بذور نهاية الحلم الأمريكي . للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
في ظل انبثاق حركة سياسية لتفسير متطلبات الوجود البشري حسب أجندة الاحتلال القامع لمستويات الحرية المجتمعية العالمية نجد أن طبيعة الأنساق في بنية سياسات الهيمنة والتوسع قائمة على اجتياح منظومة الحلم البشري العمومي وإبادته.
ولم تكن حملات الإبادة والتطهير العِرقي عبر أطوار التاريخ إلا تياراً مؤدلَجاً ، لا يقبل القسمة على اثنين ، لأن مشروع الاحتلال شديد القطبية الجاذبة ، ويمتاز باستقطاب حاد للغاية .
فالإمبراطورياتُ التي تعاقبت على حكم كوكب الأرض تتأسس سياستها وفق منظور إدخال باقي الدول في فلك الولاء لها ، من أجل دعم المشاريع التفكيكية للمعارَضة بكل أطيافها ، وتكريسِ القبضة الحديدية النابعة من مصدرية استثمار المعاناة البشرية لتحقيق مكاسب مادية شخصية .
لكن الحضارات تختلف جيوسياسياً تبعاً لتعدد الأقطاب في العالم . فقديماً كانت إمبراطوريتا الروم والفُرس تتقاسمان النفوذ ضمن عالم ثنائي القطبية. وكذلك أمريكا والاتحاد السوفييتي . ومع مرور الزمن تكرست القطبية الواحدة وفق الشكل الأمريكي . ويمكننا تأريخ ظهور القطب الأمريكي الأوحد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ( 1991م ). لكن القطبية الواحدة لها مخاطر كثيرة للغاية.
يمكننا تلخيص مخاطر القطبية الواحدية المتمثلة في أمريكا كالآتي :
أ ) التجريد الموغل في تقديس الذات كسُلطة اعتبارية مطلقة تتقمص شرطي العالم وهذا جعل أمريكا في مرمى كل السهام وفق نقطة بؤرية مركزية واضحة للعيان ، وطبعاً هذا يحد من قوتها لأن الظهور يقصم الظهورَ، ووجودك ككيان واضح وعلني يعمل جهاراً نهاراً يسلبك القدرة على التنظيم والتنفيذ داخل التطبيقات الاحتلالية ، لأن من يعمل في السر أقدر على تنفيذ أعماله. وما الوجود الأمريكي العلني إلا وجود هدف علني واضح لكل أولئك الذين يجيدون تصويب السهام ، ولديهم مشكلة مع أمريكا يريدون تصفيتها مرتين ، أي تصفية المشكلة عبر تصفية أمريكا . والخطأ الإستراتيجي الخطير الذي ارتكبته الإدارات الأمريكية المتعاقبة يتركز في عدم تقدير ردة الفعل . وأدق مثال على هذا المبدأ هو ما قامت به أمريكا من دعم المجاهدين في أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي ، وبعد أن هَزَمَ الشيوعيةَ المجاهدون ، توجَّهوا للقضاء على أمريكا ، واتخاذها كعدو في مرمى النيران ، وصار يُنظَر إليهم كإرهابيين . فجاءت تفجيرات السفارات الأمريكية في أنحاء متفرقة من العالَم ، وأحداث 11/9 ، والغرق في مستنقع العراق وأفغانستان دون تحقيق النصر . والذي ينظر إلى مسرح الأحداث العالمي يجد أن الخاسر هو أمريكا التي تدفع الثمن من أعصاب شعبها ، وأموالِ دافعي الضرائب، وأرواحِ أبنائها القتلى، واقتصادِها المحتضر ، وصورتها السيئة ، في حين أن تنظيم القاعدة ليس لديه ما يخسره لأنه ليس