يتهم أحدا بسرقة الرمانة المقدسة إلا فأس و أتباعه، لكنه لم يواجههم بالتهمة مباشرة. و مع فقد كان متأكدا كل التأكد بأن الرمانة سقطت في يد فأس بائع الأحجار الكريمة.

راح يدق دقا خفيفا على مدخل الجسر و كذلك كان يفعل إسماعيل أمام مدخل المركز، إذ بدأ يدق على بابه و هو واثق كل الثقة من أنه سينال مراده لأن المركز لن يغلق في وجهه الباب في يوم مثلج كذلك. فحتى و إن أرادت إدارة المركز عقابه فستؤجل ذلك لحين آخر، و قد فعلت ذلك إكراما لعيونه الحزينة التي اغرورقت بالدموع المدرارة . و إكراما لعيون الثلج التي بدأت تذوب ببطء شديد.

ترك ناصر كلبه يحرس جثة العم الطيب و اتجه إلى المسجد لإحضار من سيساعده في عملية الدفن. وجد فأس الدين محاطا بالناس لأنه أوهمهم بأنه هو من أصبح يمتلك الفاكهة المقدسة. لقد أغراهم بالرمانة التي سرقها من بيت ناصر من دون أن ينتبه تاجر الأحجار الكريمة بأن تلك الرمانة مزيفة، فهو ببساطة لم يكن يعلم بأن ثمة رمانة صنعت لغرض التمويه و صرف الأنظار عن الرمانة الحقيقية. لقد زاد امتلاك فأس للرمانة من جلب الأتباع إليه و لكل واحد منهم حاجة إليه يطلبها و كانت الحاجة تتمثل في تفسير حلم رآه كل واحد منهم.

خلع ناصر حذاءه ثم دلف إلى الداخل و وقف خلف شمعدان رخامي أخضر و لم يكن أحد قد انتبه لوجوده. راح يطل على فأس المحاط بالجميع و هو يرتدي معطفا من أجود أنواع الكشمير جعلته يعتقد أن لا فرق بين ذلك اليوم المثلج و فصل الربيع. كانت حبات السبحة تتعاقب بين إبهام و سبابة يده اليمنى، و كأن الحبات تفلت من حبل المشنقة و كانت السيوف و السواطير ملقاة في إحدى زوايا المسجد. و أتباع فأس يمتصون خلاصة أعواد السواك الممزوجة بالأفيون المعالج.

ركز ناصر عينيه في وجه فأس الذي كان يردد من حين لآخر":
- خيرا رأيت و شرا نتوقع... !".
ففهم بأنه يقوم بتفسير أحلام الحاضرين. إذ سمع أحد الحضور يخبره بأنه أغفى في نومه و الله لا تأخذه سنة و لا نوم. رأى السّائل نفسه يلبس لباسا أبيض و يده اليمنى تشد على يد امرأة ذات جمال أخّاذ لها شعر و كأنه في نعومته من غزل دودة الحرير، و في طوله كضفائر قرة العين الأسطورية، واسعة العينين سوداوين حتى بانت له ظبية تغري الصياد ولا يتمكن منها. تزاحم على وجنتيها التورد و الليونة و لم يكن لليونة أن تفوز على التورد فتعايشا على وجه تلك الفاتنة التي تمشي و كأنها راكبة سحب شهباء.
سرح الحضور بأذهانهم و شخصوا أبصارهم في أعلى قبة المسجد و كأن الفاتنة معلقة في أعلاه، و ازدادوا تعلقا بها لما بادر فأس الرجل مفسرا له ما رأى:
- أبشر يا هذا فالمرأة الجميلة هي حور العين ستكون من نصيبك في الجنة. و يا لها من بشرى و نصيب تحسد عليه و الله لا ينعم إلا على العبد الصالح !.

