بعد أم روّابة ... متى تَـشـمُّ الإنقاذ رائحة سروالها؟
طابور مسلح من 100 مركبة (بإعتراف الناطق الرسمي الصوارمي) جاءت بمليشيات الجبهة الثورية المعارضة للنظام الحاكم من جنوب دارفور قاطعة آلاف الكيلومترات حتى وصولها مدينة أم روّابة.
أدى هجوم هذه المليشيات على مدينة أم روّابة إلى مقتل 17 مواطن سوداني بريء ، ونهب وسلب العديد من ممتلكات الأهالي وسرقة أموال البنوك وتدمير جزء من محطة الكهرباء وشبكة الماء.
الذي يثير التساؤل في البداية هو أين كانت "آذان" المخابرات وأجهزة الأمن والإستخبارات العسكرية ، طوال الفترة التي إقتضاها الإعداد لهذا الهجوم الذي حتما قد إستغرق الكثير من الوقت والجهد والدعم والحشد اللوجستي لقوات متمردة غير نظامية لاتمتلك (أو هكذا يفترض) سوى سلاحها الغير شرعي؟
ثم أين كانت "أعيـن" المخابرات وأجهزة الأمن والإستخبارات العسكرية طوال الطريق الطويل الذي سارت فيه هذه المركبات طابوراً ممتداً يثير العجاج والتراب والرعب المقيم ؟
بل وأين كانت المخابرات وأجهزة الأمن والإستخبارات العسكرية والشرطية و "ناس الدفاع الشعبي" ؛ في الوقت الذي ما فتئت مليشيات الجبهة الثورية المتمردة تحتل وتخرب وتنهب وتروع المواطنين في القرى والحلال التي عبرتها في طريقها نحو أم روابة ؟؟ ... أو كأنها في رحلة صيد برية سياحية وليس الهجوم المسلح والقتل والتدمير.
لايمكن التبرير بصعوبة الإتصالات .. فأجهزة وأدوات ثورة الإتصالات والمعلوماتية قد أصبحت في أيدي المزارعين وصائدي السمك والأرانب ؛ والرعاة والبدو الرُحّـل ...
قوات سائرة على مركبات تأتي من أقصى جنوب دارفور . وتعبر هذه المسافة الطويلة حتى تصل إلى مدينة أم روابة التجارية في عمق وسط البلاد . فتخرب وتنهب وتقتل ثم تعود إلى مواقعها آمنة مطمئنة حامدة شاكرة تدفع الإنسان السوداني أن يتساءل عن واقع وملابسات ما يجري .....
- هل هناك تواطؤ مـّـا بشكل أو بآخر. وطابور خامس داخل كافة أجهزة الدولة أم ماذا؟
- هل هناك داخل أجهزة الدولة كافة من يحاول إمساك العصا من المنتصف في العلاقة بينه وبين المتمردين من جهة والحكومة من جهة أخرى؟ فيعمل لحساب الإنقاذ كأنها ستعيش أبدا ، ويعمل لحساب المتمردين تمرد كأنهم سيصلون إلى السلطة غدا؟
- هل هناك خونة ذوي قناعات جهوية وحَمِيّة قبلية جاهلية يسرّبون معلومات للمتمردين ؟؟
- أم هل هناك من يضرب من داخل النظام بعد أن يئس جدوى ضربة من الخارج ؟؟
- هل هناك حقاً من يسعى من داخل الإنقاذ نفسها لتقسيم السودان وفرض واقع "مثلث حمدي" تنفيذا للمخطط الصهيوني الأمريكي المدفوع الأجر؟
- قبل فصل الجنوب كان الشعب على قناعة بإنشغال قواته المسلحة في أدغاله وغاباته .. ولكن بعد إنفصال الجنوب ونهاية الحرب الأهلية فيه لم يعد هناك مبرّر لتغييب القوات المسلحة عن حماية الداخل ..... إنه لمن المؤسف أن يبدأ الشعب بالتشكيك والذهاب بعيداً في ظنونه تجاه قدرات جيشه ونوايا وخفايا قيادة القوات المسلحة المتمثلة في وزارة الدفاع.