دولة ذات سيادة على أراضٍ وممتلكات وموارد قومية ، بل هو منظمة لا مركزية أينما هَبَطَتْ قامت بأداء ما تراه صحيحاً ، مع أن استهداف المدنيين غير شرعي . ومهما تلقَّت "القاعدة " من ضربات فهي قادرة على بناء ذاتها لأنها خلايا نائمة لا مركزية ، ولا تنتظر قدوم أوامر من قيادات التنظيم ، بل إن كل عضو قادرٌ على إصدار أوامر ورسم سياسات وتحالفات لوحده دون الرجوع إلى النواة الأساسية . والجدير بالذكر أن تنظيم القاعدة صار فكراً متشعباً عند بعض المنظمات . صار مشروعاً حياتياً خلط الحابل بالنابل، وهذا أخطر ما في الأمر. فليس هو منظمة تقصفها بعدة صواريخ من طائرة بلا طيار ، وتعود فرحاً بأنك قضيتَ عليها . فالأمر ليس بهذه البساطة. فالقاعدة جيش من الخلايا غير نظامي يعتمد على تمويل ضخم لا يمر بالطرق التقليدية ، ولا يمكن محاصرته لأنه لا يملك= =معسكرات محدَّدة تقصفها وترتاح منها ، كما لا يمكن قطع المساعدات من البنك الدولي عنه على سبيل المثال، ولا يمكن وضع عقوبات من مجلس الأمن الدولي عليه. وهذه هي الصعوبة في الأمر لأن أمريكا تقاتِل شبحاً، تحارِب شيئاً كأنه بلا وجود حقيقي على أرض الواقع . وإنما تعرف بوجوده من خلال التفجيرات على مسرح الأحداث العالمية . كما أن تنظيم القاعدة استفاد_ مجاناً _ من حملة دعائية عالمية في كل وسائل الإعلام بشتى أشكالها ، فصار كالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس . وأنا على ثقة أن تنظيم القاعدة قد أخذ أكثر من قَدْره بكثير ، لكن الذي ساهم في ترسيخ صورته كتنظيم عابر للقارات هو أحداث 11/ 9 التي كانت_ رغم الإدانة الشديدة لها _ حدثاً أسطورياً سينمائياً استعراضياً وضع ابن لادن ومنظمته في قلب كل بيت على سطح المعمورة. لكننا نقول إن تنظيم القاعدة خلط الحق بالباطل نتيجة التأويل المشوَّش للنصوص الدينية المقدَّسة . والواجب علاج أفكار "القاعدة" المتطرفة بالحجة والبرهان لا السجون والتعذيب ، لأن الفكر لا يمكن مواجهته إلا بالفكر، مع التشديد على حُرمة استهداف الأبرياء . ونحن لا نشكِّك في نوايا أتباع القاعدة ، ولكنهم ضلوا الطريقَ . وكما هو معلوم فالنية الصالحة لا تصلح العملَ الفاسد . كما أن الطريق إلى جهنم معبَّدة بكثير من النوايا الحسنة .
ب) نجاح تنظيم القاعدة في استقطاب أمريكا إلى أفغانستان لكي يقوم بقتالها على أرضه ، وبين مؤيديه . وقد استمعتُ إلى مقابلة تلفزيونية مع عبد الباري عطوان رئيس تحرير جريدة القدس العربي اللندنية ، وهو من الأشخاص الذين قابلوا ابن لادن وجهاً لوجه ، فذكر عطوان أن ابن لادن قال له إنه لا يستطيع مقاتلة أمريكا في الأراضي الأمريكية ، وبالتالي سيحاول سحبها إلى أفغانستان ليقاتلها على أرضه وبين أنصاره . وهذا يعكس أبعاد المصيدة التي نصبها ابن لادن لأمريكا عن طريق استقطابها إلى الفخ ، واستدراجها إلى أرضه التي يعرفها شبراً شبراً لكل يقاتلها بكل تركيز .
