باستعراض الأسماء المعلنة للإرهابيين المطلوبين والمحبوسين والذين يقعون صرعى العمليات العسكرية يتلاحظ أن غالبيتهم ينتمون للقبائل السيناوية المعروفة، ويؤكد ذلك أن أسماء القتلي الثلاثه من جماعه انصار بيت المقدس الذين لقوا مصرعهم بغاره جوية مؤخرا ينتمون الى قبائل المنيعى والخرافين والبعيرة، وهى من أشهر قبائل شمال سيناء. وقد أزعجت هذه الملاحظة الكثير من الغيورين على أمن الوطن ومستقبله، واعتبروا ذلك إختراق لولاء بدو سيناء للأمة وللدولة المصرية، وأجتهد المهتمون فى البحث عن أسباب تأييد قطاع كبير من بدو شمال سيناء للجماعات الإرهابية وتجنيد عدد كبير من أبنائهم ضد أمن وسلامة الوطن. وأعتبر الكثير منهم أن هذه الحالة نتجت عن شعور البدو بظلم وإهمال الدولة لهم واتباعها لسياسات قاصرة تفتقد لأى افق تنموى.
فى تقديرى أنه لا يمكن معرفة أسباب ودوافع سلوكيات بدو شمال سيناء بمعزل عن دراسة تاريخ وحاضر نشاطهم الإقتصادى وثقافتهم وموقفهم من الدولة. ولنبدأ منذ استيطان البدوالعرب سيناء عندما تخلفت بعض فروع وبطون القبائل العربية اثناء غدوها ورواحها غرب آسيا وشمال افريقيا فى العصور الإسلامية المختلفة. ( مجلة العرب ج8،7ص29، محرم/صفر سنة 1415ه ).ولما كانت شبه جزيرة سيناء تقع بين قارتى آسيا وافريقيا فقد كانت ممرا لقوافل التجارة البرية بين غرب آسيا والجزيرة العربية من جهة والبحر الأحمر وشمال أفريقيا من جهة ثانية، وطبوغرافيتها تتكون من جبال يصل إرتفاع بعضها إلى 700 - 800 متر تتخللها أودية عميقة تتجمع فى بعضها مياة الأمطار، كما تتخللها مساحات من الصحراء المستوية والكثبان الرملية. أمتهن غالبية سكانها البدو من الرجال القتال، سواء لحماية أو نهب( حسب الأحوال والأهواء والمصالح ) القوافل التجارية وقوافل البريد، وطريق محمل الحج المصرى ( الذى لم يكن ليخرج بالمصريين و حسب بل كان يصحبه سائر الحجيج من بلاد المغرب الإسلامي بما فيه الأندلس و بلاد إفريقيا أو القادمين عن طريق البحر من البلاد العثمانيه شرق أوروبا، و كان كثيراً ما يأتي أمراء و ملوك تلك البلاد قاصدين الحج فكانوا جميعاً يجتمعون بالقاهرة ويلتحقون بالركب )، وكان البدو متغيري الإنحيازلأطراف النزاعات والحروب التى يكون ميدانها سيناء، فقد انحازوا للصليبيين والفرنسيين والعثمانيين وخاضواحروبا طاحنة مع ضدمحمد على، وكثيرا ماتغير ولاؤهم لأحد الأطراف المتنازعة على السلطة من سلاطين وامراء وولاه، كما كانوا يقومون بقيادة القوافل التجارية فى دروب غيرمأهولة للتهرب من سداد الرسوم للدولة. وتذكركتب التاريخ على مدى ألف عام كثيرا من هذه الوقائع ويمكن الاطلاع على بعضها فى تارخ الجبرتى، وعلى الرابط التالي:
وظل بدو سيناء يمارسون هذه الأنشطة إلى أن فقدت الطرق البرية مكانتها وتحولت طرق التجارة والبريد والحج الى الطرق البحرية والجوية. وعاشوا أوقاتا صعبة منذ تولى محمد على حكم مصر،حيثحاول توطينهم ودمجهم فى الدولة، حتى جاءت لهم الحرب العالمية الأولى بهدية من السماء إلا وهى هذا الكم الهائل من الأسلحة المتخلفة عن الحرب بصحراء سيناء، ومن يومها وحتى حرب 1973 كانت سيناء ميدانا لثمانية حروب خلفت ورائها كميات هائلة ونوعيات متعددة من السلاح مما أتاح للبدو امكانيات كبيرة للإتجار فيه وتهريبه.
