قبل ساعات من مقتل معمر القذافي نطق رئيس المكتب التنفيذي المستقيل محمود جبريل مهدداً بخطر الفوضى كأحد الاحتمالات القادمة في المشهد الليبي من الآن فصاعدا، كما عبّرت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون قبله بساعاتٍ قليلة عن رغبتها في مشاهدة القذافي مأسوراً أو مقتولا.
إذا أضفنا هذين التصريحين إلى سيناريو مقتل القذافي وما شابهُ من تضاربات في الأقوال وركاكة في الأداء يتضح لنا أن مقتل القذافي بهذه الطريقة وفي هذا التوقيت بالذات له ما ورائه، والتاريخ الذي كان يماطل عقوداً لفضح الأسرار أصبح بدوره يأخذ ساعات قليلة ليكشف المستور، فها هي الاستخبارات الألمانية تعلن بعد مقتل ملك ملوك إفريقيا بأنها كانت على علم بمكان تواجده، وأخبار تتوالى عن دور الغرب في مقتل القذافي، وما كل هذا إلاّ بداية على درب الويكيليكس.
إن التوقيت الحرج والمتأزم الذي يمر به العالم بشكل عام ومنطقتنا بشكل خاص يملي علينا التبصر في الوقائع مع الحرص على ترجيح العقل مقابل العاطفة في تفاصيل المشهد المليء بالتناقضات، فيمكننا القول بأن الغرب يحاول عن طريق النيتو إعادة استعمار المنطقة بطريقة جديدة وغير نمطية باسم حماية المدنيين، والقول بأن طريقة مقتل القذافي وإبنه يشوبها ما يشوبها من روائح الخيانة الكريهة، إلاّ أن قول ذلك كله لا ينفي البطولة عن الثوار الليبيين، فقد دفعوا أغلى الأثمان من دمائهم وأرواحهم ليخلّصوا بلدهم وشعبهم بل والعالم أجمع من ظالم متجبر أقل ما يقال عنه أنه أهلك الحرث والنسل، وليس خروج شعب بأكمله (أو غالبيته) احتفالا وابتهاجاً لموت الرجل إلاّ دليل على عدل القدر بقضائه، ونهاية مأساوية كهذه ما هي سوى حصاد لما زُرِع طيلة أربع عقود دامية من الزمن.
يقف اليوم ثوار ليبيا على بلد دُمّرت بُناه التحتية، واستنزف الكثير من إمكاناته المادية، وآلاف العائلات فيه دُكّت بيوتها، وآلاف أخرى لا تملك سوى ذكرى شهيد أو معاناة جريح، في هذه الأثناء تعمل الأيادي الانتهازية التي شاركت في خلق الفرصة على جني كل ما يمكن جنيه من مكاسب تخدم مصالحها المسعورة، وعلى أمل مواجهة أزماتها الداخلية التي بدأ دويّ انفجاراتها يزلزل الأرض تحت أقدامهم، هذا شأن الأيادي التي تعمل في الظاهر ولنا أن نتخيل الأيادي الكثيرة التي تعمل في الخفاء ضد الوحدة الليبية، والمصلحة الليبية، والتنمية الليبية، والثورة الليبية، فالأمر الذي لا يجب التغافل عنه أنه بقدر قوة الثورة تكون قوة الثورة المضادة.
منذ الأيام الأولى لثورته في ستينيات القرن الماضي أقصى العقيد معمر القذافي ونفى وسجن وعذّب واغتال في بلده ليبيا كل من خالفه أو حتى إشتبه فيه إمكانية أن يخالفه يوماً، وحين انتهى من تأليف آخر فصول كتابه الأخضر سنة ۱۹٧۸ كرؤية فلسفية ونهج إقتصادي ودليل حكم، جاء التطبيق العملي لهذه النظرية "العالمية الجديدة" فاضحاً تماديه في القمع، فراح يعدم الشباب في المدارس والجامعات أمام التلاميذ والطلبة والأهالي، لكن شناعة العمل لم تشفي غليله، فحرص على نشر رسالته الملطخة بالدماء على الملأ، وكان ذلك ببث تلفزيوني في ۱٧ فبراير ۱۹٧۸ يشاهد الليبيون من خلاله إعدام مجموعة من الشباب وجّهت لهم العدالة القذافية تهمة تهديد استقرار الحكم ورفضهم للقائد كقدر محتوم، وقد ضرب القدر موعداً للقذافي مع هذا التاريخ كدَين وَجَبَ الوفاء به.