ج) تصدع الحلف الذي تقوده أمريكا تحت مسمى"مكافحة الإرهاب" لأن الدول الأوروبية الشريكة في هذا المشروع اكتشفت أنها تورطت مع أمريكا ، فتنظيم القاعدة صار له فروع في عدة بلدان يصول ويجول فيها . كما أن الملابسات المحيطة بهذه الحرب رسَّخت لدى أذهان الكثيرين أنها حرب على الإسلام والمسلمين بالمقام الأول . فقد وجدنا الكثيرين من الأبرياء يُقتَلون على يد القوات الأمريكية بذريعة أنهم إرهابيون، وهذا زاد الكراهية لأمريكا في دول عديدة شرقية وغربية . كما أن هذه الحرب تم استغلالها للتضييق على الأقليات المسلمة في الغرب ، والتجسس عليهم ، ومنعهم من حقوقهم وممارسة شعائرهم الدينية ، والتطاول على مقدَّساتهم مع أنهم يعيشون في الغرب دون أية علاقة بتنظيم القاعدة . أضف إلى هذا أن صورة أمريكا في العالَم سيئة للغاية ، فهذه البلاد التي كانت تُقدِّم نفسها على أنها واحة الأمن والسلام والحرية وحقوق الإنسان نجدها قد أدارت ظهرها لهذه القيم ، فمعسكر غوانتانامو ضم الكثيرين من الأبرياء بلا محاكمة ، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته .
وتبادلية الاستقطاب تُفهَم من خلال المنظور النسقي التفجيري لخلايا اللغة العسكرية الخشبية التي تحكم مسار العقلية البوليسية للسياسات الدولية . فالوجود العلني الظاهري للقطب الواحد جعل أعداءَ الحضارة الأمريكية يُركِّزون في تحديد الهدف المعادي ( أمريكا ) بدقة ، دون تشتيت قواهم تجاه عدة أقطاب مبعثرين هنا وهناك .
وكما قلنا فإن وجودها كقطب أوحد علني جعلها مركزاً لتلقي سهام الجهات المناوئة لها بشكل مكثَّف ، لأن السائل كلما قلَّت كميته ازداد تركيز العناصر فيه ، وبسبب انعدام وجود أقطاب على مسرح السياسة العالمية صار تركيز استهداف أمريكا عالياً للغاية . ومع ازدياد التشظي في بؤر الصراع العالم ، وتأججِ الأزمات الداخلية والخارجية ، سوف يعاد تشكيل كوكب الأرض على صورة كيانات متعددة الأقطاب . وفي الجهة الأخرى لمبدأ القطبية نجد أن الجهات المضادة للاتجاه الأمريكي صارت هي الأخرى أقطاباً لها وجود فاعل، فتنظيم القاعدة صار _ بفضل معاداته لأمريكا_ قطباً عالمياً يتردد اسمه في كل العالَم بدون استثناء ، وكأنه قد حلَّ مكان الاتحاد السوفييتي . وبالتالي فإننا نخلص إلى نظرية تبادل القطبية وأبعادها النسقية وغير النسقية في خضم التأصيل الدقيق لخرائط السياسة العالمية المستندة إلى الاندفاع العسكري العنيف. وكلما تنافرت أقطاب الانتكاسة الجزئية في المشهد العسكري ، تجمَّعت تشكيلات أكثر حدة في التعامل مع هالة المتواليات المعرفية الدينامية ، إذ إن غياب البؤر الممزوجة بالمعنى الإنساني الحضاري يجعل من التحولات الهامشية تشكيلاً بصرياً عنيفاً يمتزج بانهيار الزمن الإمبراطوري العالمي ، وظهور أطوار زمنية جديدة تعيد تشكيلَ فكرة القطبية ، وتُنتِج نظاماً متوازناً بعض الشيء بين أقطاب متعددة ( الصين، روسيا، الهند، البرازيل، النمور الآسيوية، أمريكا ، أوروبا ) .
وفي ظل التعقيدات السياسية ستظهر نظريات جديدة تساهم في فهم الحراك الإنساني بكل تشعباته : السياسية والاجتماعية والاقتصادية . والأمرُ كلما ضاق اتَّسع، وهذا يُولِّد نظرياتٍ جديدة في المنهج السياسي.
ومن هنا تنبثق نظرية جديدة يمكن تسميتها " المنسي الدال على التمركز" ، وهي منهاج يتضمن ماهية المراكز والأطراف .
