تتكثف الجهود لعقد قمة القادة العرب في بغداد أواخر الشهر الجاري في أجواء يمكن توصيفها بالاستثنائية بسبب حالة المخاض الذي تعيش على إيقاعه الشعوب العربية التي أخذت بزمام المبادرة لتحريك المياه الراكدة والتحليق في أفق الحرية والكرامة...
القضايا التي تشغل الأمة العربية عديدة وشائكة ومتشعبة منها المزمن المتجدد كالقضية الفلسطينية ومنها المستجدّ الحارق كالوضع المتفجر في سوريا بكل أبعاده ودلالا ته...غير أنّ اللافت في التعاطي مع الهموم العربية في قمة بغداد،إن قُدِّر لها أن تنعقد في الموعد المُعلن،أنّها توقيتا تزامنت مع الرّبيع فصلا ومع الرّبيع دلالة سياسية وحضارية أريد له أن تعنيه الثورات العربية التي أطاحت إلى حدّ الآن برموز الأنظمة المستبدة في تونس ومصر وليبيا واليمن،وقبل هذا فإنّ الحضن الحاضن لهذه القمة هو العراق،بما هو عليه،اليوم،من مخاض عسير استمرّ لما يربو عن عقدين عاش عقده الثاني الحالي دمويا على وقع تداعيات ثورته التي أطاحت بصدام حسين...
ومع أنّ الواقع العربي الراهن مغاير بقدر كبير لما كان عليه في بداية السنة الماضية 2011،فإنّه ظلّ وفيا لنفس التقاليد التي درجت عليها جامعة الدول العربية في تنظيم مؤتمرات قمتها شكلا ومضمونا:
- من حيث الشكل الجامعة هي ذات الجامعة التي كانت قد أودعت رئاسة قمتها للعقيد معمر القذافي ذات ربيع سنة 2010 تكريما له بتأبينه حيا قبل قتله والإطاحة بحكمه المديد...تغيّر أمينها العام من المصري عمرو موسى إلى المصري نبيل العربي وبقيت دار لقمان على حالها تتعامل وفق أطر وتنظيمات تعترف بالأنظمة الحاكمة ولا تعترف بشعوبها...
- من حيث المحتوى تداوم على ضبط جدول أعمال لا علاقة له بالهمّ العربي إلا من خلال إخضاعه لما هو مسطّر من أجندات خفية لحكام يحكمون بإرادة غير إرادة شعوبهم...
ولئن أقررنا بأنّ الإرادة العربية لا يمكن لها أن تحلّق بعيدا خارج فضاء ضغوطات الهيمنة العالمية كما تمليها مصالح الدول العظمى،فإنّ المطلوب ليس المواجهة لهذه الضغوطات بقدر ما هو البحث في إطارها عن الفرص التي تتيحها لتعزيز حظوظ اتساقها مع مصالح الشعوب العربية وتطلعاتها،والمعضلة ليست في الضغوطات الخارجية،فحسب،بقدر ما هي في تباين المصالح بين الأنظمة العربية الحاكمة وشعوبها،إلى حدّ التناقض،في التعاطي مع الإملاءات الخارجية...
سنة 2004 احتضنت تونس قمة جامعة الدول العربية تحت عنوان "الإصلاح السياسي"،وكان المطلوب من هذه القمة أن تستجيب لضغط أمريكي وغربي اقتنع بضرورة تنفيس الكبت الذي عليه الشعوب العربية بتمكينها من جرعة ديمقراطية لازمة وباتت متأكدة لتأمين الاستقرار في المنطقة والحيلولة دون انفجار شعبي عربي تتأذى منه أميركا وحلفاؤها باعتبارها حليفة أنظمة الاستبداد العربي وبالتالي عدوّة للشعوب العربية التواقة للحرية والعدل والكرامة...إلا أنّ ذات القمة سجلت امتعاضها مما اعتبرته تدخلا في الشأن الداخلي الذي لا يتسع لقيم "الديمقراطية الغربية"،مكتفية ببيان للنوايا الطيبة تطميني للداخل والخارج في السير على طريق الإصلاح السياسي بنية التمويه في التعاطي الإيجابي مع الضغوطات الخارجية التي،هي في الحقيقة،تتجاوب،في جوهرها،مع إرادة الجماهير العربية العريضة...
أما اليوم والحال على ما هو عليه من تداعيات "الفوضى الخلاقة" التي تندفع إليها الشعوب العربية بشراسة وحماسة،فإنّ القمّة العربية التي من المنتظر أن يستضيفها العراق بتجربته الحديثة الحرجة،لن تكون غير فرصة جديدة مجهضة لتلك القمم العربية التي تعودنا عليها بالسباحة ضدّ التيار،دون الوعي بالكارثة التي تتربص بالعالم العربي إن لم يقدر القادة العرب على الارتقاء إلى ما تمليه اللحظة التاريخية الفارقة التي نحن بصددها بعد أن غيبت الثورات العربية رموزا كانوا يؤثثون المشهد الدرامي بغير المألوف في قاموس الخطب السياسية أمثال القذافي، وصعّدت رموزا جديدة جاءت بها الثورات العربية على عجل ما نزال لا ندري مدى قدرتها على الإضافة والتغيير نحو الكفّ عن "التلاسن الزعماتي" وصراع الديكة،على الأقل... ولعلّه من المفيد استحضار أنّ قمّة عربية يتيمة كان مبرمجا لها أن تعقد لأول مرّة تحت عنوان"قمة الثقافة" لسنة 2011 لم تعقد بسبب سبق الشعوب إلى تدشين هذه القمة على مزاجها بمهرجانات الانتفاضات الشعبية التي تطرح اليوم بإلحاح خارطة طريق لثورة ثقافية عربية ذات مضامين حضارية راقية تتيح القدرة على إثراء المدنية الحديثة بمنتوج له نكهته العربية إبداعا وتفوقا...
التعليقات (0)