بطاقة المؤن
صحوت وانأ أهم بكتابة مقالتي ( للحوار المتمدن ) ، وكالعادة افتتحت الصباح بكوب من القهوة المرة ، ( كان صديقي يسألني لماذا مرة ..دائما . وأجيب كالعادة بالعبارة ذاتها ( لتكون منسجمة مع الطعم العام للحياة ) كيف تذكرت واجبات قديمة كان علي القيام بها لست ادري ، هممت إلى مكتب وكالة الغوث ، لم تكن بعد انتابتني حالة الحمى أثناء الكتابة ، ولم يتلبسني شيطان الكتابة بعد ، صدمني علم الأمم المتحدة الأزرق فوق المبنى ، وكأني أراه للمرة الأولى ، وخلف مكتب الموظف المبتسم كان ثمة علم ازرق آخر ، خلفه تماما كانت صورة بانوراما للقدس وعلى الزاوية ( هدية من مجلة العربي ) تركت للقلب ان يخفق للحظات بلا رقيب ، تركته ينبض ، لعله وشوشني هامسا كأنه شامتا ( لاجئ ) .
أطلق العقل عقال الخيال كتبت للحظة واحدة مقالة وأكثر ..
واحدة عن القدس استوحتها جنية الكتابة من صورة البانوراما للقدس .. وأخرى استمدتها من علمهم الأزرق .. لحظتها رفرف في قلبي علم فلسطين من بعيد يرفرف على عصي بأيد أولاد يجوبون الشارع ينادون ويهتفون
( فلسطين حر ة عربية ) فاض شوقي انهارا، وتفتحت ورودي وعلت قامتي في الذرى، وعبقت رائحة مكللة بالغار .. فكان المكان قصتي وحكايتي ، وكان النهار متعبا من أوله كالعادة .
كيف يتخذ المكان خصوصيته ، وكيف تتشكل ذاته اذا كان للمكان ذات ، هي ذات من ذواتنا قد صيغت من لحمنا ودمنا تشكلت ، ليتحول المكان جسدا مجسدا يحمل صفات وله ميزات ، يربطنا به ويعلقنا من قلوبنا نذوب تيها في المكان الذي نضفي عليه من ذواتنا روحا تلهب مشاعرنا من بعد .
كيف تتحول الأماكن الى ذكرى قديمة ذات صبغة خاصة ، نحن إليها ونشتاق ،كيف نمد هذا الحبل السري بيننا من الأزل إلى حاضر يومنا القاسي ، كيف نحن إليه وكأنه شيء من الذات ، بل ربما يكون في لحظة هو الذات كل الذات . فمنا من لم يسمع بمسقط رأسه الا حينما يقرأ شهادة الميلاد ، ومنا من لا يعرف على وجه التحديد مكان ولادته ، ولكننا نرتبط ارتباطا عصيا على الفهم بهذا المكان .. فنحن إلى أن يكون مثوانا مسقط رأسنا لنعانق رائحة الأرض الوطن والمكان .
اليوم وأنا أهم إلى مكتب وكالة الغوث الدولية لاستلم بطاقة المؤن الجديدة ( كانت تسمى بطاقة مؤن لأنه كان بموجبها يسمح لك ان تقف في طابور طويل طويل أطول من مأساتك بفقدك وطنك وتاريخك ومكان ولادتك لتحصل على المساعدات المنوعة والخدمات المختلفة المقدمة من هيئة الأمم المتحدة _ وكالة الغوث الدولية لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التي أصبحت وكالة الغوث دولتهم وراعيتهم ومدبرة أمرهم وراعية شأنهم وترفع علمها الأزرق فوق رؤوسهم لا لشيء الا ليذكرهم صباحا ومساء بمأساتهم ) .
اليوم اكتشفت ان بطاقتي الجديدة _ وقد قلصت الوكالة وألغت العديد من الخدمات المقدمة بموجب هذه البطاقة _ اكتشفت ان البلد الأصلي ( بيسان ) أصبح رقما فهل هناك بلدا في الدنيا تكون رقما .. فمثلا هل تكون نيويورك بدل نيويورك 01010، او هل تكون لندن 2548 او .. ألخ .