وهذه النظرية تتلخص في أنها تركز على العناصر المنسية العميقة ( الأطراف ) في الأنساق الفكرية للكتل المعرفية بغية الوصول إلى النقطة المركزية الأولية التي هي بمثابة النبع الأصلي ( المركز ) . وهذه النظرية تعتمد على قراءة التاريخ عبر تسليط الضوء على العناصر التي تم إقصاؤها في المسار التاريخي ، وترتيبِ التطبيقات وفق مبدأ منطقية أصل الأنوية. فنظرية " المنسي الدال على التمركز" تعتمد في وجودها النظري التأصيلي على عناصر فلسفية عميقة مُفَصَّلة نوجزها على النحو التالي :
أ ) التركيز على فكرة الإقصاء لتوظيفها من أجل الكشف عن العناصر المنبوذة _ عمداً _ والجهاتِ الواقفة وراء هذه العملية ، وهذا يعكس لنا عِلَّةَ النفي والإقصاء ، ومدى الأخطار المحدقة بالسياق الفكري ، والتي استلزمت إبعاداً من التكوين العمومي للمعنى. فأية جهة إنما تقوم بنفي العناصر وإقصائها إذا شعرت أن العناصر تُشكِّل خطراً عليها . وفي خضم ملاحقتنا لهذه العناصر المنسية _ عن سبق الإصرار والترصد _ نستطيع إقامة علاقات كاشفة تُوضِّح مدى خطر العناصر ، وأبعادها المؤثرة على مسار القوى الفاعلة التي أَقْصَتْها لتبعدها عن طريقها . ومن هنا تتكشف الخيوط الأولى التي تقود إلى واحدية المركز ( نبع النواة الأولى ). أما تطبيقات هذه النظرية في الأنطقة السياسية فتتركز على دراسة المسارات التي أَبْعَدَتْها الإمبراطورياتُ من طريقها، وقامت بتهميشها بشكل منهجي مبرمَج ، مما يدفع باتجاه فهم طريقة التفكير السياسي الإقصائي ، ونقاطِ القوة ، وبؤرِ الضعف ، وطرقِ التعامل مع العناصر المناوئة للاتجاه العام . وهذا يؤدي إلى فهم فلسفة بناء التعاملات الإنسانية التي تم تشييدها وفق تصورات الأدلجة الأحادية العابثة، وبالتالي معرفة الجهات الواقفة وراء عمليات الإقصاء ومدى قوتها ، والعلاقات المستترة الرابطة بين الجهات المخطِّطة والجهاتِ المنفِّذة .
ب) التراجع الواضح في مسارات رمزية النواة الحاملة لجيناتِ الفكر الموجَّه ،حيث إن تغييب الامتداد الرمزي للسياسات جعل الأداء الإمبراطوري فاقداً للغطاء الذي يُقَدَّم على أنه شرعي ، ويتم تصويره كنظام متواليات من هندسة هوية الشرعية المنطقية .