- لماذا إبتلعت حكومة الخرطوم كرامتها بالكامل . ولم تفكر حتى في قطع المفاوضات الجارية في أديس أبابا أو تأجيلها إحتجاجاً على أقـل تقدير؟ ..... هل أصبحت الحكومة ضعيفة في مواجهة المعارضة المسلحة إلى هذا الحد المزري المخجل؟ ..... وهل باتت تستجدي الرضـا الأمريكي (الذي لن يأتي) إلى هـذا الحــد المهــين؟؟
- ولماذا جاء هذا التناقض بين موقف النائب الأول خلال زيارته لأم روابة ووعيده بملاحقة وسحق الحركات المتمردة من جهة ... وبين إصرار وفد التفاوض في أديس أبابا على إستمرار التفاوض والحوار مع هذه الحركات؟ ... ... مــن يأتمر بأمر من ؟ .. ومن يشبـع على حساب من ؟.. ومن باكل على مــوائــد مـــن ؟ ومن يســرق تــاريخ الوطن وحاضره ومستقبله في هــذا الواقع الماثل أمامنا من زمان الأنجاس والمسيخ الدجال حيث المال الصهيوني يشتري كل الضمائــر؟
كل الإحتمالات واردة في ظل قتامة ظلال أدخنة الواقع الماثل المريب الممتد منذ إندلاع التمرد في دارفور عام 2003م وإتفاقية نيفاشا الكسيحة عام 2005م.
قتيل من عامة مواطني أم روّابة
ثم إن التساؤل الذي يظل يراوح نفسه ما بين الشك واليقين يظل دائماً كالتالي:
هل كانت الحكومة أو عناصر نافذة فيها على علم مسبق بتفاصيل مخطط الهجوم على أم روابة . وأنها عملت على تهيئة مسرح العملية تمهيداً لإجبار الشعب والرأي العام السوداني على تقبل المزيد من تنازلاتها في المفاوضات الجارية ؟
منذ نيفاشا عام 2005م والحكومة في الخرطوم كأنها قد جعلت من التنازلات مشروعها الحضاري وإستراتيجيةً دائمة لها .... ولا ندري والحال يمضي هكذا متى تلتفت الحكومة خلفها أو "تدنـقِـر" تحتها لتشم رائحة سروالها؟
إن على الجميع أن يدرك أن فصل الجنوب كان شيئاً ؛ والمحاولات الرامية لتنفيذ مخطط فصل دارفور وجنوب كردفان شيء آخـر.
بالأمس وقف معظم الشعب السوداني صفاً واحداً تأييداً لإنفصال الجنوب بشعبه الذي لايشبهنا وأرضه التي لاتعرفنا ، ولم يكن في يوم من الأيام جزءاً حيوياً منا ولا مستقبل إجتماعي تفاعلي بيننا وبينه. ولا يصلح بيننا سوى تكريس علاقات الجوار الطيبة والمصالح التجارية والإقتصادية المشتركة... والسلام عليكم وعليكم السلام.
ولكن تبقى دارفور وجبال النوبة جزءاً متفاعلاً أصيلاً حيوياً من بنية المجتمع السوداني ومن كريات دمه الحمراء والبيضاء ولحمه الحي وتاريخه النضالي على مر الزمان ... ومن غير العقل أن يتوقع سدنة "مثلث حمدي" في حكومة الإنقاذ وحزب المؤتمر الوطني تمرير هذه الجزئية من المخطط الصهيوني الكريه ، سواء أكان ذلك فوق الطاولة أو أسفلها. أو إجبار الشعب على إبتلاع الطعم.
إن الذي يشغل البال وسط كل هذا هو كيف توافق حكومة الإنقاذ على محاورة المتمردين بوجهها في الوقت الذي تسمح لهم فيه بضربها على دبرها بين كل حين وآخر ؛ وعند كل بداية مفاوضات؟ ... ويلاحظ أنه لم يشذ عن ذلك حتى تلك المفاوضات التي كانت تجري مع دولة جنوب السودان
وفي هذا الإتجاه تأتي أم روابة بالدرجة الثانية لتثير الشكوك مرة أخرى في مدى قدرة إتفاقية المصفوفة على الثبات في مجال التطبيق والوفاء بإلتزاماتها من جانب حكومة سيلفاكير.
أم روابة تجيء أيضاً وبالدرجة الأولى تجاوزاً لكل قواعد اللعبة بين التمرد والحكومة . فهي على مرمى حجر من كوستي والرهد .. وبإمكان الراكب الشاب فوق الحمار الضكر النشيط أن يقطع المسافة بينها وبين الأبيض في أقل من ضَـحَـوَة .