قطب الجميع عيونهم فأنزلوها من أعلى قبة المسجد و في داخلهم مرارة كبيرة، و سبب المرارة أن حور العين لن تكون إلا للرجل الذي رآها في منامه. لقد تجمد الكل في أماكنهم؛ ليس من البرد طبعا بل من شدة الدهشة من موضوع الأحلام التي سمعوها و براعة فأس في تفسيرها. فبادره أحد منهم يعرض عليه منامه إذ رأى فيما يرى النائم أنه أمتلك محفظة كلما فتحها وجد فيها نقودا وافرة فيصرفها. و لما يعيد فتحها يجدها قد امتلأت من جديد و لكن ثمة من كان يراقبه و هو ملثم الوجه.
كان الرجل صاحب هذا المنام يرتدي لباسا لا يصلح لمقاومة البرد مما يدل على أنه لا يمتلك ما يصلح لاستقبال الشتاء ، و هو نحيف إلى درجة برزت فيها عظامه كمتصوف اعتزل ملذات الدنيا. لقد علت وجهه علامات الفقر و أخواتها. و لم يكن ذلك يخفى عن فأس الذي ضحك بطريقة لبقة ثم استقر بصره في السائل مرددا :
- سيرزقك الله من حيث لا تحتسب. ستصبح ثريا و لن تنقص ثروتك مهما صرفت منها. لكن الملثم الذي يراقبك معناه أن هنالك من يحسدك !.

لقد كانت الأحلام مختلفة في مواضيعها بسبب اختلاف أصحابها. لكنها متشابهة في مضمونها عندما نزلت بين أيدي فأس الذي قام بفحصها. و لكأنه طبيب لا خبرة له في الطب و لا دراية، فإذا أتاه مريض لم يتمكن من تحديد ماهية سقمه يلجأ إلى تبسيط المشكلة مبشرا إياه بالشفاء حتى و إن كان غير قابل لذلك. كان التفسير المغري دافعا لجعل الكثير يسردون ما رأوه و يطلبون لذلك تأويلا. و هذا ما قام به كهل كان يجلس في الأمام. قام بإلحاق آخر أطراف معطفه بأصابع رجليه محاولا تدثيرها. و ذلك بسبب جواربه الكثيرة الثقوب. أما معطفه فقد امتلأ بالخرق و كأنه مسروق من معبد يترك فيه كل واحد من الزوار قطعة من ثوبه. و لم تكن حال طاقيته بأحسن من حال المعطف. إذ فقدت وسطها الأعلى فبانت قشرة بيضة تحمل ثقبا كبيرا أفرغها من محتواها لص قام بامتصاص ما بداخلها.

تحمس الكهل لتقديم رؤياه كما فعل غيره فهو أيضا يحلم. و وضعه المزري لم يمنعه من ذلك. بل كان أكثر دافع للأحلام الجميلة. نكس رأسه ليسرد حلمه لفأس. كان الحلم مشاهد يراها في تلك اللحظة و هو يعرض حلمه:
- غفوت في نومي و الله خير اليقظين؛ فرأيت أني أرتدي حذاء مصنوعا من ذهب. و ورائي لصوص يتبعونني كي يسلبوني إياه لكنني دخلت قصرا به حراس أنقذوني فاحتفظت بحذائي الذهبي !.
لم يتمكن الكهل من رفع رأسه و لم يتمكن من النظر في وجه فأس. فعل ذلك ربما خوفا من أن يتهم زورا بالكذب. و فعلا كان ما يخشاه، فإذا بفأس يسأله كي يتأكد إذ ما كان حقا قد رأى ما أدلى به. طالبه بالقسم على ذلك ففعل الكهل من دون أن يرمقه بنظرة و لو عجلى و لما تأكد بأن الكهل لم يكذب بل انه رأى في منامه كل ما قاله. فشعر بالارتياح و أردف يقول:
- أبشرك بوظيفة مرموقة تقربك من الحاكم. و لكن احذر فثمة من سيحسدونك على هذا الخير !. احذر من عين الحساد العين حق... و كادت العين أن تسبق القدر " !.