هنا في المخيم تتشكل ذات خاصة للمكان يتخذ فيها المكان صفة القسوة والجبروت ، وتطغى عليه الكآبة ، والوحشة وصيغة الانتظار المجبول بالفراق والفقدان والخسران وكل عبارات الانسلاخ عن الذات .. وتبقى عبارات الجدران المكتوبة بصدق العاطفة الجياشة حين تداهم العاشق كياسمينة تتعربش الجدران ، كتابات لمن ولدوا وكبروا دون أن يحسوا او يعرفوا معنى التشرد الا من حكايات ليالي الشتاء الباردة تحت الصفيح ،الا من فوج الشهداء الذي صفع صمت المخيم ذات صيف ، الا من اخبار على الهواء مباشرة تمد حبلا من الحب والشوق والانتماء للمكان دونما ان يقصد من يبث الأخبار ذلك وربما لو عرف لما بثها .
هي روح المكان تسيطر على الذوات الفردية أولا وتجبلها لتكون ذاتا جماعية تذوب غنائية وعشق . يتخذون من العلم والأعلام الرايات والشخوص وبعض التراثيات الفلكلورية ما يربطهم ولا يفصلهم .. وليكتبوا على الجدران والسواعد ( فلسطين حرة عربية .. عاشت فلسطين ) من هو الشعب الذي رسم وطنه على جلده بدمه . ليخلد المكان في الذاكرة ويدوم الوطن رغم المحن . من هو الشعب الذي دل العالم على جعل خريطة بلادهم ليجعلوها أيقونة تعلق وتلبس ، من هو الشعب الذي اتخذ من ملابسه وطنا يدافع عنه وجعل شعاره لباس الرأس ليدل الآخرين على الحب والوطنية ، من هو الشعب الذي جله من السياسيين الذين ينظون تحت أحزاب وفرق سياسية كلها تصب في وطنهم ، رغم تشتتهم في كل بقاع الأرض .
..يرسم المخيم ذاته على الوجوه البائسة قبل ان ترسمه .. نراه في عيون أطفال المدارس وهم يقفون صباحا تحت راية علم الأمم المتحدة ، نراه في وجوه العاطلين عن العمل وهم ينتظرون على الرصيف ، ليضفوا انتظارات الى انتظارهم الموعود المكذوب الكاذب .. نراه في وجوه من شاخوا وهرموا وهم على قارعة الانتظار ، نراه في وجوه من علقوا على جدران الصفيح مفاتيح بيوتهم القديمة ذات الحجارة التي حفرت مكانها في القلب والعقل وبقيت كوشم في ذاكرتهم ، نراه في وجوه الأمهات الثكلى وهي تنظر إلى صور الجنود بإلباس المموه ورشاشاتهم شاهدة في الصورة على رجولتهم التي دفعوا بها في سبيل المكان الأثير ، الذي بات عندهم أغلى وأحلى وأسمى من ذواتهم الفردية ..
هذا هو وجع المكان .. وهذه موسيقى الحزن العتيق الكامن في أعماق كل منا ونحن نجتر أجمل ذكريات المكان لتخفف وطأة الانتظار في مخيم مؤقت تحت راية زرقاء لا تمت لنا بصلة .
اللجوء .. أمر فرضه الوقع المر رغما عنا ، فباتت العائلة مشتته على أقطار شتى ، وبات الوطن رقة شطرنج ، لكنها بكل الألوان ، وبات الوقوف تحت العلم الوطني ( علم فلسطين ) أمنية بعيدة المنال ، استعضنا عنها برسم العلم على أذرعنا وشما منه الملون ومنه بلا ألوان .. هكذا باهتا كما هو في الواقع .. وقف أطفالنا تحت رايات وأعلام جميع دول العالم ، وربما نشدوا النشيد الوطني لتلك الأعلام .. وربما تلبستهم حالة ذلك العلم وباتوا وكأنهم قد أجريت لهم عملية غسل دماغ ..
