بعثة اسرائيل- بين التاريخ الزمني والتاريخ المقدس
أتناول اليوم على عجالة مسألة ظهور شعب اسرائيل على مسرح التاريخ.. راودني الموضوع بعد اسداء نصيحة من صاحبنا الفلسطيني من خلال تعليقاته المتكررة بان نحذو حذو معلمنا اسرائيل فينكلشتاين كبير علماء الآثار في جامعة تل ابيب بخصوص ما ينسب اليه – والعهدة على الراوي الفلسطيني – بان الاعمال الحفرية في ارض اسرائيل تفند الروايات والمزاعم التوراتية ..
نعم يا عزيزنا الفلسطيني... ستسمع مني هذه المرة ما يعجبك.. المكتشفات الاثرية لا تستقيم في الكثير من الاحيان والرواية التوراتية... بل كثيرا ما يفند علم الاثار المزاعم التوراتية التي رفعت من شأن مملكة يهودا الغابرة وعمدت الى التعتيم على فصل هام من تاريخ مملكة اسرائيل القديمة (المملكة الشمالية) وتاريخ الشعب الاسرائيلي... هل انت راضي الان... حسنا.. لنضع الامور الان في نصابها حتى تتضح الصورة...
اولا انا من المعجبين بكتابات الاستاذ فنكلشتاين.. الرجل يقول ان التوراة ليست كتاب تاريخ وان غالبية اسفار التناخ كتبت ودونت وجمعت زمن الملك يوشياهو ملك يهودا خلال القرن السابع قبل الميلاد وانها لا تخلو من محاولات للتبرير لبسط نفوذ ملوك يهودا على اراضي مملكة اسرائيل التي ضاع ملكها بعد الغزو الاشوري للبلاد القرن الثامن قبل الميلاد.. وانه ما من دليل أثري على خروج بني اسرائيل من مصر .. وان الاحافير لا تدعم اسطورة الدولة العظمى التي أسسها داوود.. وما من دليل مادي على قيام مملكة متحدة انضوى تحتها اسباط بني اسرائيل الخ.. هذه الحقائق وغيرها يمكن مراجعتها في كتابه الرائع "بعثة اسرائيل"..
خلاصة القول نحن آل عبيرو او قبائل عبيرو او قبائل العبرانيين، قبائل كنعانية مستقرة في ارض اسرائيل انتهى بها المطاف خلال مئات من السنين الى تأسيس مملكة اسرائيل في الشمال (المملكة الشمالية) ومملكة يهودا جنوبا (المملكة الجنوبية).. وقد تفوقت المملكة الشمالية على شقيقتها الجنوبية في كل شيء في العتاد والمساحة والعمران والاقتصاد والانفتاح والتنوع السكاني والحضاري فكان فيها العبراني والكنعاني والفينيقي والارامي.. فلا خروج من مصر ولا هم يحزنون.. شعب اسرائيل الكنعاني لم يرحل من ارض كنعان الى مصر ولم يعود من مصر.. فكل هذه روايات شعبية تناقلتها الالسن وتوارثتها الاجيال ووجدت صداها في التناخ الذي تم تدوينه في مملكة يهودا بعد اجتياح الجيوش الاشورية لمملكة اسرائيل ونجاة مملكة يهودا بعد ان ردت اشور على اعقابها لاسباب تتعلق بصراعات اقليمية نجم عنها سقوط الدولة الاشورية العظمى التي يصفها فنكلشتاين بانها كانت من القوة والعظمة والجبروت الى حد يمكن القول بان الامبراطورية الامريكية هي طفل وديع مقارنة بها... اما مملكة يهودا فلم تبلغ ما بلغت مملكة اسرائيل من مجد وازدهار.. وامتد التفوق الاسرائيلي ليطال الجانب الديني ايضا فأقيمت المعابد الاسرائيلية في سبسطية (السامرة) وفي بيت ايل.. فيما المعبد الرئيسي في يهودا كان في أورشالم لكنه لم يحظى بالمكانة التي حظيت بها معابد الشمال.. وظلت مملكة يهودا تقبع في الظل كمملكة او امارة تقع جنوب دولة اسرائيل المزدهرة..