خلال العقود الثلاثة الأخيرة حدث عدد من التطورات السياسية المحلية والإقليمية والعالمية كان لها انعكاسات قوية على حياة البدو فى المناطق المتاخمة لإسرائيل يمكن إجمالها فى: مانتج عن اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية من تقليص تواجد قوات الجيش والشرطة وخاصة فى المناطق المتاخمة لإسرائيل، مما أدى إلى غياب سلطات الدولة وخفه قبضة يد الداخلية عن البدو؛ توجه الجماعات السلفية منذ منتصف التسعينيات إلى البوادي المصرية لنشر دعوتهم على أعتبار إنها بيئة فطرية صالحة لتلقى الدعوة، مستعينين فى ذلك باموال الصدقات والذكاة الآتية من اثرياء وأمراء وكيانات ودول الخليج والتى تقدر بمليارات الدولارات فى ظل موافقة وتشجيع الدولة؛ شيوع عمليات الهجرة لأفريقيةغير الشرعيةلإسرائيل والتى تعدت مائة الف مهاجر فى العقد الإخير؛ سيطرة منظمة حماس على غزة عام 2007 وتحولها إلى ملاذ آمن للمنظمات المقاومة والجماعات الإرهابية، وإغلاق الميناء والمطار وعدم انتظام العمل في المعابر بين قطاع غزة وكل من إسرائيل ومصر واستبدال تلك المنافذ بإنشاء حوالى 2000 نفق تحت الإرض أسفل خط الحدود مع مصر؛ سيطرة جماعات الإسلام السياسى على المجتمع والسلطة السياسية فى مصر على أثر ثورة 25 يناير؛ الانتشار الواسع لتجارة وتهريب السلاح فى المنطقة على أثر ثورات الربيع العربى. هذة التطورات وتشابكها وتفاعلها مع بعضها البعض نتج عنها تحول نوعى فى أنشطة وحياة سكان شمال ووسط محافظة شمال سيناء فى مراكز العريش ورفح والشيخ زويد، فبعد أن كانت تتحلق حول طرق القوافل البرية تحولت إلى أنشطة مختلفة نوعيا تحقق عوائد هائلة ومخاطر محدودة فى ظل غياب الدولة وتهاون اجهزتها. من أهم هذة الأنشطة تهريب الأفارقة إلى إسرائيل، وتهريب كافة أنواع السلع (بما فيها السلاح والوقود والسلع المدعمة وعربات الشرطة والأهالى المسروقة ) إلى غزة، والتوسع فى زراعة وتهريب المخدرات إلى الوادى، وإدارة عمليات حفر وحماية وتشغيل الأنفاق وجباية الرسوم من مداخلها التى تكون عادة فى باحات منازلهم. كما انخرط شباب البدو فى عضوية الميلشيات المسلحة ذات التمويل الفلكى التى تكونت بتأثيرالدعوة السلفية القادمة من الوادى، وتعضت على أيدى الجماعات الإرهابية القادمة من غزة عبر الأنفاق، وأكتسبت المشروعية برعاية الإخوان المسلمين وحلفائهم السلفيين الدعويين والجهاديين الذين سيطروا على المجتمع والدولة.ووجدت فى هذه المنطقة ملاذا آمنا وبيئة حاضنة وماعونا للتجنيد وغطاء سياسىا.ويتساءل كثير من المهتمين بمستقبل الوطنحول من المسؤل عما وصلت إليه الأحوال.هل هي المؤامرة العالمية التى تستهدف إسقاط مصر؟ أم هى إسرائيل؟ أم الدولة التى لم تنم سيناء ولم تحتض البدو وتعمل على حل مشاكلهم؟.أم أن السبب هو هؤلاء البدوالملاعين؟!!
