يعيش بشار الأسد الآن واحدة من أصعب وأشد المحطات في حياته الرئاسية، بعد محطة ما بعد حادثة اغتيال رفيق الحريري و التداعيات التي أعقبتها، من توجيه الاتهام لسوريا من قبل المعارضة اللبنانية والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، و حتى فرض أمر واقع انسحاب الجيش السوري من لبنان، وإقامة محكمة ذات طابع دولي صودق عليها مؤخرا تحت البند السابع، و ما تلا هذه المحطة الساخنة من اغتيالات و تفجيرات و صدامات على الساحة اللبنانية، آخرها ما يجري بالشمال اللبناني بالنهر البارد تحديدا بين الجيش و منظمة فتح الإسلام،هذه الأحداث المتعاقبة التي استغلها فريق الرابع عشر من آذار و حلفاؤه الأمريكيون و غيرهم لتوجيه الاتهامات مجددا إلى سوريا بوقوفها خلف هذه الأزمة المفتعلة في نظرهم لتعطيل عملية تنفيذ إجراءات المحكمة ذات الطابع الدولي. وقد نجح النظام السوري في لعب ما لديه من أوراق بالمنطقة، إبان التداعيات التي أعقبت اغتيال رفيق الحريري، حيث أفلح في الخروج من عنق الزجاجة عبر الاقتراب من إيران التي كانت هي الأخرى في حاجة ماسة إلى تحالف إقليمي ولو مؤقت، هذا التحالف الذي احتضن انتصارين هامين مكن النظام السوري من خلط الأوراق مجددا، وهما "انتصار" حزب الله في حرب الصيف الساخن المنصرم على إسرائيل، وفوز حماس اللافت في الانتخابات الفلسطينية الأخيرة. غير أن النظام السوري الآن و أمام اقتراب إقامة المحكمة ذات الطابع الدولي، و ما تخبئه من مفاجئات قد تقلب الوضع بالمنطقة رأسا على عقب، وفي ظل انشغال الإيرانيين بالملف النووي جراء الضغوط التي تمارس عليهم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها؛ يجد نفسه وقد عاد لعنق الزجاجة مجددا. ولأننا نفضل الآن عدم الدخول في نقاشات من قبيل سؤال شرعية النظام السوري، وسؤال نتائج الاستفتاء الأخير على ولاية دستورية جديدة لبشار الأسد، الذي لم تخيب نتائجه آمال المراقبين للشأن السوري، حيث تجاوزت نتيجة استفتاء عام 2000 بفارق ضئيل جدا و هو 97,62 % مقابل 97,29 % في الاستفتاء الأول، فلأننا آثرنا عدم الخوض في مدى موائمة نص الدستور لتطلعات الشعب السوري وطموحاته المشروعة، و الذي يشرع لهذا النوع من الانتخاب المشوه لرئيس البلاد في غياب منافسة حقيقية له حول كرسي الرئاسة. بعيدا عن كل هذا الكلام، نود مقاربة الوضع السوري الراهن في ظل التطورات المتسارعة التي تشهدها المنطقة، حيث أن بشار الأسد صار يعيش على أعصابه مباشرة بعد إقرار المحكمة ذات الطابع الدولي، و بعدما حاول حلفاؤه بلبنان و لوقت طويل تعطيل المؤسسات الدستورية التي كان من اللازم أن يمر عبرها إقرار هذه المحكمة، لأن سورية معنية بشكل عميق بما ستؤول إليه الأمور بعد الكشف عن المتهمين الرئيسيين في "جريمة" اغتيال الحريري وانطلاق جلسات المحاكمة، والأحكام التي ستصدر في حق المتهمين. والأكيد أن بشار الأسد الملف يشتغل رفقة الماسكين بزمام الديبلوماسية السورية في كيفية تدبير هذا الملف العسير، الذي لم يعد من السهولة بمكان التحكم فيه بعدما سلمه السنيورة و حلفاؤه إلى مجلس الأمن؟ و كيفية التعامل مع مطالب المحكمة ذات الطابع الدولي إذا ما اقتضى الأمر توجيه الاستدعاء لبعض المتهمين النافذين في أجهزة النظام السوري. ليس هذا هو الملف الشائك الذي ينتظر بشار الأسد، بل هناك ملف الأرض والسلام الذي تحرك من جديد من خلال لغة الغزل المتبادل بين إسرائيل وسوريا، خصوصا بعد التسريبات التي تحدثت عن وجود اتصالات سرية بين الطرفين تمهد لمفاوضات مباشرة وعلنية يتم خلالها بحث تفاصيل الانسحاب من الجولان المحتل. لكن الإسرائيليين وفي أكثر من تصريح ربطوا الانسحاب من الأراضي السورية المحتلة بشروط يبدو تنفيذها أو عدمه حاسما أساسيا في نتائج المفاوضات التي قد تجري بينهما، وهي فض التحالف الذي أقامته سوريا مع إيران، و قطع الدعم عن حزب الله بلبنان و حركة حماس بفلسطين المحتلة. فبأي الخيارات سيضحي النظام السوري؟ هل سيختار استرجاع الجولان مقابل إعلان الطلاق من طرف واحد مع حليفته إيران و رفع يد الدعم عن حزب الله و حماس، أم العكس؟ و هل لسوريا شروط تمليها على الإسرائيليين كي تدخل قاعة المفاوضات؟ أم أن وضعها الحالي لا يمنحها القوة الدافعة لطرح أوراقها الرابحة على طاولة التفاوض؟ و هل سيستحضر الطرفين ملف اغتيال الحريري داخل ردهات التساوُم السياسي؟ و الملفت للانتباه أنه و في خضم استهلاك الآلة الإعلامية للتسريبات ذات العلاقة بالاتصالات السورية الإسرائيلية، يدخل على الخط "المعارض" "السوري"، الأمريكي، السعودي (سابقا)، فريد الغادري، هذا الاسم الذي تفانى بشكل لافت في ترجمة إخلاصه العمالاتي الرخيص للبيت الأبيض، فوجد نفسه بين عشية وضحاها زعيما مزيفا لحزب مزيف سماه "الإصلاح السوري" هذا الحزب الذي تأسس في أحضان وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وبرعاية مباركة من الرئيس بوش و المحافظين الجدد، جاء ليشغل مهمة البوق الإعلامي المعارضاتي الزاعم لانتماء سوري خادع، فاستغل أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ليصوب سهامه الخشبية لسوريا بنظامها وشعبها معا، حيث طالب جهارا بتحرير سوريا وتأمين حماية دولية للسوريين واستغلال الفرصة السانحة بوجود إدارة بوش والمحافظين الجدد، الذين يرى فيهم المثل الأعلى لتحطيم الدكتاتوريات، معتقدا أنهم حرروا العراق و جلبوا الديمقراطية إليه، حين قال في رسالة تهنئة بعث بها إلى الرئيس بوش بمناسبة إعادة انتخابه سنة 2004: "أن الشعب الأمريكي منح الثقة للرئيس الذي أعلنها حربا بلا هوادة على الإرهاب، حرر أفغانستان والعراق وقض مضاجع الدكتاتوريات، ويسعى حثيثا لتحقيق أمن وسعادة شعوب كثيرة من خلال شرق أوسط واسع وديمقراطي (...)عهد الرئيس بوش تميز بتقليم مخالب النظام البعثي من خلال إدراجه في قائمة الأنظمة الراعية للإرهاب، صدور وتفعيل قانون محاسبة النظام السوري، قرارات دولية بسند أمريكي لاستعادة استقلال لبنان وإنهاء الاحتلال السوري لدولة مجاورة، وتسمية المقدمات الموضوعية لإصدار قانون تحرير سوريا ومساندة القوى الديمقراطية السورية" في عز الجلبة الإعلامية حول وجود اتصالات سرية إسرائيلية سورية، طار فريد الغادري إلى تل أبيب للمشاركة في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي، وعنوان حاله يقول بقطع الطريق عن كل المساعي الرامية إلى جلوس السوريين والإسرائيليين على طاولة التفاوض، وهذا ما سبق أن صرح به علنا ضمن مقال نشره بصحيفة يديعوت أحرنوت العبرية، حيث دعا إسرائيل إلى " إجراء تغيير ساحق في سورية "، مطالبا إياها بالتواصل مع من أسماهم بـ" القادة الديمقراطيين السوريين " لتحقيق ما هو أفضل لإسرائيل، متعهدا بأن يزيل كل " المشاعر العدوانية "، ويعمل لاستبدالها بمشاعر " السلام والسكينة "، لأن " إسرائيل تستحق ما هو أفضل " في نظره. إن النظام السوري مطالب الآن بالتحرك على أكثر من جبهة، المحكمة الدولية، مفاوضات السلام والمعارضة، كما ينبغي عليه الحسم في علاقته بكل من إيران وحزب الله وحماس. لا تتناطح عنزتان في كون الموقف العربي الشعبي على الأقل يقف إلى جانب سورية العروبة ضد الاستهداف الخارجي الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية، لكن وفي الوقت ذاته لا يختلف اثنان حول ضرورة رص الصف السوري الداخلي و احتواء الفجوات وسد الثغرات التي قد يتسلل عبرها المخطط الأمريكي، وهذا يستدعي القيام بإصلاحات حقيقية وجذرية اقتصادية و سياسية و اجتماعية، تبنى على أساسها دولة الحق والقانون، لأن تقوية الجبهة الداخلية يمنح المناعة اللازمة لصد أي استهداف مستقبلي.
التعليقات (0)