لا نريد ان يستشف من كلامنا وكأننا نعمل جاهدين على تضخيم وتفخيم شعب اسرائيل ومملكة اسرائيل الغابرة.. فلا ننسى ان ارض اسرائيل كانت تحت حكم مصر لحقبة طويلة.. قبل ان تخضع البلاد لحكم اشور وبابل وفارس واليونان وروما.. وان الحضارة المصرية والاشورية والبابلية بعمرانها وقصورها وجبروتها ودياناتها وثقافتها كانت مضربا للامثال.. ولم نكن وقتها الا ممالك ودويلات صغيرة على طريق القوافل والجيوش التي كانت تربط بين الدول العظمى آنذاك..
في القرن السابع قبل الميلاد أفل نجم اشور.. وفي صبيحة احد الايام نهض الملك يوشياهو ملك يهودا ليكتشف بان اشور ومملكة اسرائيل قد اختفت عن الانظار.. كان ذلك بداية صعود نجم مملكة يهودا التي اعتبرت نفسها وريثة طبيعية لمملكة اسرائيل.. ودأب ملوك يهودا وكهنتها وعلماءها على التنظير لاحقية يهودا في مملكة اسرائيل.. هنا بدأ يتبلور التناخ كتاب اليهود.. وعكف مدونو التناخ (التوراه) على تفخيم وتعظيم دور مملكة يهودا وملوكها ومعبدها ومؤسسيها داوود وسليمان، طبعا على حساب مكانة مملكة اسرائيل التي لو ظلت شامخة كسابق عهدها قبل ان اجتاحها الاشوريون لما ارتقت مملكة يهودا الىى هذه المكانة.. هنا صار بيت المقدس في أورشليم مركزا للحياة الدينية والدنيوية لدى ابناء يهودا واسرائيل على حد سواء.. وبعد ان ضُمت اسرائيل الى يهودا صار ملك واحد للبلاد.. وكتاب واحد هو التوراه.. وشعب واحد.. واستوعبت التوراه الكثير من الروايات الشعبية والوقائع التاريخية التي توارثتها الاجيال باعتبارها جزءا من تاريخ بني اسرائيل.. فتم تصوير الهجرات الكنعانية القديمة الى مصر وعودتها الى ارض كنعان بانها قصة خروج بني اسرائيل من مصر وعودتهم الى ارض اسرائيل.. اما داوود مؤسس مملكة يهودا القرن العاشر قبل الميلاد فتم تصويره في التوراه بانه كان ملكا لاسرائيل ويهودا، ذاك من اجل تلميع استيلاء يهودا على اراضي مملكة اسرائيل لاحقا باعتباره احقاقا للحق واعادة مملكة داوود الى سابق عهدها... واما مسالة المملكتين المتجاورتين لقرون – اسرائيل ويهودا – فذاك وفقا للتوراه انقسام حصل في مملكة سليمان بن داوود بعد وفاته.. يعني التوراه أضفت شرعية على الوجود اليهودي في مملكة اسرائيل... وأصبح التناخ (توراه انبياء كتوبيم) كتابا مقدسا لسكان يهودا واسرائيل على حد سواء..