ج) تكريس الخديعة في أداء فلسفة السياسة ، حيث التبادلية العبثية بين المركز والأطراف، لكن السؤال الإشكالي الذي يطرح نفسه بقسوة : ما الدافع لقيام النظام الأيديولوجي بإجراء تبادلات شرسة بين المركز والأطراف ؟. الجواب : إن النظام الرأسمالي نظام متغير بصورة كبيرة جداً ، يشتمل على متواليات عنيفة جداً من الحراك الاجتماعي الطبقي، وانتقالِ الأموال ، والتحولاتِ الاقتصادية المسيَّسة، والتغيراتِ الجيوسياسية في التركيبة المعرفية ذات التطبيقات على أرض الواقع . فيدخل المركز والأطراف في دوامة تبادلية ، حيث يتم تبادل الأدوار داخل أطوار محددة وفق متغيرات السوق والعوامل المالية. وفي ظل الأزمة المالية الخانقة التي ضربت العالَم عموماً، وأمريكا خصوصاً في الربع الرابع من عام 2008م جرى تغيير جذري بالنسبة لتبادلية المركز والأطراف ، فأمريكا المركز ستصير طرفاً من الأطراف ، ويدخل الكوكب في عالَم متغير الأقطاب، خصوصاً مع الصعود القوي للصين والهند والبرازيل، واستعادة روسيا نبرة التمرد والمواجهة مع الغرب ( حلف شمال الأطلسي) خاصةً أن الترسانة العسكرية الروسية التي ورثت الاتحادَ السوفييتي ما زالت مصدر خطر وقلق بالغَيْن للغرب كاملاً. وستحدث تبادلية في المركز والأطراف لتنشأ حالة جديدة من استقطاب المركزيات ، وصيرورة الأطراف إلى مراكز ضمن منظومة المراكز مع حِراك اجتماعي شامل لعناصر السياسة والاقتصاد والقوة العسكرية . وحريٌّ بنا أن ننتبه إلى أن النظام الرأسمالي _ رغم انفتاحه الكبير واعتماده على اقتصادِ السوق المتغير في كل لحظة _ هو نظام مغلق إذا نظرتَ له من الجانب الآخر، لأن الرأسمالية مع دوران محرِّكاتها وأفلاكها بشكل سريع للغاية مكرِّساً عصر السرعة الإلكتروني العنيف فإنها تقترب شيئاً فشيئاً من النواة المركزية بفعل الفقدان الهائل لطاقتها الحركية، وهذا سيجرح النظامَ الرأسمالي بشكل شديد، فيبدأ النزيف المجتمعي في التداعي، وهذا ما حصل في أمريكا في أواخر عام 2008م . حيث ارتفعت نسبة البطالة بصورة كارثية ، وتلاشت مئات آلاف الوظائف ، وازداد الفقر ، وازداد عدد المعتمدين على المساعدات الحكومية ، وبدأ النسيج الاجتماعي يتفسخ. وهذا ليس غريباً لأن النظام الرأسمالي في جانبه الخفي نظامٌ مغلق تماماً لأنه يعمل على تكديس الثروة في يد طبقة محددة من المجتمع الذين يملكون أساليبهم الخاصة في استغلال نفوذهم لجمع أكبر قَدْر ممكن من المال بالطرق المشروعة وغير المشروعة ، مما يحرم باقي طبقات المجتمع من حقوقها. ومع تجمع الثروة في يد طبقة صغيرة متنفذة في المجتمع دون وصول الامتيازات والمكاسب إلى العامة سيحدث شرخٌ خطير في التركيبة الاجتماعية للطبقات ، فيولد مجتمع الكراهية والحقد والشطط الطبقي ،حيث التفاوت العنيف بين المجتمعات الداخلية يصير واضحاً ومثيراً للضغائن . فمثلاً هناك ولايات أمريكية غنية تعتمد على الصناعات المتقدمة تكنولوجياً وهي العمود الفقري لاقتصاد أمريكا ، وهناك ولايات فقيرة ما زالت تزرع القطن وبعض المحاصيل، وذات إنتاجات زراعية متواضعة. وهذا سيصنع نظاماً إقطاعياً طبقياً عنيفاً قد يقود إلى استعادة ذكريات الحرب بين الشمال والجنوب التي أكلت اليابسَ والأخضر. وقد تنشأ حروب مستقبلية بين الولايات ضمن الصراع على المصالح والامتيازات والمواد الخام . ولعبة تبادل الكراسي بين المركز ( المراكز ) والأطراف إشكالية عظمى، ولعبة مميتة ستفضي مع مرور الوقت إلى حالة من الغبش الأحادي الفاقد للسيادة على مكوِّنات أنساقه، خصوصاً أنساقه الخارجية ذات الصبغة الغارقة في عقلية الاحتلال وأماكنِ النفوذ والثروة والمواد الخام والأسواق ، التي كانت تنتهجها الدول الاستعمارية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين. لكن الحقيقة أن أمريكا ذات خبرة متواضعة في الاحتلال . وهي بالطبع في هذا المجال أقل ذكاءً بكثير من بريطانيا وفرنسا اللتين تمتلكان تاريخاً حافلاً في الاحتلال . ومشكلة أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية أنها تعرف كيف تدخل حرباً ، لكنها لا تعرف كيف تخرج منها، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على لحظة تهور مندفعة للسيطرة على النفط والموارد والمواقع الجغرافية الحساسة دون التفكير في ثمن هذه المغامرات .
