بشرى
ـ 1 ـ
كنت منهمكا في إتمام شبكة كلمات متقاطعة حين رنّ هاتفي الجوّال
بلغني صراخ زوجتي ، دون تحية، و بلا مقدّمات:
ـــ عمّار.. عمّار فتّش حالاّ عن عز الدين لتبشره بأنّ زوجته قد قتلت... منذ ساعتين فقط... في حادث سير!
بعد تأكّدي من صحّة الخبر السّعيد، انطلقت من مكتبي ضاربا عرض الحائط بما قد ألقاه من توبيخ رئيس القسم في صورة اكتشافه تسلّلي قبل ساعة كاملة من نهاية الدّوام، كلّ ذلك في سبيل تبليغ جاري عز الدين شلبي ما يسرّ خاطره، و يشرح صدره، و يشرع أمامه كل أبواب الأمل و نوافذه!
عددت العناية الإلهيّة قد باركت تسلّلي، حين وافق اقترابي من سيارتي الرّابضة في المكان الخطأ، شروع عامل بلدية شابّ في تطويق عجلتها الخلفيّة بكتلة معدنيّة كانت ستكلّفني إزالتها راتب يومين كاملين .. كان العامل ودودا و متفهّما حين اقتنع بأن تعوّدي على إيداع سيّارتي في مكان خصّصته البلدية منذ أسبوع فقط لأصحاب الإعاقات البدنية، هو الذي جعلني أخطىء مرّتين على التوالي في ركنها في غير المكان المناسب.
الحمد لله ها قد أتاحت لي مغادرتي قبل ستين دقيقة من ساعــة
الذّروة تحرّكا أسرع نحو غايتي المنشودة وهدفي التبشيريّ
النبيل!
ـ 2 ـ
من كان يتصوّر أنّ غمّة جاري البائس عزّ الدّين شلبي قد انجلت بهاته الميتة الفجائية.. سحقا لأم العقارب ( هكذا دأبت على تسمية الهالكة) لطالما أثارت غضب و إشمئزاز الجميع، خصوصا غضبي و اشمئزازي أنا، حتى أنني هممت بتصفيتها ذات غضب.. كان ذلك بعد مجاورتي عز الدين بسنتين، أي بعد رجوعي من ايطاليا بثلاث سنوات.. أردت أن تكون أم العقارب آخر قتلاي، كدت ألحقها بسالف ضحاياي المتعدّدي الجنسيّات، لولا ردعي من قبل الإمام مروان الدّاهش الذي استنجد به أبو ايمان، و قد أفتاني الإمام المذكور بأن الله لن يؤاخذني فحسب، بل سيجازيني حسنات كالجبال بعدد السيّئات التي كتبت عليّ جراء قتلي خمسة ايطاليين و أربعة فرنسيين و ثلاثة جزائريين و متفرقات أخرى، زمن كنت لادينيّا في خليّة مافيا، لأن الإسلام يجبّ ما كان قبله، أمّا و قد دخلت حظيرة الإسلام و نويت الصّلاة، فلا تجوز لي إراقة نقطة دم إضافية، و بذلك خسر جاري عزّ الدّين شلبي فرصة إنقاذ ظللت أعتقد الى حدّ هذا اليوم السّعيد بأنها الأخيرة.
ــــ 3 ــــ
لمّا كنت أعلم أن جاري عزّ الدّين شلبي لا يمكن أن يتواجد في تلك الساعة بالتحديد في غير مقرّ عمله، فقد جعلته وجهتى..
حين أدركت شارع اسبانيا، لم أحتج لصعود الطابق الرّابع بل لم أحتج أصلا لمغادرة راحلتي، فقد كفيت ذلك حين أعترضنى جارنا عبد الوهاب مرزوق، السّاعي العجوز، عند مدخل وزارة التجهيز، ليفيدني بأن عزّ الدّين شلبي قد غادر منذ نصف ساعة.
لمّا كنت على بيّنة بإلمام عبد الوهاب مرزوق بمأساة جارنا المشترك عزّ الدّين شلبي، و تعاطفه الشديد معه، فقد خرّ ساجدا حالما بشّرته بمصرع زوجته اللئيمة!
علّق عبد الوهاب مرزوق و هو ينفض عن كفيه ما قد علق بهما من وعثاء الشارع:
ــ لطالما أوصيت المسكين بالصّبر!
