من منا لا تنتابه لحظات ضيق وقهر شديد حتى الشعور بالغربة وهو بين الأهل والأحباب, من منا لا يغمره شعور مرير بالمقاومة بصعوبة بالرغبة في الصراخ وبثورة لا يهدؤها إلا تدمير أي شيء. نكبح رغائبنا لعلمنا من تجارب سابقة إننا غير قادرين على صراخ ولا تدمير لأننا أضعف من أن نترك لأنفسنا العنان لتفعل قبل أن نتساءل هل يفيد الصراخ والتدمير.
لا ليس إحباطاً بل ألم ذلك الشيء الذي يغزو نفوسنا فيسكتنا، ألم حزن يولد فجأة ربما من قلب ضحكة ربما من أعماق فرحة.. نحسه يمتصنا ينتشر على كل خلية وعصب. لا نعرف له ملامح، نزيل ثقيل على القلب.. حزن غريب يختلط بذرات الهواء الذي نستنشقه.. يفيض يصبح جدولاً من لهب يعتصرنا حينا ويعتقنا حينا آخر.
الحزن إحساس يغمر النفوس التي لا تؤمن بمقولة لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم.. عاطفة متميزة نبيلة تصنف البشر.. حامل تلك العاطفة إنسان متألم فعلاً.. هو ليس من الفئة المتشائمة ولا من الفئة المتفائلة أيضاً. لا يجد في التفاؤل أكثر من مسكن مزعج يضلل الحقائق.. ولا يجد في التشاؤم مغزى سوى انه ينكر الحقائق.. إنه إنسان يرجو جلو الحقائق وتبلورها وظهورها في مكانها وزمانها الصحيحين.
إن الفروق في حياة البشر أكبر من هذا ميت وهذا حي. فروق عريضة بين الأحياء أنفسهم في نصيبهم من الحياة أساسها القدرة على الاستجابة لما يحدث حولهم.. فقد يبتسم ذلك المتفائل ويقول متأففاً لا فائدة ترجى ولا حتى في نفسي بينما الإنسان الحزين عامراً بالحياة والحيوية فكراً وفعلاً..
هذا الإنسان الرافض المتحدي الحزين في أعماقه قلقاً ورغبة في رمي حجر في بحيرات أولئك الراكدين من المتفائلين والمتشائمين. منتظراً ببالغ الصبر ردود أفعالهم بأن تتسع الدوائر على السطح الراكد تهتز بعنف وتتكاثر فلا يبقى وحيداً يحلم بالأفضل والأحسن.. يستفز مقومات الحياة التي تملكها تلك الأفراد وتتجاهلها عن عمد حيناً وعن جهل معظم الأحيان.. إن سئل بجفاء لماذا تحرك بركنا الراكدة ؟ يجيبها بسؤال أكثر دقة.. لماذا هي جامدة ومخالفة لطبيعة الحياة؟
هذا الإنسان إذا تكلم زفر وإذا نظر حوله انحسر البصر، إذا سكت انفجر.. لأنه يرى أكثر مما يرى ويسمع أكثر مما يقال سراً أو علانية.. فكلامه ضرورة مثل جرس إنذار يدوي في عالم الاستكانة والدعة.. فالدنيا تستحق الجهد والعناء تستحق أن يوظف لها كل القوى والحواس والجوارح فلم يعطك الله سبحانه شيئاً عبثاً.
إذا استطبنا التمدد على شطوط منتظرين إن يصلنا المدد في كل حين فالعيش الهادىء عيش مهين ولا يعني إلا المزيد من تعطيل الطاقات وأهمها هذا العقل العظيم والذي لا يختلف في تكوينه عن تلك العقول المنتجة وهذا القلب الزاخر بالنبض ليس أقل من بقية القلوب وهذا اللسان الأداة الطيعة. وهذه الجوارح القوية المسخرة، دعها تعمل. تأمل وأعمل. فكر وأعمل.. وظفها وأعمل..
يقول الكثيرون أن الشقة بعيدة بين المطلوب من جهة والمستطاع من جهة أخرى والسؤال الأجدر أين مكمن الداء؟ كيف نشفي عللنا؟ ولا جواب سوى إن نريد ذلك فيتحقق.. نحول الوهم ليقظة.. الخمول لحركة.. من قعود وسكون إلى انتفاضة ومغامرة.. المهم إن نتحرى عن الهدف.. لن يفيد أي شيء قبل الوصول إلى الهدف والاتفاق عليه ومن ثم نؤمن به وندافع عنه.
لا تصدق أننا هكذا خلقنا وهكذا سنموت، لا يغرنك هذا الهدوء على الوجوه.. في الأعماق شيء مختلف، لا دوام لسلام بين الشيء ونقيضه المتجاورين.. قد تتغلب علينا سلبيتنا حينا لكن سيتحرك جانبنا الايجابي الراكد فينا حتماً. انه يعمل أيضا بهدوء تموج به تيارات فكرية متخلقة متوترة لكنها تعمل بجد وبصمت.. فالقوس المشدود هو الذي يختزن العزيمة حتى تأتي اللحظة المناسبة فتطير إلى هدفها.. فاقترب من مرمى الحقيقة ولا تبالي.. قل كل ما تعتقده حقيقة ولا تخف.. لا تقل أشياء وتخفي على نفسك أكثر مما تقول..
التعليقات (0)