بعيدا عن السياسة
إعددااد االخطب والمراسلات الرسمية لرؤساء الحكومات والمنظمات الدولية
كثيرا ما نعجب بكبار الكتاب ومقالاتهم وتعبيراتهم ولغتهم دون أن نفكر في معرفة مهنة الكاتب أو مجال تعليمه وعمله وتجربته. وكثير من الكتاب يستغلون إعجاب القراء بهم فيكتبون في كل شئ في الأدب والتاريخ وفي السياسة وفي شتى العلوم والتخصصات ويستعملون الأسلوب الأدبي الجميل في شرح المواضيع التي يتناولونها . وهذا يدفع كبار الساسة العرب إلى الأستعانة بكبار الكتاب المعروفين في كتابة خطبهم وتقاريرهم ومراسلاتهم مما جعلها قطعا حماسية أدبية كثيرا ما تكون بعيدة عن المجال الذي يجب التركيز عليه . وهذا الأسلوب كان متبعا حتى في الدول المتقدمة ولكن تطور مستوى القراء والسامعين من المواطنين ونمط مخاطبة الجماهير جعل كتابة الخطب والرسائل والتقارير الرسمية وحتى تعليقات الصحف فنا وعلما يدرس في معاهد عليا ، مما أضطر رؤساء الدول وكبار المسئولين الدوليين والساسة إلى تعيين خبراء في كتابة خطبهم وتقاريهم ومراسلاتهم لأيصال ما يريدون الى القارئ أو السامع العادي باسلوب سهل خال من التعابيرالأدبية التجميلية التي تنقل دهن القارئ من الموضوع الى الأسلوب الأدبي الجميل . كما وجدنا مهنيين جددا كل عملهم هو تصحيح لغة التقاريروالخطب والرسائل الرسمية نظرا لتركيز كتلبها على ما يريدون التعبير عنه دون إضاعة الوقت في إختيار الكلمات والتعابير المناسبة و التقيد باللغة وقواعدها التي تساعد على سهولة فهمها من أفراد الشعب العاديين . وهؤلاء يوجدون عادة في المنظمات الدولية . رغم ذلك فلا زال بعض الرؤساء والساسة يجدون الوقت لتصجيح وإضافة وجعل الخطب والمراسلات والتقارير التي تعد لهم تعبر عن شخصياتهم . ذكرني ذلك بتجربتي في حياتي العملية وعملي مع رؤساء حكومات وسفراء ليبيين ومع رؤساء منظمات دولية مختلفي الجنسية ولغاتهم الأصلية . وكنت أما بكاتب مسودات خطبهم ورسائلهم وتقاريرهم أو مشارك مع أخرين من أهل الأختصاص في أعدادها ، وأحيانا يناقش ما يكتب منها مع الرئيس أو الوزير أو المدير الذي يوقعها ويلقيها أو تداع أو ترسل بأسمه . وقد مررت بحالات مختلفة من رئيس لأخر . لقد كنت في أيام الشباب كغيري من العرب من ممارسي الكتابة السياسية نتكلم كثيرا ونشيد في كل مناسبة بالجهاد والدماء التي سالت والتضحيات وألاف الأرواح التي زهقت والامجاد التاريخية والحروب والانتصارات.
وأذكر إننا أعددنا خطابا لرئيس الوزراء المرحوم السيد محمود المنتصر لألقائه بمناسبة الأستقلال . ولما قرأه إستدعاني وقال لي أنا طلبت إعداد خطاب بمناسبة الاستقلال لتناول حاجات المواطنين والتنمبة والشئون الجارية ونشاط الحكومة ولم أطلب خطبة لقيادة الجماهير إلى معارك حربية ، الجهاد والدماء والضحايا هذه أمور تمت في مرحلة الكفاح وأنتهت بالأستقلال وسجل في التاريخ يقرأه المواطنين جميعا . والأن الشعب يمر بمرحلة سلام وإستقرار ويريد فيها أن يعرف ماذا تعمل الحكومة لتنمية البلاد ورفاهيته وصحته وتعليمه . أما بالنسبة للرسائل أو البرقيات فقد كان السيد محمود المنتصر دقيقا ويتوقف عند فقرات ويسألك ان تقرأها له ثم يسألك أن تشرح له ما فهمت منها . وفعلا تجد أن الفقرة لا تعبر بالدقة عن موضوع الرسالة أو البرقية وقد تعني معنى أخر يتعارض مع موضوع الرسالة فيطلب منك إعادة كتابة الرسالة .
