برنامج دولة العسكر

     تشهد مصر منذ  تاريخ الثلاثين من يونيو حملة إعلامية غير مسبوقة، تجند لها إعلاميون وفنانون وسياسيون يحاولون تسويق صورة "عبد الفتاح السيسي" في ثوب البطل الذي تتحلق حوله جموع الشعب المصري، والذي يراد له أن يكون قائد البلاد في المرحلة المقبلة بعدما تمكن من إنهاء دولة "الإخوان"، وبالرغم من التأثير الواسع لهذه الحملة على سلوك الشارع وموقفه، فإن الوقائع تثبت أن مصر ماضية بثبات نحو إنتاج نفس الممارسات التي كانت سببا في ثورة 25 يناير 2011. وقد مثل منع بث الحلقة الأخيرة لبرنامج " البرنامج" للإعلامي "باسم يوسف" دليلا واضحا على فشل دولة العسكر في امتحان الحريات.

    السخرية اللاذعة التي ميزت حلقات البرنامج باستمرار منحت لصاحبه شهرة كبيرة، وجعلته يحصل على نسب مشاهدة واسعة، بل إن دوره كان بارزا جدا في تعبئة الشارع المصري ضد الرئيس  المعزول"محمد مرسي"، فقد كان هذا الإعلامي "أقوى" معارض لسياسات سلطة المرشد. ومع ذلك يحسب لمرحلة حكم الإخوان أنها لم تعرف منعا لباسم بالرغم من الجرأة الكبيرة التي ميزت كل حلقاته، حيث شكلت خطابات مرسي وتصريحاته وقراراته مادة ثابتة في البرنامج في كل حلقات الموسم الثاني الذي تزامن مع السنة التي حكم خلالها الإخوان مصر... وبسبب الشعبية الجارفة التي حصل عليها باسم يوسف، انتظر الجميع عودة البرنامج بعدما توقف منذ عزل مرسي، وكانت حالة الترقب قد بلغت أوجها مع بث الحلقة الأولى في الموسم الجديد، لكن ردود الفعل التي أعقبتها عبرت بوضوح أن مستقبل البرنامج في خطر، خصوصا بعدما تجرأ (ولو على استحياء) على السخرية من قائد الأمة الجديد " سي السيسي". وقبيل موعد الحلقة الثانية من البرنامج قررت القناة المالكة لحقوقه عدم بث الحلقة الجديدة بدعوى أن أسرة البرنامج لم تحترم الميثاق المبرم بين الطرفين. وواضح أن هذا التبرير ليس إلا ذرا للرماد في العيون، فالأمر أقوى من القناة نفسها، إنه قرار المؤسسة العسكرية التي نأت بنفسها عن الظهور إلى العلن في هذا الموضوع، لأنها تمتلك من داخل القناة من ينفذ رغبتها دون أن تبدو في الواجهة.

   سئل "شارل ديغول" مرة عندما كان رئيسا لفرنسا عن رؤيته الشخصية للديكتاتورية، فأجاب قائلا : " الديكتاتورية هي فرنسا بدون صحيفة لوكانار أونشيني.". والصحيفة المذكورة كانت معروفة بنقدها اللاذع لديغول الذي دأبت على تصويره بطريقة مضحكة في رسوماتها الكاريكاتورية. لذلك بدا الرئيس الفرنسي منزعجا من سلوك الصحيفة، لكنه يعرف حق المعرفة أن ذلك جزء لا يتجزأ من الحريات التي بذل الفرنسيون الغالي والنفيس في سبيل الحصول عليها عندما صنعوا ثورة 1789. ومهمته باعتباره رئيس الدولة هي حماية تلك الحريات لا مصادرتها... وهكذا مثلت حرية التعبير قطب الرحى في الدول الديموقراطية وشرطا أساسيا في احترام حقوق الإنسان، بينما تعودت طبائع الإستبداد في الأنظمة الديكتاتورية والشمولية على استقطاب جوقة المادحين والمتملقين للسلطان، في حين لا مكان للمعارضين والمنتقدين والساخرين والساخطين، ولا مكانة لهم. وهذا ما ينطبق على النظام السياسي العربي بشكل خاص. فبالرغم من مناخ الأمل الذي ساد عند شعوب المنطقة بعد إسقاط أصنام مصر وتونس وليبيا، يبدو أن الطريق نحو الإنعتاق مازال طويلا ومليئا بالعقبات والصعاب، ومازالت سلاسل القهر تعتقل إرادات التحرر.

  لقد أراد المصريون أن تكون "ثورة" 25 يناير إيذانا بعهد جديد يؤسس لقطيعة كاملة مع كل أشكال الإستبداد ويرسي قواعد الطريق نحو الديموقراطية المنشودة. وكان طبيعيا جدا في غياب الشرط الفكري والفلسفي الذي يؤسس لمفهوم الثورة أن تكون لحظة الولادة الجديدة عسيرة وقاسية. لكن مآلات الوضع المصري- مع عودة سلوك الحرس القديم إلى الساحة بقوة - أصبحت مقلقة، فها هي "أم الدنيا" أو "قد الدنيا"، تبدو اليوم عاجزة عن أن تكون حتى " قد" برنامج تلفزيوني.

       محمد مغوتي. 04 – 11 – 2013.