........... وفي مدينة الأبيض تتواجد قيادة المنطقة الوسطى العسكرية ..... فلماذا والحال كذلك لم يتم إعطاء الأوامر كي تتدخل القوات المسلحة من الأبيض لمحاصرة أم روابة ؛ لمنع متمردي الجبهة الثورية من الخروج ؛ تمهيداً لتصفيتهم لاحقاً عن بكرة أبيهم مثل ما فعل جعفر نميري بالمرتزقة داخل العاصمة المثلثة؟
ولماذا لم تتم مطاردة المجموعة المهاجمة وقطع الطريق عليها عقب إنسحابها خارج أم روّابة ، وطوال مسيرها الممتد الطويل حتى وصولها إلى قواعدها سالمة غانمة؟
هل دخل سـدنـة مثلـث حمـدي داخل المؤتمر الوطني وحكومة الإنقاذ على الخط أم مــاذا؟ .... ربمـــا ولم لا؟ ... وماذا يمنع في زمـان سـرقة وتبديد المال العام هذا أن يسرق البعض بشـراً ويبدّد وطنــاً بأكـمــله؟ ... إنها كارثة بكل الحسابات والمقاييس والأوزان.
لقد أثار الهجوم الساهل المكشوف لمجموعة مليشيات سياسية متمردة على مدينة أم روابة التساؤل حول مدى الرؤية الإستراتيجية لوزارتي الدفاع والداخلية ، والإستخبارات والأمن والقيادة العليا في القصر الجمهوري مجتمعين.
أهالي أم روّابة يعاينون بعض أشكال الدمار
إختيار الجبهة الثورية مدينة أم روّابة للإعتداء الآثم لم يأتي من فراغ ، فقد جاء محاولة لضرب رمز من رموز الحركة التجارية في المنطقة . ومركز من مراكز نشاط تجارة المحاصيل النقدية الإستراتيجية في السـودان ، ومحاولة لإجهاض مساعي السودان لجذب المستثمر الأجنبي ...... مدينة أم روابة ملتقى طرق سفريات وترحيل . وتعتبر ضمن أهم المدن الإقتصادية غرب النيل وشرق الأبيض ... وفيها العديد من مظاهر إقتصادية وتداولات تجارية وبنوك وكفاءات وخبرات نادرة في مجال التبادل والتوكيلات التجارية. ويعم تأثيرها الإقتصادي كافة أرجاء السودان والصادر ؛ وتعج بها القشـارات وأنشطـة تعبئة وتخزين وترحيل المحاصيل وغيرها من أنشطة مساندة بل ومنافسة لمدينة الأبيض ، وتكاد تتفوق عليها في بعض الجوانب أحياناً ؛ لاسيما في مجال توافر قشارات الفول السوداني وتجميع وتعبئة وترحيل غيره من محاصيل نقدية . وفي مدينة أم روّابة محطة طاقة كهربائية إستراتيجية حديثة بمقاييس المنطقة (أفتتحت عام 2011م) . وتوربينات وخزانات مياه تمد المدينة بـ 4600 متر مكعب يوميا .. وهي إذن ليست بالمدينة الهامشية التي يمكن تجاوزها أمنياً وعسكريا بالنظر إلى مواصفات ومقاييس وإمكانات وظروف السودان الأمنية الغير مستقرة الحالية.
فكيف والحال كذلك تترك مدينة كهذه في ظروف السودان هذه دون حامية عسكرية معدة للتدخل السريع ؛ تستطيع الوقوف في وجه مثل هكذا هجوم أو إجبار قيادة المليشيات المتمردة على التفكير مرتين قبل الإقدام على مغامرة الهجوم على المدينة ، والخروج منها على هذا النحو السياحي التبختري المستفز الذي جرى؟
لقد إتضح الآن (وبعد أن أكل الدحيش العيش كالعادة) أن أقرب تواجد عسكري من المدينة يتشكل من الفرقة الخامسة مشاة . أو ما يسمى بقوات الهجانة ... وهي قوات لاتصلح لصد هجوم أو مطاردة مليشيات مسلحة ميكانيكية بقدر ما هي مجهزة للمسح الأرضي بتكنولوجيا ومعطيات القرن التاسع عشر ... وعلى نفس التكتيك الذي أنشأها به الجنرال غوردون باشا وظل يعمل به سلاطين باشا ؛ ثم ورثه عنهم "محمد خالد زقـل " على أيام الثورة المهدية ومجريات أحداثها في كردفان ودارفور عام 1884م... وأخشى أن الحال قد ظل على ما هو عليه حتى يومنا هذا.