لكن الإشكالية الحقيقية في التركيبة السوسيولوجية المجتمعية في أمريكا ، هي عدم وصول الفرد الأمريكي إلى الوعي الكامل لفحص أداء حكومته وسياساتها العاجزة . فالأزمات على جميع الأصعدة تتوالى على أمريكا منذرةً بأخطار جسيمة محدقة ، ليكتشف المجتمعُ الأمريكي أنه هو المحاصَر لا المحاصِر .
وهذه الملابسات الخطيرة لعملية التراجع القاسي في مستويات القوة في الداخل الأمريكي انعكست سلباً على سياسة الهيمنة الخارجية. وصارت الإدارات الأمريكية المتعاقبة مجرد حكومات تصريف أعمال ، تعمل على ترحيل مشاكلها إلى القادم بعدها ، مثل الطبيب العاجز عن معالجة مريضه فيخبره بأن دوامه انتهى، وسيأتي طبيبٌ آخر بعده لكي يعالجه ، وعندما يأتي الطبيب الآخر يعيد سيناريو الخديعة، لكن الوقت يداهم المريض ، ويصبح الانتظارُ مسماراً في نعش المريض الذي يدفع الثمنَ غالياً من أعصابه وعمره .
وسياسة ترحيل الملفات بين الإدارات المتعاقبة هي سياسة متبعة لأن التصدعات في بنية التركيبة الجيوسياسية في أنظمة العولمة ( الأمركة ) سرعان ما تطفو على السطح حاملةً معها انكسار المجتمع في مجالات دينامية التفتيت الاجتماعي لانعدام شرعية الوجود المتجانس . فأمريكا أشبه ما تكون بسلة تحوي كل الأصنافِ دون وجود رابط حيوي وحقيقي بين تلك الأصناف .
وبالطبع فإن مصطلح " الأُمَّة الأمريكية " الذي يُسمَع هنا وهناك ليس بأكثر من وهم طبقي تركيبي مكشوف للجميع ، لكنه يُستخدَم كدعاية براقة تحاول إبراز وجه مشرق لحالة افتراضية خيالية ، من أجل إظهار هذه الإمبراطورية التجميعية وكأنها مجتمع متجانس متراص ومتماسك في وجه التحديات، وهذه دعاية إعلامية لا أكثر ، تقوم بتصوير الشروخ في جذور بنية التكوين المجتمعي الأمريكي وكأنها مجتمع التعدد والتنوع المصهور في بوتقة واحدة متماسكة أمام الأحداث الجسام.
ومن هنا نكتشف أن تعريف " الأُمَّة" لا ينطبق على المجتمع الأمريكي الذي هو في واقع الأمر مجموعة مجتمعات وأمم موجودة لتحقيق مصلحة مادية باعتبار أن أمريكا يوجد فيها فرص عمل ، أو كان يوجد فيها فرص عمل وأحلام وثروة ومجد وتقدم . فبات الأمرُ شبيهاً بمجموعة من البحارة الذين ركبوا سفينةً لا علاقة لهم بها من قريب أو بعيد ، فقط من أجل الحصول على مكاسب مادية بحتة ، وحينما تبدأ السفينة في الغرق فإن كل بحار سيقفز منها وينجو بنفسه بحثاً عن مشروع استثماري آخر ، ولن يفكِّر أحد ما في إنقاذها لأنها لا تخصهم نهائياً . وهذا هو الأمرُ المضحك المبكي .
وأمريكا هي السفينة التي جمعت هؤلاء الأضداد فقط لأنها مشروع استثماري مربح ، أو بالأحرى كان مربحاً مادياً فقيراً روحياً ، ومع ظهور بدايات التصدع ، في هذه السفينة سوف يتركونها تغرق وينجو كل واحد بنفسه ، وهذا بدأ يحصل الآن من قبل كثير من الفئات .
