قدرنا أن نعيش من أمريكا وبأمريكا، فهي التي تصنع أمراضنا وأعاصيرنا وأزماتنا الاقتصادية وحتى خوفنا من انكشاف أسرار أنفسنا.. الذين كانوا ينتظرون بابا نويل مع نهاية كل عام، صاروا يتلقون هدية أمريكية من نوع خاص تقدمها الولايات المتحدة لكل العالم ليفتتح بأعصابه عامه الجديد، بينما تبدأ هي التحضير لهدية جديدة لا أحد يعلم ما هي ولكنها بالتأكيد ستكون أكثر إثارة وتأثير من الوثائق الويكيليكسية التي نسي العالم أحواله فيها وصار يترقب هطولها كما يترقب العابد الإثيوبي زخات المطر.
أمريكا التي ابتكرت الإرهاب واستعمرت أوطاننا فقضت علينا ولم تقض على الإرهاب، وابتكرت أنفلونزا الطيور والخنازير والسيدا وباعتنا الأمصال واللقاحات بملايين الدولارات قبل أن نحرقها دون استعمالها، وابتكرت أعاصير كاترينا وأخواتها فأرعبتنا وساعدناها ماديا وبكينا لحالها، وابتكرت الأزمة الاقتصادية فأفقرت العالم وازدادت غنى وجبروتا، تبتكر الآن وثائق وكيليكسي لتُرهب أعداءها وأصدقاءها في أكبر عذاب معنوي وأخلاقي تعرفه الكرة الأرضية في تاريخها، لأن الذي يتحدث عن مئات الآلاف من الوثائق ويكشف عنها بالقطعة كمن يعذّب سجينا سياسيا بصوت القطرة التي تحرمه من النعاس ومن الموت وتنسيه نهائيا أن له عراق وأفغانستان وفلسطين ذهبت قبل أن يعرف العالم الإنترنيت وقبل أن يصبح ويكيليكس أشهر ما في الوجود .
سؤال يتفق العالم بأسره في الإجابة عنه، وهو هل عجزت أمريكا التي لا تغرب شمس مستعمراتها عن وأد تسربات ويكيليكس؟ ولأن لكل العالم إجابة واحدة فإن السؤال يصبح متى تنحصر الابتكارات الأمريكية بين حدودها الجغرافية ولا تشغل الناس وترعبهم فتراهم سكارى وما هم بسكارى من عذاب أمريكي شديد لا يتوقف .
الفارق بين الاستعمار الأمريكي الحديث والاستعمار القديم أن أمريكا تستعمر الأذهان قبل الأبدان وتستعمر العالم بأسره وليس بلدا واحدا، وتحارب بجنود غيرها ولا تقع في صفوفها أي خسائر، والفارق بين المُستعمر القديم والمستعمر الحديث أن الضحايا راضون بالاستعمار بل ويساهمون فيه كما تكشفه الوثائق الاستعمارية الويكيليكسية الحالية وهم غير مستعدين لطلب الحرية، ومن غرائب الدنيا أن الذين يتحدثون عن تصفية الاستعمار في مناطق عديدة من العالم لا أحد منهم يطالب باستقلال أفغانستان أو العراق رغم أن أمريكا نفسها تطالب بتصفية استعمارها لهذين البلدين، وهي تكشف الآن للعالم عبر وثائق ويكيليكس أن العالم هو من منحها أرضه وعرضه لتعيث فيهما خرابا واغتصابا. وثائق ويكيليكس تقول إن السفارات الأمريكية مراكز استخباراتية وكلنا نعلم ذلك، وترسم مواقع التصنت وتعطي تفاصيلها وكلنا نعلم ذلك، فهي تكشف الآخر في أغرب عملية كشف لأنها تخص الأصدقاء وليس الأعداء وكأنها تريد بل إنها تريد أن تقول للعالم " أنا ربكم الأعلى " ، وكأن العالم يقول لها بل إنه يقول لها هيت لك !
التعليقات (0)