شعر الكهل بفرحة عارمة تسربت إلى كل أجزاء جسده. و لم ينتبه فقام بزحزحة أطراف معطفه فبانت جواربه المثقوبة. لقد قهر الحلم الكهل فلم يعد يهمه أن ينتبه إلى حاله ما دام ثمة من سيحسده على حاله القادمة. عرض البؤساء أحلامهم و طلبوا تأويلها من فأس الذي كاد أن يدعي بأن الله قد وهبه قدرة تأويل الأحلام. لقد كانت أحلام المعدمين لا تمت بصلة إطلاقا بواقعهم المعاش. و بالطبع لا حرج في ذلك ما دامت أحلاما شاهدها من كان من بين الثلاثة الذين رفع عنهم القلم. و بقدر ما كانت أحلامهم لا علاقة لها بواقعهم كذلك كانت أحلام حسام الذي أصبح فجأة ثريا ثراء فاحشا، إذ كان الوحيد الذي يرتدي ساعة سويسرية الصنع باهظة الثمن. و هو صاحب جزمة مصنوعة من جلد النمر و لذلك كانت معزولة عن باقي أحذية المصلين، و قد فعل صاحبها ذلك ليس خوفا من أن تختلط بغيرها من النعال فيفقدها.
لن يفقدها لأنها مميزة جدا تدل على أن الأقدام التي ترتديها تنتسب إلى جسد يلبس بذلة من أجود الأنواع التي لا ترى إلا عند عارضي الأزياء. ارتدى معطفا من الكشمير الهندي لونه رمادي. و ضع على رقبته وشاحا أسود مصنوعا من القطن الذي ينصح الحكماء ذو الحساسية بارتدائه نظرا لكونه صحيا.

كان حسام جالسا مع الحضور فهو قد أصبح يمتلك زينتي الحياة الدنيا البنين و الأموال. بينما يمتلك الحضور زينة واحدة و هي الأولاد، و قد تحولت من زينة إلى قبح لكون الأطفال أصبحوا عالة على أبائهم لكثرة مطالبهم و انعدام مصادر سبل قضائها.
اختلف حسام واقعيا مع الحضور في كل شيء. لكنه يتشابه معهم في موضوع أحلامه. و لذلك وجد أنه لا حرج أن يسرد لفأس ما رأى. فحياته الرغيدة لم تمنعه من أن يحلم. نظر إلى فأس نظرة من أراد أن يدفع عن نفسه تهمة ما.

 

أخفى ساعته العظيمة تحت كم معطفه و مسح على وشاحه و معطفه كأنه أراد أن يتخلص من الشوائب العالقة عليه. و الحق أن جودة الكشمير لم تمنح الفرصة لأي شائبة كي تتعلق بها. فعل الرجل ذلك ربما لأنه أراد أن يظهر للحضور بأن معطفه من مادة رديئة كالتي يلبسها بعضهم. أخبر فأس بما رأى حين استسلم للنعاس و الله خير رقيبب :
- رأيت في منامي أني أرتدي لباسا باليا، و أمشي حافي القدمين و قد اشتد بي الجوع حتى كدت أهلك بسببه، لكن الله خير الرازقين وهبني نقودا وافرة على طول الطريق. التقطتها فأصبحت حالي ميسورة كما ترون. .. !.
ابتسم فأس و هو يربت على كتف حسام مما يدل على أنه يعرفه جيدا. و بعدها بادره بصوت الواثق مما يقول. لكن بنبرة من يغطي على شيء ما، لأنه كان ينتقي كلامه. فبان و كأن بداخله آلة تقوم بفرز الكلام اللائق و تحتجز غير اللائق لحين آخر :
- ليس ثمة شيء أجمل من أن ترى في منامك مستقبلك من دون أن تشم أبخرة الشعوذة . فهنيئا لك على هذا الفوز العظيم !.
شعر ناصر بتقزز من كل ما سمعه فهرول إلي فأس يجلس بين يديه. أخبره بأنه شاهد شيخا مسنا متشردا في صورة العم الطيب و قد مات تحت الجسر. و كان ثمة كلب صيد ينبح بالقرب منه لكنه لم يؤذ الميت الذي بدأ يغرق في الوحل.
هز فأس رأسه قليلا ثم اطرق ببصره في الأرض و كأنه يحاول استحضار الأرواح. ثم طفق ينظر إلى ناصر و فيه نوع من التردد؛ إذ لم يكن متحمسا لتفسير الحلم. لكنه رأى الإصرار في عيني السائل و الجمع يتطلع لمعرفة الجواب. ثم فسر الحلم على أساس أنه حلم مفزع حقا. و لكنه يحمل بشرى فالمتشرد المسن الذي مات تحت الجسر معناه أن دور العجزة ستختفي من المجتمع. أما الوحل فمعناه الحياة.أما كلب الصيد الذي لم ينهش الميت فمعناه أن كل المتشردين لا خوف عليهم.