ما إن أتمّ كلامه حتى نقر على هاتفه الجوّال، انتظر قليلا ثم أعلن متأسفا: " مغلق كالعادة"
لم أحاول بدوري الإتصال بعزّ الدّين شلبي، لعلمي بأن زوجته قد حظرت عليه الردّ على مكالماتي الهاتفيّة، بل وردّ السّلام، لأنني حرّضته ــ ذات جهل مني بوضعه الخاصّ ــ على تطليقها.. كان ذلك على مرأى و مسمع منها، قبل أن أندم على ذلك فيما بعد، لأنّ ذلك التّصريح الأهوج قد حال بيننا ــ أنا وزوجتي ــ و بين التدخّل لصالح الصّغيرة بثينة التي كانت تدفعنا إستغاثتها إلى التدّخل لصالحها في كل مرّة تستهدف فيها بصنوف الأذى من قبل والدتها الشرّيرة.
ـــ 4 ـــ
" يا قمامة... لم لم تخرج كيس القمامة؟".
" أين أنت يا بقرة؟... لم لا تردّ عل التليفون؟".
" يا حيوان، كيف تشترى الفطر و اللّحم المرحيّ، ثم تنسى الجبن، و أنت تعلم أن عشاءنا بيتزا؟".
" يا سي الكلب، لم لم تشفط الزربيّة بالمكنسة الكهربائية... هل نسيت أن عندي حساسيّة ضدّ الغبار ؟... "
" الله يلعن والديك و يلعن نهارا عرفتك فيه".
" أنت مش راجل إن لم تطلّقني ".
" مت غيظا.. أنا حرّة أفعل ما أشاء ".
" لماذا أنام مع زميلي سالم ؟ هاااااهااهاهااا لأنه أرجل منك ؟"
" افتح عينيك يا سي الزّفت.. كدت تحطّم إبريق الشاي...".
هكذا كانت تصلننا شتائم أم العقارب بحكم حدودنا البيتيّة المشتركة، خصوصا في ليالي الصّيف التى تكرهنا على فتح الشبابيك على مصراعيها.
ذات زيارة لعزّ الدّين لم أحتمل إذلاله بذلك الشّكل المريع و الكيفية المذلّة، فغادرت البيت كما ذكرت لكم آنفا، بعد أن أشرت عليه بتطليقها.
ـــ 5 ـــ
" يا خويا عمّار أعلم جيّدا أنها ساقطة، بقدر علمي بأنني ديوث، و لكن كيف أدع لديها ابنتي، هكذا دون رقيب، لتعذّبها صغيرة و تفسدها شابّة؟!.. أكاد أجزم بأنّ هاته المرأة مجنونة، فبعد كل أإيذاء تلحقه بالبنت، تسارع الي ضمّها و تقبيلها و كأنّ شخصا آخر هو الذي آذاها... لو طلقتها فلن أحضى بحقّ حضانة البنت... حتى لو تزوجّت مباشرة، فعمّ زوجتي قام بتهديدي شخصيّا بتلفيق قضيّة أمنيّة ترسلني خلف الأسوار، لو فكّرت بركوب رأسي".
قبل شهر واحد كانت فرحة عزّ الدّين شلبي لا توصف حين بلغه عرضا إصابة أم العقارب بسرطان في الدّماغ، غير أن فرحته لم تدم طويلا، فسرعان ما قطعها وصول رسالة اعتذار عن تشخيص خاطئ.. و مخيّب للآمال!
" لست أدري كيف اقترنت بها و أيّة حجّة أقنعتني بها، كلّ ما أذكره، أنني أضطررت الى التطوّع بحملها بين ذراعيّ ثم إركابها تاكسي إثر كسر رجلها بفعل التواء كعب حذائها..بعد أقلّ من شهر، وجدت نفسي و أنا أحملها بين ذراعي كزوجة... مالذي حدث بين الحمل الأول و الثاني؟ لا شيء غير فراغ في الذاكرة.. ذلك ما أستطيع قوله".
"لم أقربها منذ أكثر من ثلاث سنين، لقد عافتها نفسي حتى قبل أن تكاشفني بخيانتها " .
"لولا الصغيرة بثينة لأنتحرت، ولولا فقدان الكفيل لإبنتي لسكبت البنزين على الفاجرة ثم أشعلت فيها النار".