أما رئيس الوزراء المرحوم حسين مازق فكان دائما يضيف قسما عن الجهاد والمجاهدين في خطبه ويقول إن مناسبة الأحتفال بالاستقلال يعتبرها المجاهدون مناسبتهم وهم الذين ضحوا ويريدون سماع التمجيد بهم وتضحياتهم . وكان عندنا في العهد الملكي جموع كبيرة من ألاف قدماء المجاهدين وخاصة في برقة معظمهم من المجاهدين وأولادهم أوالمدعين بالجهاد وهم كثيرين لأن المجاهدين الحقيقيين إنتقلوا إلى رحمة الله . وكانت تخصص لهم المرتبات والعلاوات ، ونقيم لهم منصة خاصة في الأحتفالات الى جانب منصة الملك ورؤساء السلطات والوزراراء والسفراء وكبار المسئولين تقديرا لهم وكانوا يحضرون وملابسهم مرصعة بالنواشين التي قالوا إنهم تحصلوا عليها . وكانت عند السيد حسين مازق القدرة الفكرية والجسمية لقراءة كل البريد الذي يرسل له وهورئيس الوزراء الوحيد الذي يقرأ مئات شكاوى وطلبات المواطنين يوميا ويعلق عليها ويطلب إجراء خاصا بشأنها . وكان يتذكر إسم كل إنسان قابله أو كتب له . وفي تعليقه على الكلمات التي تعدها وزارة الخارجية لرئيس الوزراء لالقائها في المناسبات الدولية كان ينتقد عدم ألمام موظفي الخارجية بنشاط الحكومة الليبية ويتناولون موضوع الكلمات التي يعدونها من جوانب عامة لا ترتبط بما يمس ليبيا ونشاطها في مجال المناسبة . وغالبا ما يعدلها بما يراه مناسبا . أما رئيس الوزراءالمرحوم الاستاذ عبد الحميد البكوش فكان يغيرالخطاب و كلمات المناسبات التي نعدها له بالكامل تقريبا لأظهارمقدرته اللغوية ومعرفته بالموضوع خاصة إذا عرف أن وزير الأعلام المرحوم خليفة التليسي أعدها اوشارك في إعدادها لأنه لا يتفق معه لأسباب لا أعرفها والأستاذ خليفة التليسي رحمه الله كان يعرف هذا مقدما ويديع الكلمات كما غيرها رئيس الوزراء ، ولهذا قام الأستاذ عبد الحميد البكوش بتغيير الأستاذ خليفة التليسي واتى بالسيد أحمد الصالحين بدله وزيرا للأعلام . وكان الاستاذ خابفة التليسي صديقي وزميلي في المدرسة الثانوبة وأذكر إنني قدمته ألى رئيس الوزراء السيد محمود المنتصرقبل دخول الحكومة ولهذا كان يلومني لانه قبل عرض رئيس الوزراء لدخول الحكومه رغم عدم رغبته في العمل السياسي ، وللتاريخ فقد إستطاع الأستاذ خليفة تحسين العلاقة بين الصحفيين الشباب والحكومة الليبية التي كانت تتخوف منهم من إثارة مشاكل لها . وأصبحت الصحافة والاعلام بصفة عامة جزءا من عملية إتخاذ القرار السياسي في ليبيا .
أما رئيس الوزراء المرحوم السيد ونيس القذافي رحمه الله فنظرا لخدماته الطويلة في وزارة الخارجية فكان يعامل خطبه وكلماته ومراسلاته كأنها كلمات ومراسلات دبلوماسية ويغيرها وفقا لذلك . وإذكر أنه في أول خطاب له بمناسبة الأستقلال أعددنا له خطابا حماسيا مليئا بتاكيد السياسة العربية أنذاك وترديد لاءات الخرطوم الثلاتة لا إعتراف ولا تقسيم ولا مفاوضات وإستنكار سياسة الدول المجاورة لاسرائيل التي تتفاوض مع إسرائيل . وأذكر إنه غير الخطاب وألغى ما جاء عن إستنكار سياسة الدول العربية المجاورة لأسرائيل، وقال الخطاب يشرح سياستنا برفض المفاوضات مع إسرائيل ولا نريد التدخل في سياسات الدول الأخرى والمزايدة على الدول المجاورة التي إحتلت إسرائيا اراضيها وتريد تحريرها بالطريقة التي تراها . وكثيرا ما يستغرق السيد ونيس القذافي وقتا طويلا في تعديل خطبه وكلماته ويتابعها حتى تداع أو تنشر. .