طفا النور على وجه الحضور لأنهم استبشروا خيرا بهذه الرؤية. رؤية قام فأس بتفسيرها تفسيرا يبعث على الآمال. انطلقت زفرات توحي بالتخلص من الإرهاق النفسي الذي صاحب الجميع لدى سماعهم ناصر يروي رؤياه.
قام ناصر من دون أن يستأذن و اتجه إلى الباب و بعدها عاد إلى الحضور. إذ سمع الجميع يهمس مما يدل على أنهم لم يرتاحوا لتصرفه. عاد و هو يطلق قهقهات يعتقد سامعها بأن الرجل يشاهد مسرحية هزلية. بل لقد بدا له كل ما شاهده مهزلة حقيقية. ضغط فأس على فكيه حتى تطابق كليهما على الآخر، ثم رمق ناصر بنظرة من يحتقر شخصا لم يعجبه. هز الحضور رؤوسهم فتقدم و وقف في وسطهم ثم انحنى إلى صاحب حور العين يسخر منه:
- لقد بشرك فأس بحور العين و أنت محروم من المرأة العادية في الدنيا. أنت الذي وهن العظم منك و اشتعل رأسك شيبا و لم تتمكن من توفير تكاليف الزواج و رؤية وجه زوجة حقيقية في اليقظة، لكنك لم تتوان عن رؤية حور العين و وعيك غائب و القلم مرفوع عنك. !

طأطأ الرجل رأسه بعد أن شعر بحرج كبير و لما أحس بأن ناصر قد مس الجانب المعتم في حياته الواقعية، بينما انفجر الكل ضاحكا. استدار إلى صاحب الحلم الثاني فوجده يضحك على صاحب حور العين. فوضع هذا ليس بأقل حرج و لا بأحسن حال من حال صاحبه. إنه صاحب المحفظة التي تلد نقودا و يصرف بلا حساب و يجد المحفظة و قد امتلأت من جديد. لكنه في الواقع لا يمتلك و لو فلسا واحدا في جيبه بادره ناصر قائلا:
- و أنت الذي إذا امتلكت النقود في محفظتك فإنها تفرغ بشكل رهيب حتى و إن لم تصرف منها قط ، و ذلك من فرط غلاء المعيشة قد فسر فأس الدين حلمك كي يرفع الغبن عنك و يجعلك تحلم أيضا و أنت يقظ و أعواد السواك تفعل مفعولها السحري فيك!.

تعالت القهقهات من جديد كأن الجميع في مجلس مسامرة. و خاصة أن فأس قد شعر بالاهانة فسكت و لم يتمكن من مجرد التحديق في وجه ناصر الذي التفت إلى الكهل.طلب منه أن يتقدم إلى العتبة كي يريه حذاءه. فقام الكهل بذلك فرفع ناصر الحذاء و نادى على الحضور الذين التفتوا إليه و بيده و كلما رفع الحذاء إلى الأعلى تدفق منه الماء لأنه مثقوب.
تبين له أن صاحب الحذاء الذهبي المبشر بوظيفة مرموقة بجوار الحاكم، ذلك الذي حكم عليه بالشقاء حتى الموت فكيف يصدق بأنه سيتقرب إلى الحاكم ؟.
حملق فيه ناصر و بين الحسرة و التهكم قال له:
- أنت محكوم عليك... و المحكوم عليه لا يعرف الطريق إلى قصر الحكام. انك ترتدي جوارب خيوط العنكبوت في الواقع و فرحت بالحذاء الذهبي في المنام. إن أمرك غريب حقا، إنك مسكين لديك في الواقع حذاء كالدلو يمتلأ بالماء باستمرار و في أحلامك تمتلك حذاء الساندريلا !