ــ 6 ــ
ممّا أثار حقدي و نمّى ضغينتي و ضاعف رغبتي في أن
تدور على جارتي الهالكة كل دوائر الدنيا، أن إستبدادها و تكبّرها و عجرفتها و تضخّم الأنا لديها، ليس له ما يبرّره اطلاقا، فأمّ العقارب أو سوسن المبروكي، امرأة ـ إن صحّ التعبير ــ تفتقد الى من يشهد لها بالأنوثة ــ هذا لو استثنينا تركيبتها الفسيولوجية ــ فهي كائن مسطح القوام" له وجه تمساح و رجلي فلاح" .. باختصار شديد" إن سوسن المبروكي و هي تنبض بالحياة، ليست قادرة ــ و لو أحسن تزويقها ــ على إثارة حتى الشهيّة الإستثنائية للشبّان الأربعة الذين نبشوا قبرا في مدينة سلا في المغرب الشقيق، قبل تداولهم على إغتصاب نزيلته بكلّ وحشيّة.. وحماس!، ولولا عم سوسن المبروكي، صاحب النفوذ المقرّب للسّلطة، لما تطوّع ذكر بمجرّد لمسها ولو بملقاط النار .
و لعلّ القبح الجسديّ لجارتي التي أسعدتني اليوم بفقدها بشكل نهائيّ، لا يعدّ شيئا مذكورا إذا ما قورن بقبح سيرتها، و خبث أقوالها و ما تنوء به نفسها الحقودة من شرور، و ما تحمله من عقد يعجز فرويد عن سبر أغوارها و حلّ معشارها.
ـــ 7 ــ
أمّا حمدي للّه على أن مصرع أم العقارب قد حدث أثناء ساعات دوامي و بطريقة لا شبهة فيها، فلأن حدوث مصرعها بتلك الكيفيّة و ذلك الظرف الزمنّي، قد جنّبني سينات و جيمات كثيرة، نظرا لكوني من أعداء الهالكة كما تشهد بذلك سجلات الشرطة.و اليكم تفصيل ذلك:
في أول سكرة لي اعقبت توبتي، و حين كنت أغادر حانة أبي إيمان، اصطدمت بسلوى ــ خليلة سابقة ــ حالما عاينت ما طرأ
عليها من فتنة مضاعفة، أوحى لي شيطاني بأنّ حسنات سكري ستكون مضاعفة، لو اضفت إليها حسنات زناي ــ إعتمادا على قاعدة تحوّل سيئات التائب الى حسنات ! ـــ .. عقب فراغي من سلوى، و حين كنت أهمّ بدخول شقّتي، زيّن لي ثانية بأن أضمن ما أثقل به ميزان حسناتي هو إيذاء جيراني ــ إعتمادا على نفس القاعدة الذهبيّة السّابقةــ، لأجل ذلك سارعت الى أحق جيراني ببوائقي، فقرعت باب أم العقارب.. ما ان بدت لي الأخيرة شعثاء في هيئة منكرة ضاعفت من قبحها حتى صحت بها" يا ضفدعــة
بنت ضفدعين، لأحرقنّك بالبنزين أو لتعتقنّ عزّ الدين!".. بعد مشادة كلامية انتهت بصفع أم العقارب بعد أن بادرتني ببصقة أحكمت توجيهها مستغلّة التحامي بزوجها الذي حشر نفسه بيننا أبت الى شقتي، غير أنني وجدت من يجرّني للتحقيق بعد ساعة من دخولى.. كانت تهمتي "اقتحام محلّ مأهول و الشروع في القتل!" لم أحقد على جاري المسكين، حين أيّد كل افتراءات زوجته، كنت أعلم أنه أذلّ من رئيس عربيّ أمام سفير أمريكيّ، غير أن جاري عزّ الدّين تمكّن بالتكفير عن خذلانه لي، بإرشاد أبي ايمان لموضع سرّي لكاميرا خفيّة كان عمّ زوجته قد ثبّتها أمام شقته لأسباب تأمينيّة .. من حسن حظّي أن تلك الكاميرا كانت بدائيّة و غير مزوّدة بلاقط للصّوت، لأجل ذلك أستبدلت تهمتي المذكورة بتهمة "السّكر الواضح وإحداث شغب نتج عنه عنف خفيف" وقد حكم لي بالإفراج الفوريّ بعد دفعي غرامة ماليّة باهضة، غير أنني ظللت رهن الإيقاف الظالم لمدّة زمنيّة عادلت تماما ـ و بالتعبير الساخر لأبي إيمان ــ عدّة المتوفّى عنها زوجها، أي أربعة أشهر و عشرا !