احتفظ كل منا بخارطة المكان ( فلسطين _ غالبا كانت هدية من مجلة العربي أو هدية منظمة التحرير الفلسطينية دولتنا المعنوية ) ربما نضع دائرة على بلدنا الأصلي .. ربما نحيط الخريطة بالكوفية الفلسطينية .. ربما نضع صور بعض الرموز الوطنية إمعانا بالتمسك بالهوية ( هوية المكان ) .
اللاجئ الذي لم يسكن المخيم لم يدري بعد ما طعم اللجوء .. لم يدري ما معنى ان تقف في طابور طويل خلف عجوز تكافح من اجل البقاء واقفة مخافة ان يضيع دورها .. لم يدري معنى الانتظار حتى ينادي على اسمك من خلف طاقة معدنية صغيرة .. لتقدم كيسا وتحصل على حفنات من الأرز او العدس الفاسد ..او كتلة من السمن او الجبن المجفف .. مجهول المصدر بالنسبة إليك على الأقل .
لم يدري معنى ان تنام انت والعشرات في ( بركس ) من الصفيح .. في ليلة من الصقيع او الفيضان او الثلج الكثيف ، ربما يكون بجانبك رجل او عجوز او طفل متوفى .. ربما تسمع النواح طوال الليل .. كما حدث معنا ذات طفولة بائسة حزينة قليلة المسرة ، لا زلت تحفر عميقا في القلب .
لم يدري معنى ان تنام مع عائلتك كاملة لسنين في غرفة من الصفيح او ( الاسبتيوس ) لم يدري ان تلك الغرفة كانت كل البيت .. حمام ومطبخ وغرفة معيشة وصالون وغرفة ضيوف .. وغرفة خزين .. لم يدري معنى ان تنهض باليل تحت وقع الشتاء لتجد ان الماء قد بلل كل شيء .. وتبقى الليل تكافح وقوفا ...
تلك من ذاكرة المكان .. ذاكرة المخيم ..
ذاكرة للفقر والألم والحرمان والبؤس والبطالة ... وهي قصة لمن تمردوا على الواقع المفروض والمرسوم ، قصة لمن تمكنوا كما الفيينيق ان ينهضوا من تحت الركام ، ينهضوا كمارد جبار من ارض وشعب الجبارين ، ليشكلوا واقعا مغايرا فيه الإصرار والجهد يمتد من فلسطين الى كل بقعة من بقاع العالم .. ارض الشتات .وهم يساهمون ببناء خرابات العالم لتكون أوطانا لمواطنيها .
سيبقى المخيم ذاكرة عصية على النسيان ، ذاكرة للألم والحزن والفقر والبؤس والحاجة ، سيبقى قمر المخيم محاق إلى أجل غير مسمى ، ولو كانت المصابيح الغازية تملئ الشوارع والممرات والأزقة ، ولو عملت جميع الهيئات الحكومية في البلدان المضيفة ، ومنظمات المجتمع المدني ، والعالمي عل أن تحسن من البنية التحتية والخدمات المقدمة .. فلا يزال المخيم يرسم صورة للبؤس على وجوه ساكنيه .. ويرسم وجع الانتظار على مخيم طوارئ في انتظار العودة التي باتت حلم يلوح في نفق اسود مظلم بعيد سحيق .
ولا أتخيل أن قوة ستكون قادرة على أن تمسح وجعه من قلوبنا ، ولن تقدر جهة أن تعوض ما فقدناه من إنسانيتنا وذاتنا وذاكرتنا وقدرتنا على طول هذا الطريق الطويل من الانتظار وشتى صنوف الحرمان . تماما كما ستفشل في مسح وطننا من خريطتنا الدماغية ، فلا زال علمنا الوطني يعلق في كل بيت ، ولا زال نشيدنا الوطني يتردد في آذن كل طفل من أطفالنا ، كما لا تزال أحلام العودة وصورة البيت القديم والحاكورة مرسومة في عيوننا ولم تستطع ان تمحوها كل وسائل غسل الدماغ والتهجير في شتى المنافي والمهاجر .
ففلسطين من النهر إلى البحر مرسومة في شرايين كل فلسطيني . وهذه ميزة يمتاز بها الفلسطينيون عن غيرهم من شعوب الدنيا .
التعليقات (0)