رتب حقيبة سفره جيداً، أحكم إغلاق معجون الاسنان ووضع بجانبه الفرشاة، بدلة الرياضة الجديدة موجودة أيضاً، مرطبان زيت الزيتون، المخلالات، الملوخية المفرزة، علبة الدواللي، كل هذه المرطبانات محكمة الإغلاق كما وقد حجزت لها مكاناً جيداً في الجيوب الجنوبية للحقيبة، جواز السفر صالح كما أن التأشيرة ما زالت على الصفحة الخامسة من الجواز (علما أنه تأكد من وجودها و قرأها الف مرة). إذا كل الأمور جاهزة و مرتبة بإحكام لم يتبق عليه سوى انتظار أحمد (صديقه) ليقله إلى أرض المطار، كما و أن عليه واجب اجتماعي يتمثل في توديع الأهل و الأحبة اللذين التمو لإلقاء تحية الوداع عليه.
في تلك اللحظة ابتلت جفنتا أمه بدمعة غريبة لم تكن تنتظرها يوماً، دمعة جمعت بين نقيضين لم يجتمعا الوقت ذاته، “نعم” و “لا”.
نعم لقد ضاقت الحال و آن آوان الرحيل لتلمس الرزق، أولم يقل الله تعالى :”هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ”. نعم لا بد من الرحيل، فهنالك البحار و هنالك اللؤلؤ والمرجان، وهو ما زال صغيراً و يستطيع الابحار، لعله يلملم بعضاً من لآلئ البحر العظام.
ولا، فهي تعلم بداخلها أنه لن يعود، فللبحر لجة تأسر الأقدام، تذهب العقل و تمسح الذكريات، و لم سيعود؟ وكيف سيعود؟ ومتى سيعود؟، وغير هذه من الأسئلة التي أسرعت نزول دمعتها أمامه، هنالك نظر إليها وقال لا تخافي سأعود، غادر طائرها وهي تعلم علم اليقين أنه لا ولن يعود يوماً، وإن عاد جسده أرض الوطن فستبقى روحه ترفرف فقد ألفت روحه الطيران.
الغريب و العجيب أننا نجتمع على إناء واحد و نأكل نفس حبيبات القمح ،نتشارك القصص اليومية والآلام والآمال، نحلم سوية، ونبكي سوية، لكننا عندما نفترق تصبح الذكريات هي أغلى مانملك بل نستمتع كثيراً بتلك الذكريات ونود أن نرجع يوماً إلى أرض الوطن ونحن نعلم بداخلنا أننا لن نعود يوماً.
يطرح عبد الرحمن منيف في روايته مدن الملح “الجزء الأول” تساؤلاً جميلاً حيث يقول: “كيف يمكن للأشخاص و الأماكن أن يتغيرو للدرجة التي يفقدون صلتهم بما كانو عليه، و هل يستطيع الإنسان أن يتكيف مع الأشياء الجديدة و الأماكن الجديدة دون أن يفقد جزءً من ذاته؟”
حتما التكيف مع الأشياء الجديدة سوف يفقدنا جزءً من ذاتنا، أحياناً نفقد الجزء السيء وأحياناً أخرى نفقد الجزء الجميل، لكن في معظم الأحيان نفقد جزءً من شخصيتنا و تصبح صلتنا بماكنا عليه قليلة إن لم نكن نريد أن لاتكون لنا صلة بما كنا عليه أصلاً.
هنا اتذكر قصة السندباد و ياسمينة عندما رواها لنا بدر شاكر السياب في رائعته رحل النهار، فقد قال بدر شاكر السياب لياسمينة التي تنتظر عودة سندباد من السّفار على شاطئ البحر: رحل النهار وجلست تنتظرين عودة سندباد من السّفار و البحر يصرخ من ورائك بالعواصف و الرعود هو لن يعود أو ما علمت بأنه أسرته آلهة البحار، فلترحلي هو لن يعود. كما يعاتب بدر شاكر السياب ياسمينة على سذاجتها ويقول لها لم تنظرينه أصلا فخصلات شعرك لم يصنها سندباد من دمار.
لا أعلم هل يحق لنا أن نعاتب ياسمينة على سذاجتها، أم نحن من هم السذّج، وكيف لياسمينة أن تنسى كل تلك الذكريات، ذكريات الطفولة والصبا، وكيف لسندباد أن يكذب عليها فقد وعدها بالعودة يوماً، فقد أكد لها أنه سيعود محملاً بالهدايا، لكنني أخاف على ياسمينة هول الفراق عندما تيقن أنه لا و لن يعود، عندما تتمنى أن يقف الزمان أن يمر حتى باللحود.
التعليقات (0)