ـــ 8 ـــ
التطوّرات الأخيرة في حياة جاري عزّ الدّين شلبي كانت كارثيّة بكلّ المقاييس، فمنذ شهرين فتحت على المسكين كلّ أبواب الجحيم، حدث ذلك حين اعتزمت أمّ العقارب، هكذا فجأة، و بعد أن مرّ عليها دهر و هي لا تستقرّ على ذكر معيّن، على الإقتران بآخر باحث عن ثروة تقرّب إليها.
حين لقيني منذ اسبوع، وحالما رآني، أجهش عزّ الدّين باكيا:" رضينا بالهمّ و الهمّ لم يرض بنا.. ها هي تقرّر تطليقي دون تنازل عن حضانة بثينة...حين حاولت إقناعها بلزوم عشيقها هكذا دون زواج، ردّت علي بكل وقاحة بأن مستقبله الوظيفي لن يكون مرضيّا ما لم يتمّ اقترانهما رسميّا...ما عساني أصنع..ما عساني أصنع و قد حصل ما كنت أخشاه، ووقعت الفأس في الرأس؟"
ـــ 9 ـــ
كانت قد مرت ساعة كاملة على بحثي العبثي عن جاري عزّ الدين حين ملت ــ دون طائل ـ على حانة أبي ايمان، المكان الذي أعتاد عزّ الدين التردّد عليه في الشّهرين الأخيرين .
أبو ايمان ــ اسمه الأصلي سامي الجويني ــ كان رفيق صباي و دراستي ثم هجرتي السّريّة إلى ايطاليا، كما كان رئيسي في زمرة التصفية الجسدية بعصابة المافيا، كان يقال له التورنادو، لشراسته و حسن أدائه الدّموي.
فاجأ الترنادو الجميع، حين قطع صلته بعالمه السّفلي و رجع الى أرض الوطن مستهلاّ حياة جديدة من التوبة و التفقّه في الدين .
سعيا منه لإكمال نصف دينه، ارتبط سامي أو التورنادو السابق بفتاة متديّنة أطردت من عملها بتهمة التخمّر، بعد سنة رزق سامي ببنت جميلة سمّاها ايمان، و استحسن تسميته بأبي إيمان. بعد شهرين من إكمال نصف دينه، تقدّم أبو ايمان بطلب الحصول على رخصة مركّب ضخم يضم ّمطعما للبيتزا و مصلّى و مؤسسة لتحفيظ القرآن و أخرى لرعاية المسنين و المعاقين من ذوي الإحتياجات الخاصّة، بعد أن نهي عن التفريط في عائدات عمله السّابق، لأن فلوس المافيا حلال ما دامت غير متعلقة بحقوق الآخرين، وهي عبارة عن هديّة ربّانية لتحبيب التوبة للعباد كل العباد بمن فيهم التورنادو، بدليل قوله تعالى " فمن جاءه موعظة من ربّه فانتهى فله ما سلف" كل ما سلف من مال و عقارات ... كان سامي يحتفل بعيد ميلاد ابنته ايمان و قد مرت سنتان
مخيبتان على تقدمه برخصة لإفتتاح مؤسسته البيتزاويّة الخيريّة، حين تمّ إعتقاله بتهمة تمويل تنظيم القاعدة... حين غادر سجنه كان أبو ايمان قد قطع علاقته بكل أشكال التديّن.. حين عوتب أجاب :" لو اقتلعت أظافركم و أجلستم مثلي على فتحة زجاجة مكسورة، ثم هددتم بمعاينة اغتصاب زوجاتكم لعذرتموني".. حين بالغوا في لومه كان ردّه" الله يغفر و الحاكم لا يغفر". سعيا منه لإثبات تنصله من ماضيه المريب خصوصا وقد شدّدت عليه الرقابة و تتابعت عليه الإعتقالات هكذا دون سبب، تقدّم بطلب رخصة حانة تحصّل عليها بعد أقلّ من شهرين! ( ستسمى فيما بعد و في معرض التندر ـ حانة أبي إيمان) . لم يمنع تفسخ أبي إيمان من القبض عليه بتهمة ثلب رئيس الجمهورية، بعد سكرة عبّر فيهاـ بمسمع من بعض المخبرين ـ عن شديد ندمه لمقارنة نظمنا العربية بعصابات المافيا، لأن عصابات المافيا ـ و قد خبرها دهرا ـ كانت تلتزم بحماية دافعي الأتاوات من ظلم من دونها من العصابات، في حين تنكص نظمنا عن حماية رعاياها وهي التي تسلبهم بكلّ الأشكال و بغير وجه حقّ ! وقد كلفته تلك التهمة رشوة معتبرة كانت كفيلة بتسريحه.