إن عمر أمريكا كقطب أوحد أقل من عشرين سنة ، وقد بدأت تترنح بشدة جراء تكالب الأزمات عليها ، كالأزمة المالية العنيفة( الربع الرابع 2008م)، والهزائم العسكرية في العراق وأفغانستان في مطلع القرن الحادي والعشرين ، والمصاعب الاقتصادية في الداخل من حيث انهيارات الصناعات ، وفقدان فرص العمل ، وازدياد معدلات البطالة ، وانتشار الجريمة ، وتفكك النسيج الاجتماعي .
وهذا يدحض ما ذهب إليه بعض المفكِّرين المبتدئين من أن أمريكا هي الخاتمة للتاريخ ، وأنها الحضارة السائدة حتى نهاية العالَم . لكن العصر الإلكتروني السريع جداً لا يحمل معه علامات التقدم السريع ، والظهور الإمبراطوري الصاعق، وسرعة نقل المعلومات ، والتغير في نقل مراكز الثروات والأموال فحسب . فهو يحمل أيضاً السرعة في الانهيار والسقوط، وفقدان مراكز الثقل ، وصعود دول وسقوط دول .
فالعالَم أضحى كالدوامة في سرعة دورانها وجذبها وتدميرها. فأمريكا بعد أقل من عشرين سنة _ كقطب أوحد_ ها هي تعاني صعوباتٍ جمة تؤثر على مركزها كقطب أوحد، حيث إن سرعة التغيرات في النطاق السياسي يشتمل على اتجاهاتٍ تدميرية عنيفة من ناحية شدة التأثيرات المناوئة للإمبراطورية الأمريكية ، حيث تتزايد عوامل الحت والتعرية التي تقف سداً منيعاً أمام توغل هذه الإمبراطورية .
والعناصر المكوِّنة لتعريف سرعة التغيرات في النطاق السياسي تتمحور حول نقطتين رئيسيتين :
أ ) جدلية المركز والأطراف تختلط بشدة في مركز تكون الدوامة الحضارية التي تعمل على تجريد مستوياتِ المعرفة الإنسانية من امتدادها الطبيعي ، والحيلولة دون نمو إمبراطوري متواصل في الصعود والسيطرة والهيمنة . والانكسار المعنوي في صعود الحضارة المادي يتركز في غياب الطاقة اللازمة لإمداد البنية بالتأسيس الفكري الخلاق، وهذا يدفع باتجاه تكوينات أكثر حدة وشراسة في التعامل مع هذه الانعطافة التاريخية التي من شأنها تجريد أمريكا من عرش القطبية الوحيدة ، وجعلها قطباً ضمن عدة أقطاب .
ب) قيام الإدارات الأمريكية بمغامرات غير محسوبة على الصعيد العسكري والمالي أوجدت بنيةً تحتية لانتكاسة المتواليات التكاثرية للحلم الإمبراطوري التوسعي الاحتلالي بفعل غياب الغطاء الواعي للقدرة الحالمة على الديمومة.
فهذه الانطلاقة العنيفة في الصعود والتمدد لم يرافقها غطاء أخلاقي مشتمل على العناصر الروحية والمادية من شأنه حمايتها من التفسخ . فحصل المحظور ، مما أدَّى إلى تبعثر الجهود وتفرقها على أكثر من صعيد، ولا يمكن لأمريكا أن تفتح أكثر من جبهة للقتال ، فقواتها العسكرية منهكة للغاية ، ومتفرقة في قواعد عسكرية مشتَّتة في أصقاع الأرض . كما أن زيادة عدد الطباخين الملتفين حول نفس القِدْر سيؤدي حتماً إلى فساد الطعام ، وهذا ما يحصل الآن في العالَم .
فلم تكن أمريكا في يوم من الأيام إلا بيئةً اصطناعية ذات صبغة استثمارية ميكانيكية ، وتعاني من غياب جذور حضارية حقيقية تشتمل على الروح والمادة ، وفقدانِ الهوية المتجانسة المتحدة في سياق ثقافي واحد ، وتآكلِ البنية الاجتماعية ، وضعفِ حركة الوحدة الشعبية .