فى تصورى أنة لم يكن ممكنأً لأى من هذة الأطراف التى شملتها هذه التساؤلات إن تتمكن من تحقيق أى شئ مما يجرى فى سيناء الآن، لأن التطورات التى حدثت على أرض الواقع هى التى أوصلتنا لما نحن فيه . فهذه التطورات المتلاحقة التى أدت الى هذا التغير العميق فى حياة بدو شمال سيناء والذى توج بتشكل تلك المنظمات الإرهابية، قد تطور بشكل طبيعى بالتزاوج بين الثقافتين البدوية والسلفية. فالثقافة بمعناها الواسع تشتمل على العقائد والمسلمات والتقاليد والعادات أى طريقة حياة الفرد والمجتمع، وبهذا المعنى فإن الفرد فى ثقافة بدو الصحراء لايعطى ولاءه الاجتماعى والسياسى إلا للقبيلة، ولايعطى ولاءه لأى منظومة أخرى كالدولة مثلا، وهو لايحترم القوانين المدنية التى تفرضها الدولة " أى دولة "، ويعتبرها قيود على حريته، والمجتمع البدوى لايدين أويجرم كثيرا من الأفعال التى يجرمها القانون مثل رفع السلاح فى مواجهة الدولة وعدم الانصياع لأحكام محاكمها،والتهريب والإتجار بالسلاح وزراعة المخدرات وتجارتها ( لدرجة ان الإعلام كان يطلق على النواب السيناويين فى وقت ما نواب الكيف ). وفى الثقافة البدوية تستمد الأفعال مشروعيتها بقدر ماتحققه للفرد من مصلحة وعدم مخالفتهالعقيدة المجتمع وتقاليدة. وقد اعترفت الدولة فى مصر منذ القدم وحتى الآن بمجالس البدو العرفية وبأحكامها. وقد تلاقت هذه الثقافة فى جوانب كثيرة منها مع الثقافة السلفية التى تعتبر الإسلام دين الفطرة التى وجدوها لدى البدو وجمعهم العداء المشترك للدولة الحديثة. وتمكن السلفيون فى كافة البوادى المصرية من إحلال المحاكم الشرعية محل المجالس العرفية. وتبوأ شيوخ السلف مكانة شيوخ القبائل مع الاحتفاظ للأخيرين بسلطة شكلية. وفى محافظة شمال سيناء، التى تبلغ مساحتها حوالى22ألف كيلو متر مربع واجمالى عدد السكان 339752نسمة يبلغ تعداد الحضر حوالى 205291 بنسبة 60% تقريبا، بينما يبلغ تعداد سكان البوادى حوالى 134,461 وذلك وفقا لتعداد 2006 يعيشون فى 6 مراكز إدارية هى العريش - رفح - الشيخ زويد - بئر العبد - الحسنة – نخل . وفى مراكز العريش ورفح والشيخ زويد التى تقع بالشمال والوسط يمتهن غالبية رجالها وشبابها أعمال تتطلب حمل السلاح ( كما فصلنا آنفا ) وأعتادت رفعه فى وجه السلطات. هذه المنطقة التى سبق أن زرع فيها السلفيون الأفكار الدينية المتطرفة منذ منتصف التسعينيات،وجد فيها الإرهابيون ضالتهم المنشودة لتأسيس إمارتهم الإسلامية والعبث بمقدرات الوطن.
وفى تقديرىأنه بعد أن تمكنت الدولة من تدمير غالبية الأنفاق وتحويل المنطقة من ملاذ آمن للإرهابيين إلى منطقة عمليات عسكرية خطرة، كما تمرفع الغطاء السياسى الذىكان يوفره لهم الإخوان المسلمين وحلفاؤهم،يتبقى على الدولة للتمكن من القصاء على الإرهاب فى سيناء أن تعمل على حرمان الجماعات الإرهابية منالبيئة الحاضنة وماعون تجنيد الإرهابيين الجدد وكذلك ضمان التحرك الكفؤ بميدان العمليات دونتعريض المدنيين للخطر. ولن يتأتى ذلك من دونتهجير بدو العريش ورفح والشيخ زويد( وعددهم لايتجاوز مائة الف نسمة ) إلى أماكن مناسبة لهم ومريحة، إلىحين القضا ء على الإرهاب وإعادتهم إلى أماكنهم بعد إعادة تخطيط وتعمير المنطقة، وللدولة تجربة ناجحة فى اوخر الستينيات أثناء حرب الاستنزاف عندما قامت بتهجيرأكثر من مليون نسمة من سكان مدن القنال وإعادتهم بعد تعميرها.
التعليقات (0)