ـــ 10 ــ
بعد ساعة و نيف من بحث عبثي مرهق عن جاري عزّ الدين شلبي، و حين أدركت ناصيّة الشارع الذي تقع فيه عمارتنا المشتركة، لمحته في آخر الشارع وهو يغادر سيّارته البنيّة الأنيقة. ملت قليلا الى اليمين، أوقفت سيارتي بجوار أخرى رابضة.. كان الفراغ الذي تركته يسمح بالكاد بمبرور سيّارة خفيفة، لم أهتمّ بما سيكلفني ذلك الخرق المروريّ من غرامة، كان مبلغ رغبتي لحظتها مسارعتي بتبشير جارى بتحقّق أمل حياته، كان تبشيره بهلاك زوجته أم العقارب، بمثابة التلويح لغريق يائس بعجلة إنقاذ، أو بمثابة موافاة من سيق الى منصّة الإعدام بحكم براءة!.. ما إن بارحت راحلتي، حتى أطلقت صفيرا لا يتقنه سواي ولا يميّزه الا القلائل، و منهم جارى عز الدين.
كان عز الدين شلبي على مقربة خمس و ثلاثين مترا، حين إلتفت نحوي، صحت به منطلقا نحوه كسهم:
ــ أبشر عز الديييييين أبشر !
كنت على مقربة مترين منه حين توقفت مكرها، ما ان استرجعت أنفاسي حتى صحت بين لهاثين:
ــ أبشر بأحلى خبر!
تطلعّ اليّ بملامح غائبة، سألني بذهول:
ـــ أي خبر؟
رغم ثيابه المبتلة، فقد أوسعته إحتضانا:
ـــ زوجتك ماتت! مبروك مبررررروك
حالما احتضنته آلمني جموده، كانت يداه مسبلتان، لم يحاول حتى مجرّد مجاملتي ولو باحتضان شكليّ، ممّا حزّ في نفسي.
كنت لا ازال أوسعه احتضانا حين بلغني صوته الواهن و هو يسألني ببرود أثار دهشتي بقدر ما ضاعف إستيائي:
ــ زوجتي ماتت؟!
أمسكت بكتفي جاري، حدّقت فيه مليّا و أنا أعيد عليه الخبر السّعيد:
ــ نعم لقد ماتت منذ ساعات قليلة!
حدّق بي مذهولا، سألني بصوت متقطع:
ـــ .. سوسن ما...تت؟
ما إن أتمّ كلامه حتى تأخر عنّي خطوة، ترنّح يمينا فشمالا دون أن يكف عن التحديق بي قبل أن ينهار أرضا .
حين التقطته كان قد أستعاد وعيه.. كنت أهمّ بسؤاله عمّا دهاه حين شرع يرجّني بيدين مرتعشتين وهو يناشدني بتوسّل أثار غيظي :
ـــ لا تقل أنها ماتت!
سألت جارى عز الدين وقد تحوّل تعاطفي معه إلى غضب حقيقيّ
ـــ هل فقدت صوابك؟
حين اكتفى بالنظر اليّ دون تكليف نفسه مجردّ الردّ، أردفت مستغربا:
ـــ ألم يكن موتها منتهي أملك؟
بعد ذهول أعقبه سكوت ثم ضحكة غريبة تلاها تقليب وجهه في حينا و في من التف حولنا من فضوليين حينا آخر، شدّني جاري اليه، صرخ في وجهي وقد كسته ملامحه سحابة رعب حقيقيّ:
ـــ سوسن ماتت.. مش معقول !
