" عندي حلم I have a dream " جملة تكررت كثيراً في خطاب مؤثر دخل التاريخ الإنساني ، والأمريكي بالذات، من أوسع أبوابه. كان الخطيبُ القس الأمريكي مارتين لوثر كينج، المكان:العاصمة الأمريكية واشنطن، الزمان: يوم الثامن والعشرين من آب لعام 1963. وبعد أكثر من أربعين عاماً، أحيى الأمريكيون ذكرى اغتياله يوم أمس الأول الاثنين التاسع عشر من يناير. فقد جرت العادة في أمريكا أن تُحيى ذكراه يوم الاثنين الثالث من شهر يناير، والذي يكون كذلك يوم عطلة رسمية. أما تحقق ذلك الحلم، فلا شك أن معدلات التمييز ضد السود انخفضت بشكل كبير، إلا أن تقارير أخرى تشير إلى أوضاع مأساوية تعيشها بعض شرائح السود في أمريكا.
لكن أبرز تجليات ذلك الحلم الورديّ، كما يرى محللون كثيرون، كانت يوم أمس الثلاثاء العشرين من شهر يناير 2009، حيث نُصِّبَ باراك أوباما أول رئيس أمريكي أسود للبيت الأبيض، في توافق عجيب غريب للأيام..
ففي يوم تحيي أمريكا ذكرى الأسود الذي نادى بحقوق السود والأقليات، وفي اليوم التالي تنصب ذات الدولة رجلاً أسوداً ليقودها، لا بل ليقود العالم ! إنها الأيامُ دُول ! وما عليك إلا أن تبدأ بالحلم كما بدأ لوثر كينج..
كان مارتين لوثر كينج، المولود عام 1929 في مدينة أتلانتا الأمريكية، يحلم باليوم الذي يُقضى على التمييز بين أبناء الشعب الأمريكي حسب أصولهم وألوانهم. كان يحلم باليوم الذين يجلس فيه أبناء العبيد السود مع أبناء السادة البيض على "طاولة" الأخوة. كان يحلم باليوم الذي يُحكم فيه أطفاله الأربعة بناء على ما تحمله شخصياتهم، لا على ما تصطبغ به بشرتهم من لون.
كان لوثر كينج من أبرز المطالبين بالحقوق المدنية للأقليات والأفارقة السود في أمريكا، حيث كانوا يُستعبَدون ويُعامَلونَ بدونيةٍ شديدةٍ تجلّتْ حتى في استعمال وسائل النقل العامة التي قُصِرَتْ فيها المقاعدُ الأمامية على البيض والمقاعد الخلفية للسود. بل وصل الأمر أكثر من ذلك ! كان على السود أن يدفعوا أجرة السفر من باب الحافلة الأمامي، ومن ثم يخرجون منها، ليدخلوا إليها ثانية من الباب الخلفي !! ومن التمييز العنصري في الحافلات بدأت رحلة لوثر النضالية. ففي كانون الأول من عام 1955 رفضت سيدة سوداء إخلاء مقعدها في الحافلة لراكب أبيض، فألقي القبض عليها بتهمة مخالفة القانون، فكانت هذه الحادثة شرارة انطلاقة الثورة التي قادها ووجهها لوثر كينج !
متمثلاً السبيل الذي اتبعه المهاتما غاندي في الهند، نادى لوثر كينج بالمقاومة السلمية معتمداً على مبدأ "اللاعنف". فبدأ ذلك النضال بمقاطعة شركة الحافلات لعام كامل فتأثرت عائداتها بشكل كبير. وفي قرار تاريخي عام 1956 أعلنت المحكمة الإتحادية في مونتغمري عدم قانونية هذا التمييز العنصري في الحافلات. أما في عام 1957 حصل السود على حق الانتخاب لأول مرة في أمريكا. وهكذا أمضى لوثر كينج أيامه بنضاله السلمي محاولاً ترسيخ الحقوق المدنية للأقليات العرقية في أمريكا، فكان على رأس المظاهرات الشعبية يعبأ الجماهير ويتحدى القوانين. من ضمنها كانت أكبر مظاهرة في تاريخ الحقوق المدنية والتي ألقى فيها لوثر خطابه "عندي حلم". ولم يستطع لوثر كينج أن يجني ثمار حصاده في حياته ففي عام 1968 اغتيل على يد أحد المتعصبين البيض، فكان رجلاً عاش و حارب لأجل المساواة ومات لأجلها.