ألقى ناصر حذاء الكهل أرضا. و حدق في وجه فأس الذي طأطأ رأسه؛ و لم ينبس بكلمة بعدما شاهد الحذاء يتقيأ الماء. مد أصابعه ماسكا إياه من ذقنه يرفع له رأسه كي يقابله وجها لوجه. تقدم إلى حسام يمسح بمعطفه مسحا خفيفا كي يشعره بأنه قد فهم قصده مما قام به آنفا. و مد يده إلى يده اليسرى يجذبها و تظاهر بأنه يستعلم مكان توقف عقارب الساعة، و كانت ساعة حسام ثمينة جدا لو بيعت في المزاد لكانت أغلى من ساعة لندن الشهيرة.
تعلقت أعين الحضور و انفتحت آذانهم لأنهم على علم بأن حال حسام ستجلب له سخرية أكثر من السخرية التي وقعت عليهم. فدنا منه فجأة و بنفس الوتيرة. لفت انتباه الحضور و كان لحسام الحظ الوافر من السخرية على أحلامه شأنه شأن غيره من الحالمين:
- أنت الذي وجد النقود في الطريق ... إنها الأحجار الكريمة التي تقايضها بالسيوف و السواطير. امتلكت ثروات طائلة بطرق غير شرعية ثم كتبت على كل شيء تملكه" هذا من فضل ربّي". أنت الذي سرق أموال الناس ثم ادّعى بأن ذلك من نعم الله عليه... أو وجده في الحلم. و لذا سيكتفي الكل بالقول " و عن نائم حتى يستيقظ " !.

من يعيش في حال مثل حال حسام لا يمكنه أن يستيقظ قط. و هذا يعني أن القلم سيبقى مرفوعا عنه طويلا. سترفع أقلام الملائكة و كذلك سيبقى قلم المحقق و قلم القاضي و قلم الشرطي. ستبقى الأقلام جميعها مرفوعة عنه.
استدار حسام إلى الحضور يقرأ لغة عيونهم فقاطعه ناصر حين توجّه إلى فأس يؤنبه بشكل لا يقل حدة عن نصيب الثري:
- إنها مصيبة عندما تتحول المساجد إلى مكان لتوزيع علب الأفيون!.بؤساء يحلمون بأنهم أثرياء !.و أثرياء يحلمون بأنهم وجدوا ثرواتهم على قارعة الطريق فمن سيحاسبهم عن عالم الأحلام الذي خلقه الأفيون و أنعشه الخطاب الديني المنحط ؟ .

تسمّر الكل في مكانه و قام ناصر بالسير في اتجاه الباب. و قد عرف بأن الكل سيلومه فيما بعد ، و كأنه قد أراد أن يمنع الناس من الأحلام. أو أنه أراد أن يشرع قوانين تحاسبهم على ما يفعلونه في أحلامهم. كان على دراية بما سيفكرون به فيما بعد و خاصة فأس الذي لن يتوان في الدفاع عن نفسه على الرغم من كونه لم يفعل ذلك وجها لوجه. و بالطبع لم يشأ ناصر أن تلصق به تهمة المستبد الذي أراد أن يفقأ عيون الناس و هي نائمة. فعاد إلى الجماعة قاصدا فأس يخبره بأن ما رآه لم يكن حلما بل رؤية رآها بصورة واقعية.
التفت إلى الجميع يدعوهم كي يدعوا الأحلام جانبا لأن ما يراه كل واحد منهم في منامه لا يمكن لغيره أن يراه. لكن في هذا الواقع يمكن أن يروا جميعا نفس الرؤى ، و ذلك إذا ما فتحوا أعينهم و رفعوا عنها غشاوة الوهم. سيروا الطفل المحروم من الحليب و المريض المحتاج للدواء. و سيروا الجياع الذين يبحثون عن رائحة الخبز الخارج لتوه من الفرن...تساءل ناصر يائسا :
- ما السبب الذي جعلكم تبحثون عن تفسيرات لرؤى ترونها و أعينكم مغمضة بينما لا يهمكم ما تراه أعينكم و هي مفتوحة على الرغم من أنها مشاهد لا تحتاج إلى تأويل لأنها جلية. إنها كارثة عندما يتعامل المرء مع الحلم كأنه حقيقة و يتعامل مع الواقع كأنه سراب !.

