" اليوم مثل كل يوم...
أشياء كثيرة قد تغيرت، الدنيا نفسها صارت أمرا آخرا، صار لها بريق حزين في قلبي، ها أنا ذا أعيد رسمها في أقداح الجحيم الطافحة نارا...
هناك... حيث ينسل الموت على هون بكل جبروته المخيف، و لثماته القاتلة، مخلفا وراءه عطرا شبيها برائحة الفجر بين دروب أورشليم الضيقة، تنسحب في خط جميل يغطي عرض السماء بألوان قوس قزح الطفولية، مشكلة نصف دائرة امتزجت فيها آلاف الحماقات السرية، فراشات القدس و هي تبحث عن روح عزيزة تائهة وسط عرس من الذكريات العابرة بأديم المدينة القديمة، مدينة الله اليتيمة التي ماتت لآخر مرة، لتقوم من بقايا رمادها الأسود كطائر الفينيق الأسطوري، كلما جن الليل، أوقدت مدينة الأنبياء الخائفة من جراحها الخفية و صراخها المكتوم شموعها، فتغيب في عمق الألق الشفقي المتصاعد مع أخيلتها و أشباحها، ثم تذوب شيئا فشيئا منكفئة على عزلتها الأبدية في دجى الليل، و تتماهى مع الصرخات الكلية لتتحول بكل أساها إلى قمر حزين يرصد مآتي الأيام " تمتم حنا ثم صمت نهائيا، و اندفن في أعماق ذلك النور الذي يتسرب من الفجوة المتبقية من نافذة الطائرة، أغمض عينيه مرة أخرى، و تحسس السماعات في أذنه و الكراسة الوردية عند صدره، لينسى كل شيء، إلا ملامح وجهها الطفولية و عينيها المشعتين نورا قبل أن تنطفئا إلى الأبد، لم يسمع سوى ذلك الشجن المريب الذي كان يأتي من ذاكرة مبعثرة كان تملأ قلبه في شكل عويل منهك، صافيا كان نحيب مريم أو ماريا كما اعتاد مناداتها، يتدفق سريعا إلى شرايين الروح الباردة كالشفق في أطراف الأثير، ماريا التي كانت تملأه.
شيء من الرهبة يتملك جسده حين يسترجع ذكرياته الغابرة في سبل القدس و رنات ضحكاتها تخيم على المكان، أي شوق يتهادى ثملا؟ تساءل بصوت يكاد يسمع صداه، أي قلب يحترق الساعة نظير متعبد يتبرك عند لثم المذبح؟ فجأة امتزج أنين مريم الملائكي بأزيز الطائرة التي انطلقت على مدرج مطار جورسليم بسرعة كبيرة، قبل أن تترك الأرض المقدسة، و تنأى شيئا فشيئا في الوجوم الغريب، إذ تخترقه من آونة إلى أخرى ألوان القدس النيلية في ارتباك فتعكر همهم سكونه...
استقرت الطائرة في الفضاءات البعيدة، و غاب أزيزها المزعج، إلا أن صوت مريم و الذكرى التي خلفتها في كراستها الأخيرة كانا يعلوان على الأصوات كلها بألق و نعومة ضاحية، انطفأت أنوار ربط الأحزمة فعدل حنا قعدته مجددا كي لا يصحو من تلك الغيبوبة اللذيذة، ذلك الأنين المجروح الذي لا حد لشكواه و آهاته. هو يتذكر جيدا كيف فرقتهما يد القدر، ففي صبيحة ذلك اليوم المنتحب كانت الغارات الإسرائيلية تعوي كقطعان الذئاب، و تنهمر من الفضاء الأدهم على حارة النصارى، إذ اجتمع الناس في مستودع الكاهن بولس، هربا من الموت الذي كان يترصدهم في كل لحظة، ها هي ذي قاذفات العدو تغير على كروم الزيتون و التين حيث المقبرة العتيقة، أمواجا من نار يعقب بعضها بعضا، فتزلزل الأرض و تجرف المسامع و الأعصاب، و بينما القلوب كلها جزعة ترنو إلى ذلك الجحيم، إذ تسللت مريم من بين تلك الحشود الخائفة، و اقتربت من باب الملجأ و الدمع يراود خديها الورديتين كفجر لاح له طيف حبيبته بالمنام، فوضعت يدها على شعر حنا و قالت:" اقترب، اقترب مني يا حبيبي، قد آنت الساعة التي تفرقنا إلى أبد الدهر"، فصرخ قائلا:" ماذا تعنين بهذا يا ماريا؟ و أي ساعة تستطيع أن تفرقنا إلى الأبد" فأجابت:"الساعة التي فرقتنا بالأمس، ستفرقنا اليوم، القوة العمياء التي تخطف أرواح البشر، القوة التي صنعت الجحيم بيني و بينك، القوة التي رسمت آخر سيمفونية في كراستي هذه، هو الموت يا حنا، هو الموت..."، فسألها الفتى:" هل علم زوجك باجتماعاتنا، فصرت تخشين من سخطه و انتقامه" فأجابت و النار تتقد في عينيها المحدقتين إلى أعلى التل حيث الزيتونة القديمة: " ما يحدث تحت تلك الشجرة المقدسة يبقى هناك أمام هيبة الرب و الأجيال الخالدة، لا يا حبيبي لم تسأم نفسي من خمرتك، فطلبت فراقك لأنك كنه وجودها، و لا مل ناظراي من التحديق إلى جبهتك المثلوجة لأنك نورهما، لا تقدر الشفاه التي أخرسها الضيم أن ترتعش، و لا أوتار الحناجر التي أيبسها اليأس أن تهتز، فكل ما أستطيع قوله الآن، هو أن القضاء الذي جعلني من نصيبك، أثقل منكبي بقيود العبودية العوجاء، إني أخاف عليك من جواسيس بولس، فتستحيل الجدران التي تؤويك و السبل التي تمر بها، آذانا تسمع مداد أفكارك و أصابع تشير إليك بين الحين و الآخر، لم يبق أمامنا غير الوداع و الفراق ".