لا تتعارض هذه الوقائع التاريخية مع مسألة أقدمية شعب اسرائيل حسبما يقول اسرائيل فنكلشتاين.. إذ نحن شعب خرج من رحم الشعوب الكنعانية وتعود بعثتنا ونشأتنا كشعب الى القرن العاشر قبل الميلاد.. ولا يمكن نكران هذه الوقائع طالما هي مدونة في ارشيف اشور وبابل ومصر وروما... فلا احد بمقدوره ان ينكر حملة الملك الاشوري سنحريب على البلاد لقمع ثورة ملك يهودا.. او حملة الفرعون شيشق شمالا والقضاء على يوشياهو ملك يهودا.. او حملة اشور جنوبا والقضاء على مملكة اسرائيل... او حملة نبوخذنصر البابلي على يهودا.. والغزو الفارسي واليوناني والروماني والعربي فكل هذه احداث تاريخية لا يمكن نكرانها وهي مدونة في السجل التاريخي لهذه الدول...
لسنا هنا بصدد سرد تاريخي للوجود اليهودي في ارض اسرائيل انما لنتوقف عند بعض المحطات التي تتعلق ببدايات شعب اسرائيل ونشأته وبعثته كما وردت في كتاب اسرائيل فنكلشتاين.. وكيف تحولت أورشليم الى مركز ديني وروحي وحضاري للشعب اليهودي بعدما ظلت لامد طويل عاصمة صغيرة لمملكة هزيلة لم يعلو شأنها الا بعد القضاء على مملكة اسرائيل... وانا كاسرائيلي لا ارى بانه يتوجب علي اهمال شأن اسرائيل الغابرة والتقليل من شأنها لمجرد اجلال التوراة وهي التي عملت على تغييبها والانتقاص من قدرها ومن قدر ملوكها بوصفهم ملوكا ضلوا وجحدوا وانحرفوا عن جادة الصواب فعاقبهم الله بزوال ملكهم.. كل ذلك تمهيدا لاستيلاء ملوك يهودا على مملكة اسرائيل... فمن جهة واحدة تتضمن التوراه وقائع واحداث تاريخية وروايات شعبية قديمة لا نقلل من شأنها الا ان هذه الوقائع تم تطويعها ووضعها في اطار زمني يخدم أجندة مملكة يهودا...
قد يبدو هذا الكلام غريبا على القارئ المسلم الذي اعتاد تقديس النص الديني والاخذ به باعتباره كلام الله الذي لا يقبل النقاش والتأويل.. لكن مهما يكن، في النهاية الحقيقة تعلو ولا يعلو عليها... ولا صوت يعلو فوق صوت الالواح الاثرية والحقائق العلمية .. لن نعمل على ليّ عنق الحقيقة ارضاء للقارئ المؤمن الذي يؤمن بالتاريخ المقدس... يهمني جدا تاريخ مملكة اسرائيل القديمة التي تم تغييبها في التوراة، علما ان التوراة دونت في مملكة يهودا التي كانت محل تنافس وتزاحم مع مملكة اسرائيل.. وأتفق مع اسرائيل فنكلشتاين بان النص التوراتي لا يستقيم في الكثير من الاحيان والوقائع التاريخية والأثرية خصوصا فيما يختص بسيرة ملوك اسرائيل...
كتاب "بعثة شعب اسرائيل" يتناول نشأة اسرائيل وظهور شعب اسرائيل على مسرح التاريخ، بدون رتوش.. ومن خلال انحياز مطلق للحقائق الأثرية والأمانة العلمية دون خوف او وجل من الاملاءات الدينية والروايات الغيبية .. صحيح ان داوود ملك يهودا اصبح رمزا للشعب الاسرائيلي برمته.. وان بيت المقدس في يهودا صار مركزا روحانيا يجمع بني يهود قاطبة.. وان صهيون ذلك الجبل الصغير في أورشالم صار رمزا لأورشليم وارض اسرائيل.. وان توراة يهودا صارت كتابا معتمدا ومقدسا يتآلف حوله بنو اسرائيل صغيرهم وكبيرهم.. الا ان ذلك كله لا يجب ان يردعنا ويثنينا عن انصاف سيرة مملكة اسرائيل حتى لو ادى ذلك الى اصطدام مع المسلمات الدينية ....
ســبت مبـــاركة
التعليقات (0)