لذلك فإن التماسك المعنوي المعرفي غائب بالكلية عن أمريكا التي نشأت كبيت زجاجي اصطناعي موجود لأداء أهداف مادية بحتة، وإذا زالت هذه الأهداف المادية ذهب المستثمِرون إلى بيئة استثمارية مربحة أخرى بحثاً عن المال .
من العبارات السائدة أن رأس المال جبان. وهذه العبارة تعني أن المستثمِر _ في هذا العصر المادي الانعزالي على مستوى العاطفة الشعورية _ يهدف إلى الربح قبل كل شيء ، فإذا شعر بأي خطر يهدد مسار أرباحه فإنه سرعان ما يبحث عن مكان آخر فيرحل إليه خوفاً من خسارة أمواله ، لأن شدة الحرص على الشيء تُولِّد في الذوات البشرية وسواساً يتمحور حول ذلك الشيء الذي يُعَضُّ عليه بالأسنان والأظافر . فيصبح الإنسان عبداً في مواجهة المال الذي صار سيداً . وهذه حالة فريدة في التكوينات النسقية المعرفية ، لأنها تعني أن السيد يصنع بيديه سيداً عليه، فيصبح الأول عبداً والثاني سيداً. وإذا حصل خطر على الأداء المالي الأمريكي فإن هروب رؤوس الأموال من أمريكا سيصبح سمة العصر الحالي ، وهذا ما سيضاعف شراسة العد التنازلي للإمبراطورية الأمريكية . ونحن لا نعني بهذا السقوط أن تصير أمريكا من دول العالَم الثالث، بل هي دولة قوية جبارة، لكنها فقدت ذراعَيْها في حادث سير،فما زالت تأمر وتنهى، لكنها أُصيبت بمرض متجذر، وهذا ما سيجعل الدول الصاعدة تؤسس عالَماً متعدد الأقطاب، لا عالَم التابع والمتبوع .
وفي ظل تكاثر الأزمات الأمريكية وتحدياتِ الهوية ، فإن أعداء أمريكا _ وعلى رأسهم تنظيم القاعدة _ سيعملون على إسقاط أمريكا بسرعة ، وتفعيلِ الخلايا النائمة لضرب الأهداف المنتقاة _ المدنية والعسكرية ، وتفتيتِ أذرع الإدارة الإمبراطورية عبر تكريس الحرب الاستباقية .
إن تنظيم القاعدة يؤمن أن الحوار مع أمريكا مضيعة للوقت، لاعتقاده أن أمريكا خصم يتقمص دور القاضي ، ويحمل فكرةً مسبقة ثابتة يتخذها مُسلَّمة إستراتيجية لحماية أمنه الوطني غير قابلة للتغيير . لذا تقوم فلسفة "القاعدة" على تجذير الحرب الاستباقية عبر التركيز على صيغ الأهداف المختبئة وراء التحركات العسكرية الأمريكية، ومحاولة التصدي لها في عقر دارها، قبل أن تتشظى في أنحاء العالَم ، فخير وسيلة للدفاع الهجوم ، وخير وسيلة للتصدي للحرب الاستباقية الأمريكية هو إشغال أمريكا بحرب استباقية مضادة تكون الفعلَ لا رد الفعل ، وعندها ستتخبط إستراتيجية أمريكا المخطط لها مسبقاً في مواجهة عناصر المفاجأة والفاعلية الاستباقية، مما يحشر أمريكا في زاوية رد الفعل لا الفعل، وإذا وصلت الإمبراطورية الأمريكية إلى هذا الأداء المرحلي فستكون رقماً سهل التجاوز ، وورقةً متآكلة في مهب الريح ، ريحِ المقاومة والتغيير والمباغتة ونقل المعركة في عقر ديار التخطيط الإستراتيجي لخطط الاحتلال الأمريكي . وهذه هي الخطة الإستراتيجية الثابتة لتنظيم القاعدة .
http://www.facebook.com/abuawwad1982
التعليقات (0)