فأخذ حنا يدها إلى صدره و قال:"كفى يأسا يا مريم، كفى، منذ أن اجتمعنا حتى اللحظة و نحن نمشي وراء ظل العميان، و ننقاد إلى رياء الشياطين، فنريق دماء حبنا و ندى دموعنا على مذابحهم، مذ أحبتك نفسي و نحن بين يدي بولس يلعب بنا كيفما شاء، فهل نبقى خاضعين لإرادته، محدقين إلى ظلمة صرحه، منتظرين فتات غفلته، قد أحببتك يا مريم، و أحببتني كذلك، و الحب هي تلك النار المقدسة التي يودعها الله في كل قلب، فمن يخمد لهيبها بيده، يكون كافرا للسماء، هلمي يا محبوبتي نرحل من هذه البلاد، و ما فيها من الظلم و الجور و السهد إلى أرض بعيدة، لنحيا حياة جديدة يكتنفها الحب و الطهر و التفاهم الروحي..." فهزت مريم رأسها، و قد التصقت عيناها بما لا يرى، و بانت على محياها ابتسامة موجعة محزنة، و قالت بهدوء تام: لا يا حنا، لا، كيف لي أن ترك قدسي و أتبعك إلى أقاصي الأرض حيث التيه، كيف يطيب لي العيش في أحضان مدينة استحالت سجنا كبيرا بعد أحداث سبتمبر الماضية، القدس هي بداية الدنيا و سدرة منتهاها بالنسبة لي، هي صرخة الزمن، ذلك اللون الذي لطالما بحثت عنه في بياض لوحتي، شوقي المسروق عنوة، مدينتي الخائفة، طفولتي الجائعة و شبابي الآثم... قد سكن الموت روح فلسطين فشوه وجهها الناعم بقنابل النبالم، شوه القدس التي تشبه الهزيع الأخير من ليل البشرية.
شهوة دفعتني أمس لأن أسطر لوني الاستثنائي، لون أورشليم، خطوطها اللطيفة الرفيعة التي تحوي شجوني و أحزاني و حسرتي و وحشتي، فشكلها الغامض يذكرني بالموت الذي طفق ينفخ من روحه في، فيعيدني من التراب إلى التراب، هاك يا حنا، هذه كراستي الأخيرة في القدس العتيقة، شهوة منتهاي، كلماتي التي لم أجد الوقت الكافي لكتابتها من أجل حبك، قد دعتني السماء يا حبيبي، فدعني ألبي النداء"، وضعت مريم الكراسة الصغيرة بين يدي حنا، و من باب الملجأ كان يراها تبتعد، ثيابها الحريرية جرح تتسلل منه أمواج النور و الأوجاع اللذيذة، كالمجنون صاح بها ارجعي يا مريم، فالتفتت نحوه و ابتسمت ابتسامة مملوءة بالسخرية و الألم، و انبرت تدندن أغنية قديمة هي كل ما تبقى لها من ذاكرة مسروقة، ها هي ذي مريم تعانق الموت، تعانق الزيتونة العالية، ذكرياتها و حكايات عشقها الأول و الرسومات العابثة و صدى القبلات الحارة، و كأنها تروم إبعاد نار الشياطين عن آخر ذكرى لها، آخر عشق...
و فجأة، هوت مريم ممزقة الصدر، فهرع إليها حنا، و أمسكها في حضنه لكي لا يفقدها مجددا، و بصوت موجع يساوره الم الروح و الآهات المرة قالت:" اقترب مني يا حبيبي، اقترب مني، فقد خمدت ناري في هذا الظلام، ضمني إلى صدرك الحاني فقد انطفأ سراجي، ها قد أثقل الكرى عيناي، عانقني قبل أن يعانقني الموت، اسقي شفتاي رشفة من مدام قبلك، فقد غلب قضاء السماء على كل شيء إلا لثمتك، آه يا حبيبي ما أعظم المدينة الصامتة، آه ما أعظم قدسي... مدينتي المبنية على ركام أوجاعها، عالمي بأسره..."و انقطع صوتها، و بقيت شفتاها تتحركان، فاقترب منها حنا و قبلها قبلة عميقة خرساء، و في اليوم التالي شيعت مريم إلى لحدها ووريت فيه تحت شجرتها الأولى، أما عن حنا فإن جميع من عرفوا سره لم يجدوا له أثرا، فقد قيل أنه جن بعد موت حبيبة أيامه، و في رواية أخرى أنه توفي حسرة و ألما على فراقها، و لكن بالنسبة إلي و من أجل أن أخط في سماء قصتي لونا شفقيا ناعما، أحب أن أفكر أنه قد وجد السلام الذي يبحث عنه الكثير منا و لا يجده سوى القلائل، ذلك السلام السماوي، سلام الرب في أرضه، سلام القدس المسروقة...
التعليقات (0)