من مفكرة سلطان القحطاني
• الأربعاء – 17 فبراير
1- جريدة "الوطن"... آخر القناديل التي سترحل من الجنوب !
أتذكر أول يوم صدرت فيه جريدة "الوطن" السعودية كما لو أنني أعيش لحظاته الآن.
بحثت عنها في عشرات الأماكن وبالكاد وجدتها في مكتبة صغيرة شمال الرياض. وجدتها مختلفة الحجم، والفكر، والطعم، واللون، والرائحة!. منذ تلك اللحظة بدأت عشق الصحيفة التي أقترح الملك عبد الله تسميتها "الوطن"، كي تكون ناطقة بإسم الوطن وأحلامه ومستقبله وحداثته، بدلا من أن تكون حكراً على منطقة بعينها، أو توجها بعينه.
كانت يومها واحدة من الأحلام التي بدت للبعض مستحيلة: منطقة أهملتها التنمية لسنوات، وحاكم طموح متوقد، وفقر في الاموال والكوادر، يعني أن الإعلانات شحيحة، والمصروفات متعبة، والإستمرار أمر في عهدة القدر. رغم ذلك نجح الحلم وصاحب الحلم. غيرت "الوطن" المشهد، قلبت التوقعات، هزت الساحة، وازنت بين الشباب والشيوخ في المهنة، ونصحت الكبار بأن عليهم أن لا يحجبوا الأجيال الجديدة في الصحافة السعودية، بل أسست العلاقة لتكون علاقة تكامل يرفد كل منها الآخر، خبرةً، وتوقداً.
(والمشكلة في الصحافة السعودية أن كل جيل يحجب جيلين خلفه، ويمكن أن تشاهد رئيس تحرير يجلس فوق كرسيه لعشرات السنوات، يكبر خلالها الصغار، ويشتد خلالها عود الشباب، وتذوي بعدها الآمال والطموحات، لأن الفرصة لم تتوفر في وقتها، وإن توافرت فهي مثل طوق نجاة لسباح واجه العواصف، ووصل إلى شط الآمان !).
لسنوات كانت "الوطن" صوتاً للذين لا صوت لهم. حنجرة لعشرات الألسن التي حُجبت ظلماً وعدواناً. مساحة واسعة للحوار في عهد ملك الحوار. محركا لجيل جديد، في الخبر، والفكرة، والرأي. (أتذكر أنني في حوار سابق مع الأمير المثقف بندر بن خالد، وهو رئيس مجلس الإدارة، سألته إن كانت الصحيفة حكراً على تيار بعينه، وهو التيار الليبرالي، فقال لي أن الجريدة مساحة حرة ومفتوحة للجميع، ومن حق الجميع - أياً كانوا - أن يعبروا عن أنفسهم). وهذا ما حدث بالفعل حتى اللحظة.
في البدء حاول البعض تجاهلها، وفشلوا. وحينما فشل التجاهل بدأ التحامل، وقذف الحجارة، ورمي قشر الموز، والكمائن، والأفخاخ، والتحريض. ومع ذلك صمدت، وصدمت، وفاجأت المحبين قبل المتشككين في النجاح، وأخذت وضعها على خريطة الصحافة المحلية. بدأت بـ"صفر سبعة" مجنون ثائر، له قدرة على تحويل ما لا يتحول، هو قينان الغامدي، ولم تنته إلى "صفر أثنين"، له قدرة التوافق مع الزمن، والسباحة في العواصف، وهو جمال خاشقجي.
والأهم من هذا وذاك، هو صاحب الحلم، وأمير المنطقة، خالد الفيصل، الذي لا تزال "عسير" تعيش وحشة رحيله بعد أن أنتقل إلى مهمة جديدة وهي ولاية أمارة منطقة مكة المكرمة.
ولكن لماذا كل هذه المقدمة الطويلة عن "الوطن"؟.
السبب هو أنني تلقيت هاتفاً مزعجا صباح هذا اليوم يقول لي إن هنالك احتمالاً لأن تهاجر "الوطن" عسير، وتذهب إلى جدة. شعرت بالخوف وقتها على المنطقة والتنوير والأحلام. أتصلت فوراً بالصديق عبد الله القبيع، نائب رئيس التحرير، وقال لي إن هذا الأمر غير صحيح. "أنتقلت أنا وبعض الأقسام فقط أما الصحيفة فلا زالت تصدر من المركز الرئيسي في "أبها"..". قال لي ذلك بهدوء.
ولا أعرف أين الحقيقة !
• الخميس – 18 فبراير
2- حينما ندخل في قصة حب مع الموت... و"جو بلاك" !
أعظم ما في الموت هو غموضه وسرمديته. قلت ذلك لنفسي وأنا أشاهد فيلماً، للأسف شاهدته متأخراً، وهو فيلم "Meet Joe Black"، الذي يقدم مقاربة عجيبة للموت. يأتي الموت إلى "أنتوني هوبكنز" قبل عيد ميلاده الخامس والستين، على هيئة شاب في العشرينات من العمر. قبلها بأيام كان السيد "هوبكنز" يعيش حياته المليئة بالنجاح، والحب، والأمل. فجأة يدخل الموت، هذا الشاب المتوقد، إلى حياة رجل الأعمال الناجح ويقلبها رأساً على عقب.