مع أن القذافي تقلّد منصب قائد العالم الإسلامي سنة إعلانه الزحف الأخضر في ۱۹۸٧ إلاّ أن معظم الدول الإسلامية والعربية لم تفلت من عدائه ضمن حوالي 45 دولة عاداها العقيد خلال سنوات حكمه، مع تفاوت في شدّة العداء وطول مدته، وعند مشاهدة الراحل صدام حسين مشنوقاً قبل ۸ سنوات أعلن قائد الجماهيرية تصالحاً مع العالم أجمع إن لم نقل استسلاماً، لكنه قبل ۸ أشهر أبى أن يصالح شعبه الثائر والعازم على الحرية، فوعدهم بنار تلظّى زنقة زنقة، تشعل بيوتهم دار دار، وتتبع كل (الجرذان) المستلهمين من البوعزيزي عبق الحرية، وأقسم القذافي أن يتكفل هو بحرقهم فرد فرد.
لكن:
الثوار المهللين والمكبرين هم من زحف في ليبيا شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً بحثاً عن القذافي ورهطه، فتقاسم الطرفان في خضم هذا البحث مهمة إحراق البلد زنقةً زنقة، وتعلم الثوار من ظالمهم وجلاّدهم فن التحالف مع الشيطان، فساند النيتو كلاّ من الثوار والقذافي في حرق ليبيا دار دار، وتُرك في الأخير شرف الإنتصار للثوار بقتل القذافي وأعوانه كالجرذان فرداً فردا.
رقم (۸) الذي يغرس القاعدة في الأرض ويرفع رأس السلطة للسماء كان نذير شؤم على القذافي رغم استعانته بالمشعوذين وتقلّده للتمائم، وقد اتخذ الثوار هذا الرقم رمزاً لثورتهم حين أقسموا بأن ننتصر أو نموت، فأرغموا أنف الثمانية (۸) في التراب ورفعوا قاعدته التي ترمز للشعب في السماء ٧ كأيقونة تُعبّر عن سلمية ثورتهم التي أُجبرت على العسكرة.
لكن أيضاً:
يعيش اليوم ثوار ليبيا مع مجلسهم الإنتقالي تحديات جسام، وعليهم إشراك كل الشعب الليبي في قائمة الإنجازات التي ينتظرها الغد الليبي، فتشكيل حكومة مؤقتة تدير شؤون البلاد، والتخلّص من خطر هيمنة الغرب والنيتو على السيادة والقرار الليبي، وفرض الأمن بالتحكم في السلاح ومطاردة فلول النظام السابق، وبسط روح المصالحة بين كافة أطياف الشعب وأفراده، والتكفل بعائلات الشهداء وتطبيب الجرحى، وصياغة عقد اجتماعي في شكل دستور جديد تُبنى على أساسه مؤسسات الدولة، وإعادة إعمار البلد، هذا بالطبع إن كان الهدف بناء دولة حرة بأصالتها عصرية بحداثتها.
بعد مقتل القذافي يعتمد مستقبل الليبيين على اختيارهم بين خيرٍ وشر، وسيطال إختيارهم ليبيا زنقة زنقة، دار دار، وفرد فرد، فالجميع يقف على منعطف وفي مفترق طرق، ولهم أن يختاروا بين سبعةَ الثورة ٧ وثمانيةَ القذافي ۸ .
التعليقات (0)