واليوم بعد ستة وأربعين عاماً على ذلك الخطاب الشهير يبدو أن الحلم تحقق بأكثر مما تمنى صاحبُهُ. ففي اليوم التالي لذكرى لوثر كينج، وبحضور حوالي مليوني شخص تحيطهم إجراءاتٌ أمنية مكثفة، تم تنصيب باراك أوباما (47 عاماً) ليكون أول رئيس أسود من أصول إفريقية لأقوى دول العالم. ذلك التزامن في التوقيت لم يكن وحده عجيباً في رمزيته ، بل حتى المكان كان كذلك. فقد تم التنصيب في مبنى الكابيتول والذي بُني بسواعد العبيد السود، وعلى مقربة من نصب إبراهيم لينكون الرئيس الأمريكي الذي ألغى الرق، وهو ذات النصب الذي ألقى من أمامه لوثر كينج خطابه "عندي حلم". عناصر كلها اجتمعت في ذلك الحدث فأضفت عليه معاني أخرى غير ما تحمله تعليقات الساسة والخبراء.
فبعيداً عن تلك التعليقات، وبعيداً عما يُعلقه العرب والمسلمون من آمال على الرئيس الرابع والأربعين لأمريكا كنتُ أعيش هذه الأجواء الاحتفالية من حولي، مرة بلوثر كينج، ومرة بأوباما وعهده الجديد، وأستمع إلى تعليقات الأمريكيين من حولي ، وفي عقلي صورةٌ لبقية شعب في الأرض المحتلة عاش وما زال يعيش سنواتٍ عجاف من الاحتلال والظلم . في كل يوم، يحلم أبناؤه بانتهاء هذا الكابوس المخيم على حياتهم بكل محاورها. كنتُ أحاول تطبيق النموذج الذي رأيتُه متمثلاً في هذين اليومين وسمعت عنه من الأمريكيين حولي على ما يحصل في بلادنا السليبة، وأقول لنفسي: إذن هو الحلم، بداية الطريق ! بغض النظر عن الظروف الأخرى المحيطة، يمكننا اعتبار اعتلاء أوباما الأفريقي الأصل عرش أقوى دولة في العالم، كانت في غابر الزمان تستعبد الأفارقة، نتاج مسيرة جماعيةٍ طويلةٍ ولا شك مرهقةٍ من النضال، لكنها بدأت بمجرد "حلم" بحقوق متساوية، بمجرد "تفكير" بمستقبل أفضل، بمجرد "إيمان" بنظرية إمكانية الفعل !
وهكذا هي غزة، وهكذا هي فلسطين، محطة من محطات النضال والصمود والمقاومة، محطة من الألم والحصار والمعاناة، لكنها ذات نهاية لا شك، مهما بعدت تلك النهاية عنا، إلا أنها آتية لا ريب. تغمرني مشاعر الثقة بأننا سنستذكر كما استذكر الأمريكيون لوثر كينج قبل أيام، واحتفلوا بتنصيب رئيس أسود في ذكراه، تماماً مثلهم، بعد سنوات، بعدت أم قربت، سنستذكر ما مرّ بالشعب الفلسطيني من أحداث جسام، يوم أن نعلن قيام دولة باسم فلسطين، لا تقتصر على بضعة أراضٍ في الضفة وغزة، وإنما تمتد من النهر إلى البحر، من لبنان شمالاً إلى مصر جنوباً ! هذه هي بداية الحلم، وهو محقق لا محال، يصاحبه إيمان راسخ وعمل دؤوب .. وما علينا بعد بدأ رسم خيوط ذلك الحلم إلا أن نستيقظ من سباتنا لنعمل على تحقيقه !
التعليقات (0)