أما صياغة البيانت الرسمية للشعب فأذكر إنه بعد إعلان إستقالة الملك سنة 1964 ورجوعه عن الأستقالة قررت الحكومة إصدار بيان للشعب لان معظم المواطنين لم يسمع شيئا عنها . ولهذا قرر مجلس الوزراء تأليف لجنة من الأستاذ عمر الباروني وزير دولة لشئون الرئاسة أنذاك والأستاذ خليفة التليسي وزير الأعلام واخرين لا أتذكرهم وأنا كوكيل وزارة لرئاسة مجلس الوزراء لأعداد هذه البيان ولما كان صياغة بيان يتعذركتابته من طرف مجموعة فكلفتني اللجنة بأعداد مسودة للبيان لتناقشها اللجنة . وخطرت لي فكرة أستغلال المناسبة لأسباغ الصيغة العاطفية عليها والتعبيرعن فرح الشعب وولاءه لمليكه . فكتبت موضوعا إنشائيا إستعملت فيه كل عبارات ولاء الشعب للملك برفض الاستقالة ، والشكر للملك للتخلي عن إستقالته ، والحمد لله الذي حقق للشعب تلاحمه مع مليكه ، وبعد ذلك سردت تفاصيل حدت الأحتجاج وتجمع الجماهير في طبرق لمطالبة الملك بالرجوع عن إستقالته ، ورجوع الملك عن الأستقالة . ولما أتيت بالمسودة وقراتها على اللجنة أجمع أعضاء اللجنة بالموافقة عليها وأذيع بعد موافقة رئيس الوزراء وقراءته على الملك بالهاتف وموافقته عليه .
أما رؤساء ومدراء المنظمات الدولية للامم المتحدة فأهم شئ في عملهم هو خطبهم التي يلقونها في المؤتمرات وإجتماعات الامم المتحدة وهيئاتها ومنظماتها والتي يحضرها أيضا رؤساء ووزراء وكبار ممثلي الدول الأعضاء . ولهذا أصبح هؤلاء الرؤساء والمديرون يحرصون على تعيين موظفين متخصصين لأعداد مسودات خطبهم ومحررين أكفاء لتصحيحها خاصة إذا كانت لغتهم الأصلية غير إنجليزية أو فرنسية اللغتين الأكثر إستعمالا في إجتماعات الأمم المتحدة ، حتى ولو كانوا خريجين من جامعة أكسفورد أو السربون . ورؤساء ومدراء المنظمات الدولية عادة يلقون كلمات ومحاضرات في مناسبات مختلفة عدة مررات في الأسبوع و في كل إجتماع يحضرونه ، وهذه تعتبر أهم مهمة في عملهم وأي فشل فيها تنال من سمعة رئيس المنظمة وصلاحيته للمنصب ، ومعظم رؤساء ومدراء المنظمات الدولية عندما ينتهوا من خطبهم يغادرون الجلسة بحجة إرتباطاتهم بمواعيد مع ممثلي الحكومات ويتركون منافشة موضوع المؤتمر للخبراء والموظفين المختصين . ومن أطرف المواقف التي اذكرها أن مديرا لمنظمة دولية جاء الى جنيف من نيويوك ليحضر مؤتمرا دوليا ويلقي فيه كلمة باسم منظمته ، فلم يجد خطبته في جيبه كما يضعها عادة وكان على المنصة فهرع خارجا من القاعة غاضبا وكانت مشكلة مع أعضاء وفد منظمته ولم نجد مساعده الذي جاء معه من نيويوك ومعه نسخا من الخطبة ، وبحثنا عن هذا الموظف في كل مكان حتى وجدناه وأنتهت الأزمة بسلام ورجع رئيس المنظمة الى المنصة وألقى كلمته المعدة مسبقا . وكان محظوظا فقد كان مدرجا في أسفل قائمة المتكلمين من ضيوف المؤتمر .
وأهم شئ عملته الامم المتحدة هو تحديد فترة الخطب العامة التي تلقى في إجتماعات الامم المتحدة بخمس أو عشر دقائق بعذرعدم توفر الوقت وإتاحة القرصة لجميع الأعضاء بالكلام . وبهذا تخلص الحاضرون لأجتماعات الأمم المتحدة من الخطب الطويلة التي تدعو للنعاس والتي يتبارى بها الخطباء على هذه المنصات العالمية الهامة وأصبح التركير على النقاط الهامة من سمات الخطب في الامم المتحدة سوى خطب بعض الرؤساء المعروفين بسلوكهم الشاد الذين يحرجون رئيس الجلسة ويترددون لأيقافهم بعد إنتهاء الوقت المحدد لهم .
التعليقات (0)