كنت قد تجاوزت الحادية عشرة من عمري بقليل. ذهبنا في زيارة عائلية للقرية التي شهدت مسقط رأس أمي، كما هي عادتنا كل سنة. وقد كانت العادة تفرض على الوافدين إلى القرية، اختصام حصة من "وقت الزيارة" لتفقد قبور الأموات والترحم على أرواحهم. وقد كان من ضمن النقط الرئيسة المبرمجة في جدول أعمال الرحلة، زيارة مقام أحد الأولياء الصالحين بالمنطقة، كي يبارك للزائرين مجيئهم و"يعشر خطواتهم"، كما يقال في لغة أهل البادية. وقد كان وقت الزيارة يطول أو يقصر، حسب طبيعة الغرض الذي جاء من أجله الزائر. فإذا كان غرض الزائر هو التخلص من مس من الجن أو من أجل إزالة النحس أو "تبييض السعد"، فإن مقامه قد يطول ويعمر أياما معدودات، إلى أن يطلق السيد "سراحه" بإشارة من عنده، دليلا على انفراج كربة الزائر، وتأكيدا على رضاه عليه، ومباركته لمسعاه وتحقيق مبتغاه. أما زيارتنا نحن فكانت مجرد زيارة مجاملة فقط، نجدد فيها فروض الطاعة والولاء لمقام السيد.. وهو ما لن يستغرق منا أكثر من يوم واحد.
ذهبنا رفقة إحدى القريبات وكانت حينها تبلغ الخمسين من العمر أو أكثر بقليل.. وإن كان من الصعب أن أجزم اليوم بدقة في تاريخ ميلادها، وكيف لي أن أعرف، وهي الأخرى لا تعلم علم اليقين متى ولدت.
كانت الطريق إلى المزار طويلة شاقة، وكانت قدرتي على التحمل تتضاءل كلما تقدمنا خطوات في الطريق، وكان أهل القرية يداعبونني لتشجيعي على الصبر والاستمرار. وفي الواقع، لم يكن لهم خيار غير هذا الخيار. فقد كانت الزيارة تقتضي أن يذهب الزائر راجلا، وألا يركب أية وسيلة، حتى لا يثير غضب السيد، وينتفع ببركته.
وصلنا الضريح بعد أن أخذ منا التعب مأخذه، فجلسنا نستريح. إلا تلك السيدة، فما إن دلفنا إلى داخل الضريح، حتى انفصلت عن الكوكبة، وارتمت بكامل قواها على قبر "السيد" لتمطره لمسا وتقبيلا، وهي تتمسح به وتناجيه بصوت غير مفهوم، عسى أن يحقق لها مبتغاها. وكانت دموعها تنزل مدرارا وهي تتضرع إليه بصوتها الأجش عسى أن تحظى بإلإشارة المعلومة من السيد.
"يا فرحتها، لقد تحقق لها ما تريد، فقد استجاب السيد وتحققت المعجزة على يديه المباركتين. وها هو ماء السيد "يفيض"، هكذا دمدمت إحدى القريبات، مخافة أن تثير شهية من كانوا بالضريح. كان الماء يتدفق زلالا رقراقا من جنبات الضريح. تهلل وجه المرأة، وبدأ الفرح يشع على محياها، بعد أن كان عبوسا قمطريرا. فبدأت المرأة بحركات جنونية، تمخض كلتا يديها بالماء المتدفق، وتمسح به وجهها ويديها.
دفعني فضولي الطفولي البريء لمعرفة مصدر هذه النعمة الربانية.. اتجهت خلسة صوب الجانب الآخر من الضريح. وكم كانت مفاجأتي كبيرة. فقد كان هناك طفل صغير يفرغ متانته غير عابئ بما يدور من حوله... داريت ضحكتي، وأنا أتطلع بإشفاق إلى المرأة وهي ما زالت تتلذذ بالماء المنسكب على جنبات الضريح.
التعليقات (0)