سألت الرّجل وقد داهمني قرف شديد من نذالة نفسه و خسّة معدنه:
ـــ ما "المش معقول" في المسألة؟
حين استرسل في ذهوله، لم أملك نفسي، فدفعته عني بقوة كانت كفيلة بإلتطويح به بعيدا، حين دنوت منه كان قد تمكّن من الجثوّ على ركبتيه، لم أملك نفسي ثانية، بادرته موبّخا:
ــ ان كان في المسألة " عجيب" و "مش معقول" فالعجيب و المش معقول هو أنت!
تجاهل عز الدين إهانتي، شرع يهزّني من طرف بنطلوني متوسلا :
ـــ أرجوك قل لي أي شيء... الا انها قد ماتت!
كان الذهول قد تملكني أنا أيضا، حين أرتفع من أقصى ناصية شارعنا منبّه شاحنة حبستها سيارتي.
لم تحل استغاثة الشاحنة الأسيرة بيني و بين الصياح في جارى:
ــ ستكون حقا "مش راجل"، و بدرجة امتياز، إن لم تكن بصدد أداء دور تمثيليّ سخيف!
كان جاري عز الدين شلبي يتطلّع نحوي و قد اتّسعت حدقتاه في هيئة من به مسّ من جنون، حين أردفت سائلا، وقد بلغ الغضب مني مبلغا عظيما:
ـــ ألم تكن تنتظر موتها؟
شرع يبكي بمرارة، ثم ردّ قائلا:
ـــ بلى
ـــ ...
كنت أتمنى موتها
سألته صائحا و قد نفذ صبري:
ـــ ما الذي دهاك إذا و قد تحقق ما كنت ترجوه؟
ردّ علي بين شهقات :
ـــ لكنني لم أعد أرجو موتها.
كنت أهمّ بالبطش به لولا مسارعته قائلا:
ـــ ليس لأنني أحبّها
ـــ ...
ـــ كما تصوّرت
ــــ ....
ـــ بل لأن موتها
ـــ ...
ـــ في هذا اليوم بالذات
ـــ...!!
ـــ سيكون أقبح و ألعن حدث في حياتي!
ـــ ...
كنت فاغر الفم من غرابة الموقف، حين بلغني صوت يتساءل ــ وقد كثر الناس حولنا ــ عن سبب تجمهرنا في الطريق العام، و آخر يسأل " من صاحب السّيّارة البنيّة؟" حين التفت ورائي رأيت شرطيا بالغ الطول يشير الى سيارة جاري، و آخر بالغ القصر
يتّجه نحوها.. كان جارى قد إستوى مترنّحا ثم معرّفا بنفسه، حين غادرت الجميع ميمّما وجهي أقصى الناصية الأخرى من الشارع حيث راحلتي..
اتفق رجوعي الى جارى و الشرط ، تقدم أقصر الشرطيّين الى كهل ذي بزة حسنة، حياه قائلا" سيدي العقيد، البلاغ صحيح، و جثة الطفلة موجودة في مكانها من سيّارة الجاني"!
ـــ 11 ـــ
ما حدث كان عجيبا و مؤلما و أكثر من ميلودرامي، لتجنب مزيد الإطالة أقول: حيال إنسداد كل أفق في حياة جاري عزّ الدين شلبي( خصوصا بعد قرار زوجته تطليقه) اختار حلاّ يائسا يكفل له الإنتقام المريع من زوجة سامته كل هوان و يجنب ابنته الضياع الحتمي و الألم النفسي لحرمانها منه الى الأبد، فقرّر إغراق فلذة كبده نكاية بأمّها!
كان جاري البائس عزّ الدّين شلبي في طريقه الى مفاجأة الأم،
و التشفّي بوقع الخبر الصّاعق عليها، حين صعقته بالبشرى المريعة!
وقد علمت فيما بعد، أن عاشقين مستترين عاينا جاري القاتل فيما كان يسحب غريقته من اليمّ،ثم يودعها مؤخرة سيارته، و قد سارعا ـ بفضل خدمات الهاتف الجوّال ـ الى التبليغ عنه في الحال.
المثير في القضيّة، أنّ موت البنت كان قد تمّ حسب تقرير الطبيب الشرعيّ، بعد ساعة واحدة من هلاك أمّ العقارب، أو ما يقارب!
أوسلو 25 / 4/ 2011
التعليقات (0)