ويمضي الفيلم بصورة لا مثيل لها مجسداً تحول الموت الشاب إلى عاشق حزين يعرف أن نهاية القصة هي جدار، وخلفه الفراغ الرهيب. فجأة ينسى "براد بيت"، الذي لعب دور الموت، إتفاقاً عقده مع الرجل الأشيب كي ينتزع روحه بعد انتهاء حفلة عيد ميلاده، ويقع، دون حسبان، في غرام الحسناء المدللة التي كانت بالنسبة إلى "انتوني هوبكنز" محطة العمر، وقطار السعادة، وتذكرة الحب المقيم. في تلك اللحظة يتحول الموت إلى عاشق. يتذوق طعم القبلة الأولى، والرعشة الأولى. يعرف تفاصيل الشفتين، وما بعد الشفتين، وما هي نهاية الغسق الممتد إلى ما لا نهاية في العينين الزرقاوين.
في النهاية يجد رسول الموت صعوبة في التفريق بين مهمته، التي كانت انتزاع الروح، وبين قصة حبه، ويظل صريعاً لسؤال هل من حقه ان يحب، وهل من حقه أن يقطف هذه الوردة، ويأخذها إلى حياة أخرى؟..
أتوقف هنا لأنني لا أريد أن أفسد متعة هذا الفيلم الفلسفي العميق، الذي جعلني في أخذ ورد مع نفسي لعدة ساعات. كنت أتمنى أن نعرف شكل الموت، ومتى، وأين، رغم أن ذلك قد يفسد لعبة الكون. لكن الجميل، هنا، كيف تحول الموت إلى كائن أليف، له أحزانه، وحبه، وألمه من مهامه القذرة.
• لم أسجل اليوم أو التاريخ
3- متابعة حرة لقنفذ فريق الهلال السعودي !
آخر علاقة لي بمباريات كرة القدم كانت مشاهدتي هدف لاعب المنتخب السعودي سعيد العويران في المباراة مع بلجيكا، طبعاً قبل أن يتعرّف العويران على المذيعة حليمة بولند، التي هي في نظري أهم من هدف بلجيكا الذي نقل المملكة إلى دوري الستة عشر لأول وآخر مرة في تاريخ علاقتها مع كأس العالم. قال لي الصديق ناصر الغنيم أن مباراة الهلال والنصر مهمة، ويجب أن نختار مكاناً جيداً للمتابعة. وبالفعل قرر وتدبر وأختار لنا ذلك المطعم الواسع حيث أستمتعنا بالشاشة الكبيرة التي نقلت لنا حتى شكل كرة القدم، وكانت تلك أول مرة أتعرّف فيها على شكل هذه البيضاء المستديرة بعد زمن من الهجران الرياضي.
بعد دقائق من جلوسي، وحديثي مع السيد الغنيم، الذي نختلف في كل شيء إلا أهمية "المندي" في حياة الشعوب، وكفاح الأمم.(طبعاً هذا السبب في حبي لكتابات الصديق مأمون فندي لأنني سمعتهم ينادونه يوما بـ "مأمون مندي")... بعد هذه الدقائق يهجم علي سعودي شاب ليسألني إن كانت "الجماهير حضرت للملعب أم لأ؟". قلت "سوف أعدهم وأخبرك". وعلى الفور قال لي ناصر بابتسامة ماكرة: "الحقيقة سؤال مهم ينم عن ذكاء هذا الشاب ". ورديت بأن "علينا الدعاء له بالصحة والعافية".
حينما بدأت المباراة فكرت في الهرب. وبالفعل طبقت المخطط وحاولت التذرع بأنني ذاهب إلى دورة المياة، بينما شققت طريقي إلى البوابة، وأمامي الشارع، والهرب إلى أقرب مكتبة، أو كوفي شوب على الأقل، حيث أقرأ ما تيسر لي من "الغارديان"، أو "الديلي تليغراف" أو شقيقاتهن المهاجرات من "فليت ستريت". ومن سوء الحظ، ومن سوء النية بالطبع، وإذ بالسماء فجأة تزخ الثلج بكافة الأنواع والأشكال والكثافة، وعندها قررت بالفعل أن أعود إلى دورة المياة ومن ثم إلى الطاولة، ومن ثم إلى المباراة.
أهم ما لفتني خلال الدقائق السبعين الأولى هو اللاعب الشاب المزعج الذي يسمى نواف العابد، وأنا أسميه قنفذ الرياضة السعودية. هذا المجنون كان يلعب بألف قدم، وبأجنحة، جعلته يطير في كل مكان. الصغير الذي زاحم الكبار طوال دقائق المباراة، وأزعجهم، وأربكهم. "كم جميل أن تزعج الكبار، وتربكهم ".. قلت ذلك للصديق الكبير ونحن نغادر ساحة الوغى !
التعليقات (0)