لا نريد سماع كلام حكوميً مرسل ممجوج للإستهلاك المحلي وستر العورات من قبيل تأكيد مواصلة الجهاد . وإجترارها أسطوانات ومقولات رنانة وطنانة تتوعّد المليشيات ، وتعد ضحايا الكارثة وواطيء الجمرة بقدرات الأجهزة الأمنية على وضع وإعادة الأمور إلى نصابها ... وعن حماية الوطن والدين عقب كل هجوم لمتمردي دارفور والحركة الشعبية لقطاع الشمال بقدر ما يجب أن يجري إعادة النظر في التخطيط الإستراتيجي للوضع الأمني في كل مناطق وولايات السوداني عامة والجزء من أرضه غرب نهر النيل خاصة.
وزير الدفاع
إنه من دواعي الأسف أن نسمع وزير الدفاع السوداني اليوم 29 أبريل 2013م خلال زيارته لمدينة أم روابة ... نسمعه يدلي بتصريح يقول فيه:
- "أن هجوم مليشيات الجبهة الثورية كان عملاً جباناً ؛ لأنهم كانوا يعلمون أنه لايوجد بمدينة أم روابة جندي واحد من القوات المسلحة". ....
لقد جاء هذا التبرير بمثابة العذر الأقبح من الذنب..... فماذا كان يتوقع وزير الدفاع من قيادة الجبهة الثورية أو غيرها من مليشيات وحركات مسلحة معارضة لنظام الحكم أو حتى عصابات وقطاع طرق؟؟ هل كان يتوقع منهم طلب الإذن بالهجوم أو إختيار المدن الحصينة عسكرياً لتهاجمها؟؟ لم نسمع بهذا منذ العصر الحجري والله ... فالأعمال والحملات العسكرية الغازية عبر التاريخ لاتضرب إلاّ في مناطق الضعف والوهن... والحـــرب حـيــلـة وخــــدعــة.
إن المطلوب الآن هو مراجعة الإستراتيجية الأمنية لمدن السودان برمتها ، بديلا لتلك التي وضعها الإنجليز بداية القرن العشرين ونمنا عليها نحـن وعلا شخيرنا....... نحن في حاجة إلى رفد الأداء وإستراتيجية العمل الحكومي بجيل جديد موهـوب مجــدّد مبتكر يتعامل بمعطيات العصـر ومفاهيمه.
المطلوب الآن إنشاء حاميات تتمتع بقدرات (التدخل السريع) وعلى الطريقة الأمريكية ؛ بحيث توضع تحت إمرة قائد كل حامية كافة الأذرع الأمنية والإستخباراتية والتشكيلات العسكرية المتعددة من مدفعية ومشاة ومدرعات وإشارة وطيران .. إلخ من تشكيلات القوات المسلحة التي يحق له إستدعائها وتوجيهها بأمر مباشر منه.
جماهير الشعب الغاضبة في مدينة أم روّابة يضرمون النار في مقر حزب المؤتمر الوطني الحاكم
للأسف الشديد فإن ظاهرة الفساد المالي المتمثل في سرقة وتبديد المال العام يأتي في النهاية خصماً على الجميع وستظل هذه الظاهرة السالبة تضـرب فـي كـل الإتجــاهــات والمواقــع . وتؤثــر على كفــاءة القــدرات بما في ذلك قدرة الدولة على تحسين أداء وإنتاجية الأجـهـزة الشـرطية والأمنية والعسكرية . وتـؤثـر سلباً على محاولات تحســين معيـشــة وظروف أبناء القوات المسلحة والشرطة والأمن والإستخبارات أجمعين ؛ ولاسيما تلك المتعلقة بالتعويضات عن الإصابات ورعاية أيتام وأرامل شهـداء الواجب ... لقد باتت سرقة وتبديد المال العام تضرب في كل المواقع تستنزف وتهدر من أموال البلاد الكثير .. ولا مناص من سـن قوانين عقوبات واضحـة رادعـة والضرب بيد من حديد ، وقطع أيدي لصوص المال العام من رجال الأعمال والمقاولين والموظفين العموميين ؛ الذين تتبخر بين أيديهم المليارات من الدولارات سنوياً من ثروة البلاد التي كان أجدى توجيهها للوفاء بمتطلبات مصلحة البلاد العامة والعليا.
التعليقات (0)