انصرف ناصر و ترك الجميع في حالة أقرب ما تكون الذعر في شدتها. انتعل حذاءه بعدما أفسد على الجميع مأدبة خيالية يصبح فيها المر أحلى مذاقا و المستحيل ممكنا بالتأويل طبعا. استغرب ناصر من أمر فأس الذي تحول إلى رئيس هيئة المحلفين يطلب من الناس القسم كلما عرضوا عليه أحلامهم؛ بالطبع هو لا يريد أن يكذبوا عليه.
غادر ناصر تاركا الحضور تائهين بين سحر الأحلام التي أغرتهم؛ و زاد طعم السواك من شدته و بين واقع أقل ما يقال عنه أنه واقع أليم. واقع يدفع صاحبه بشدة للبحث عن مخدر يسكنه و لا يهمه إذا كان علاجا نهائيا؛ بل يكتفي في لحظات بعلاج الأحلام إلى فأس المتحمس لتفسير الأحلام إلى درجة يدخل في تفاصيل دلالة رمزيتها. فكان أقرب إلى عراف يدعي فك طلاسم سحر معقد. و كان يوهم الناس بأنه يفك عقد الأحلام المشفرة كعالم رياضي حاذق في فك الشفرات.

استسلم الجميع لذلك و لم يكلف أحدهم التأمل في تأويلات فأس لأحدهم بأن ثمة حسادا سيحسدونه على نعمة ستحل عليه. أليس ذلك ما يقوله المشعوذ لقاصده فيوسوس له كالشيطان يوسوس للمرء عن حسد الجيران و غيرة الأصحاب و مطاردة عين الحسود؟. هكذا التقى فأس الدين في نقاط كثيرة مع المشعوذ و أكثر من ذلك كله فقد تفوق عليه. لأن العراف لا يدعي المعرفة بأمور الغيب بل يستعمل الشيطان كوسائط لذلك. أما فأس فهو لم يستعمل الجن طبعا لأنه هو الشيطان ذاته.

أصبح فأس يولي لأحلام الناس الأهمية البالغة من دون أن يسأل عن واقعهم. لم يرفع صوته ليخبر الحضور بأن صاحبهم الذي تقطع حذاؤه المطاطي فحلم بالحذاء الذهبي يجب أن يشتروا له حذاء يخلصه من عقدة الساندريلا .لكن فأس يستغل وضعهم المزري فيدفعهم إلى أحلام لن يستيقظوا منها قط ، فهو يقول لمن لا يملك شيئا بأن ثمة من يحسده و هو في الحقيقة في حال لا يحسد عليها. يجعل مهمة العيون تتمحور فقط في الحسد.حول فأس الإنسان بمثل أفكاره هذه إلى مجرد ثعبان يقذف السم القاتل. فهو لا يوجه الناس من اجل تغيير وضع البؤساء. لن يجعل العين تسبق قدر طفل يتألم من المرض؛ أو قدر رجل يقتل أبناءه بسبب الجوع.

لقد أراد ناصر أن يجعل من عيون الجميع تسبق القدر كما يسبق النسر بيضته المتدحرجة من أعلى الصخرة. أراد أن يبين لهم بأن عيونهم يمكنها أن تدمع ألما على حال الكثير من البؤساء فتبحث عن سبل تغيّر بها أحوالهم. تلك العيون التي تحسد يمكنها أيضا أن تسعد الكثير. لقد استاء من كون فأس قد جعل من عين وظيفة أساسية هي إنتاج الحقد و كأنها الوظيفة الوحيدة التي وجدت من أجلها.
قام بعض أتباع فأس خلف ناصر الذي كان على علم بأمرهم. فعجّل خطاه حتى وصل إلى الجسر حيث جثّة العم الطيب التي كان يحرسها الكلب.

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات